سورة الكوثر وهي ثلاث آيات
بسم الله الرحمن الرحيم
(
إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر )
انحر : أمر من النحر ،
[ ص: 519 ] وهو ضرب النحر للإبل بما يفيت الروح من محدود ، الأبتر : الذي لا عقب له ، والبتر : القطع ، بترت الشيء : قطعته ، وبتر بالكسر فهو أبتر : انقطع ذنبه ، وخطب
زياد خطبته البتراء ، لأنه لم يحمد فيها الله تعالى ، ولا صلى على رسوله صلى الله عليه وسلم ، ورجل أباتر بضم الهمزة : الذي يقطع رحمه ، ومنه قول الشاعر :
لئيم بدت في أنفه خنزوانة على قطع ذي القربى أجذ أباتر
والبترية : قوم من
الزيدية نسبوا إلى
المغيرة بن سعد ، ولقبه
الأبتر ، والله تعالى أعلم .
(
إنا أعطيناك الكوثر فصل لربك وانحر إن شانئك هو الأبتر ) .
هذه السورة مكية في المشهور ، وقول الجمهور : مدنية في قول
الحسن وعكرمة وقتادة . ولما ذكر فيما قبلها وصف المنافق بالبخل وترك الصلاة والرياء ومنع الزكاة ، قابل في هذه السورة البخل بـ (
إنا أعطيناك الكوثر ) والسهو في الصلاة بقوله : ( فصل ) والرياء بقوله : ( لربك ) ومنع الزكاة بقوله : (
وانحر ) أراد به التصدق بلحم الأضاحي ، فقابل أربعا بأربع ، ونزلت في
العاصي بن وائل ، كان يسمي الرسول بالأبتر ، وكان يقول : دعوه إنما هو رجل أبتر لا عقب له ، لو هلك انقطع ذكره واسترحتم منه .
وقرأ الجمهور : (
أعطيناك ) بالعين ،
والحسن وطلحة وابن محيصن والزعفراني : أنطيناك بالنون ، وهي قراءة مروية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال
التبريزي : هي لغة للعرب العاربة من أولى
قريش ، ومن كلامه : (
اليد العلياء المنطية ، واليد السفلى المنطاة ) ومن كلامه أيضا عليه الصلاة والسلام : (
وأنطوا المنيحة ) ، وقال
الأعشى :
جيادك خير جياد الملوك تصان الحلال وتنطى السعيرا
قال
أبو الفضل الرازي ،
وأبو زكريا التبريزي : أبدل من العين نونا ، فإن عينا النون في هذه اللغة مكان العين في غيرها فحسن ، وإن عينا البدل الصناعي فليس كذلك ، بل كل واحد من اللغتين أصل بنفسها لوجود تمام التصرف من كل واحدة ، فلا يقول : الأصل العين ، ثم أبدلت النون منها .
وذكر في التحرير في الكوثر ستة وعشرين قولا ، والصحيح هو ما فسره به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10375018هو نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، ومجراه على الدر والياقوت ، تربته أطيب من المسك ، وماؤه أحلى من العسل وأبيض من الثلج ) . قال
الترمذي : هذا حديث حسن صحيح ، وفي صحيح
مسلم ، واقتطعنا منه ، قال : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10375019أتدرون ما الكوثر ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم . قال : نهر وعدنيه ربي عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة ، آنيته عدد النجوم ) انتهى . قال ذلك عليه الصلاة والسلام عندما نزلت هذه السورة وقرأها .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : الكوثر : الخير الكثير ، وقيل
nindex.php?page=showalam&ids=13033لابن جبير : إن ناسا يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : هو من الخير الكثير ، وقال
الحسن : الكوثر : القرآن ، وقال
أبو بكر بن عباس ،
ويمان بن وثاب : كثرة الأصحاب والأتباع . وقال
هلال بن يساف : هو التوحيد ، وقال جعفر الصادق : نور قلبه دله على الله تعالى وقطعه عما سواه ، وقال
عكرمة : النبوة ، وقال
الحسن بن الفضل : تيسير القرآن وتخفيف الشرائع ، وقال
ابن كيسان : الإيثار ، وينبغي حمل هذه الأقوال على التمثيل ، لا أن الكوثر منحصر في واحد منها ، والكوثر فوعل من الكثرة ، وهو المفرط
[ ص: 520 ] الكثرة ، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك ؟ قالت : آب بكوثر ، وقال الشاعر :
وأنت كثير يابن مروان طيب وكان أبوك ابن العقائل كوثرا
(
فصل لربك وانحر ) الظاهر أن ( فصل ) أمر بالصلاة يدخل فيها المكتوبات والنوافل ، والنحر : نحر الهدي والنسك والضحايا ، قاله الجمهور ، ولم يكن في ذلك الوقت جهاد فأمر بهذين ، قال
أنس : كان ينحر يوم الأضحى قبل الصلاة ، فأمر أن يصلي وينحر ، وقاله
قتادة . وقال
ابن جبير : نزلت وقت صلح الحديبية ، قيل له : صل وانحر الهدي ، فعلى هذا الآية من المدني ، وفي قوله : ( لربك ) تنذير بالكفار حيث كانت صلاتهم مكاء وتصدية ، ونحرهم للأصنام ، وعن
علي رضي الله تعالى عنه : صل لربك وضع يمينك على شمالك عند نحرك في الصلاة . وقيل : ارفع يديك في استفتاح صلاتك عند نحرك . وعن
عطية وعكرمة : هي صلاة الفجر بجمع ، والنحر
بمنى . وقال
الضحاك : استو بين السجدتين جالسا حتى يبدو نحرك . وقال
أبو الأحوص : استقبل القبلة بنحرك .
(
إن شانئك ) أي مبغضك ، تقدم أنه
العاصي بن وائل ، وقيل :
أبو جهل ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : لما مات
إبراهيم ابن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خرج
أبو جهل إلى أصحابه فقال : بتر
محمد ، فأنزل الله تعالى : (
إن شانئك هو الأبتر ) . وقال
شمر بن عطية : هو عقبة بن أبي معيط ، وقال
قتادة : الأبتر هنا يراد به الحقير الذليل ، وقرأ الجمهور : (
شانئك ) بالألف ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس : ( شينك ) بغير ألف ، فقيل : مقصور من شاني ، كما قالوا : برر وبر في بارر وبار ، ويجوز أن يكون بناء على فعل ، وهو مضاف للمفعول إن كان بمعنى الحال أو الاستقبال ، وإن كان بمعنى الماضي فتكون إضافته لا من نصب على مذهب البصريين ، وقد قالوا : حذر أمورا ومزقون عرضي ، فلا يستوحش من كونه مضافا للمفعول ، وهو مبتدأ ، والأحسن الأعرف في المعنى أن يكون فصلا ، أي هو المنفرد بالبتر المخصوص به لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجميع المؤمنين أولاده ، وذكره مرفوع على المنائر والمنابر ، ومسرود على لسان كل عالم وذاكر إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله تعالى ويثنى بذكره ، وله في الآخرة ما لا يدخل تحت الوصف صلى الله عليه وسلم ، وعلى آله وشرف وكرم .