(
فعدة من أيام أخر ) قراءة الجمهور برفع " عدة " على أنه مبتدأ محذوف الخبر ، وقدر قبل ، أي : فعليه عدة ، وبعد ، أي : أمثل له ، أو خبر مبتدأ محذوف ، أي : فالواجب ، أو : فالحكم عدة . وقرئ " فعدة " بالنصب على إضمار فعل ، أي : فليصم عدة ، وعدة هنا بمعنى معدود ، كالرعي
[ ص: 33 ] والطحن ، وهو على حذف مضاف ، أي : فصوم عدة ما أفطر ، وبين الشرط وجوابه محذوف به يصح الكلام ، والتقدير : فأفطر فعدة ، ونظيره في الحذف : (
أن اضرب بعصاك البحر فانفلق ) أي : فضرب فانفلق . ونكر ( عدة ) ولم يقل - فعدتها - أي : فعدة الأيام التي أفطرت اجتزاء ، إذ المعلوم أنه لا يجب عليه عدة غير ما أفطر فيه مما صامه ، والعدة هي المعدود ، فكان التنكير أخصر ، و (
من أيام ) في موضع الصفة لقوله فعدة ، وأخر : صفة لأيام ، وصفة الجمع الذي لا يعقل تارة يعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، وتارة يعامل معاملة جمع الواحدة المؤنثة . فمن الأول : (
إلا أياما معدودة ) ، ومن الثاني : (
إلا أياما معدودات ) ، فـ "
معدودات " : جمع لمعدودة . وأنت لا تقول : يوم معدودة ، إنما تقول معدود : لأنه مذكر ، لكن جاز ذلك في جمعه ، وعدل عن أن يوصف الأيام بوصف الواحدة المؤنثة ، فكان يكون : من أيام أخرى ، وإن كان جائزا فصيحا كالوصف بأخر : لأنه كان يلبس أن يكون صفة لقوله ( فعدة ) ، فلا يدرى أهو وصف لعدة ، أم لأيام ، وذلك لخفاء
[ ص: 34 ] الإعراب لكونه مقصورا ، بخلاف : ( أخر ) ، فإنه نص في أنه صفة لأيام ، لاختلاف إعرابه مع إعراب " فعدة " ، أفلا ينصرف للعلة التي ذكرت في النحو ، وهي جمع أخرى مقابلة أخر ، وأخر مقابل آخرين ، لا جمع أخرى لمعنى أخرة ، مقابلة الأخر المقابل للأول ، فإن أخر تأنيث أخرى لمعنى أخرة مصروفة . وقد اختلفا حكما ومدلولا . أما اختلاف الحكم : فلأن تلك غير مصروفة ، وأما اختلاف المدلول : فلأن مدلول أخرى ، التي جمعها أخر التي لا تنصرف ، مدلول غير ، ومدلول أخرى التي جمعها ينصرف مدلول متأخرة ، وهي قابلة الأولى . قال تعالى : (
قالت أولاهم لأخراهم ) فهي بمعنى : الآخرة ، كما قال تعالى : (
وإن لنا للآخرة والأولى ) ، وأخر الذي مؤنثه أخرى مفرده آخر التي لا تنصرف بمعنى غير ، لا يجوز أن يكون ما اتصل به إلا من جنس ما قبله ، تقول : مررت بك وبرجل آخر ، ولا يجوز : اشتريت هذا الفرس وحمارا آخر : لأن الحمار ليس من جنس الفرس ، فأما قوله :
صلى على عزة الرحمان وابنتها ليلى ، وصلى على جاراتها الأخر
فإنه جعل ابنتها جارة لها ، ولولا ذلك لم يجز ، وقد أمعنا الكلام على مسألة أخرى في كتابنا ( التكميل ) .
قالوا : واتفقت الصحابة ومن بعدهم من التابعين ، وفقهاء الأمصار على جواز الصوم للمسافر ، وأنه لا قضاء عليه إذا صام : لأنهم كما ذكرنا ، قدروا حذفا في الآية ، والأصل أن لا حذف ، فيكون الظاهر أن الله تعالى أوجب على المريض والمسافر عدة من أيام أخر ، فلو صاما لم يجزهما ، ويجب عليهما صوم عدة ما كانا فيه من الأيام الواجب صومها على غيرهما . قالوا : وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=3أبي هريرة أنه قال : من صام في السفر فعليه القضاء ، وتابعه عليه شواذ من الناس ، ونقل ذلك
ابن عطية عن
عمر وابنه
عبد الله ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أن الفطر في السفر عزيمة ، ونقل غيره عن
nindex.php?page=showalam&ids=38عبد الرحمن بن عوف : الصائم في السفر كالمفطر في الحضر ، وقال به قوم من أهل الظاهر ، وفرق
nindex.php?page=showalam&ids=13064أبو محمد بن حزم بين المريض والمسافر ، فقال فيما لخصناه في كتابنا المسمى بـ - الأنوار الأجلى في اختصار المحلى - ما نصه : ويجب على من سافر ولو عاصيا ميلا فصاعدا الفطر إذا فارق البيوت في غير رمضان ، وليفطر المريض ويقضي بعد ، ويكره صومه ويجزئ ، وحجج هذه الأقوال في كتب الفقه . وثبت بالخبر المستفيض أن النبي - صلى الله عليه وسلم -
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373898صام في السفر ، وروى ذلك عنه
nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء ،
وسلمة بن المحنق ،
وأبو سعيد ،
وجابر ،
وأنس ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس عنه إباحة الصوم والفطر في السفر ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373899بقوله لحمزة بن عمرو الأسلمي وقد قال : أصوم في السفر ؟ قال : " إن شئت فصم ، وإن شئت فأفطر " وعلى قول الجمهور : أن ثم محذوفا ، وتقديره : فأفطر ، وأنه يجوز للمسافر أن يفطر وأن يصوم .
واختلفوا في الأفضل ، فذهب
أبو حنيفة وأصحابه ،
ومالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في بعض ما روي عنهما : إلى أن الصوم أفضل ، وبه قال من الصحابة :
nindex.php?page=showalam&ids=61عثمان بن أبي العاص الثقفي ،
nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس بن مالك . قال
ابن عطية : وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=9أنس بن مالك إلى الصوم ، وقال : إنما نزلت الرخصة ونحن جياع نروح إلى جوع ، وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
وأحمد ،
وإسحاق إلى أن الفطر أفضل ، وبه قال من الصحابة
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس . ومن التابعين :
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز ،
ومجاهد ،
وقتادة . قال
ابن عطية : وقال
مجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=16673وعمر بن عبد العزيز وغيرهما : أيسرهما أفضلهما . وكره
nindex.php?page=showalam&ids=12251ابن حنبل الصوم في السفر ، ولو صام في السفر ثم أفطر من غير عذر فعليه القضاء فقط ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
وأبو حنيفة ، وزاد
الليث ، والكفارة . وعن
مالك القولان .
ولو أفطر مسافر ثم قدم من يومه ، أو حائض ثم طهرت في بعض النهار ، فقال
جابر بن يزيد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
ومالك فيما رواه
ابن القاسم : يأكلان ولا يمسكان ، وقال
أبو حنيفة ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=14117والحسن بن صالح ،
وعبد الله بن الحسن : يمسكان بقية يومها عن ما يمسك عنه الصائم ، وقال
ابن شبرمة في
[ ص: 35 ] المسافر : يمسك ويقضي ، وفي الحائض : إن طهرت تأكل .
والظاهر من قوله :
فعدة ، أنه يلزمه عدة ما أفطر فيه ، فلو كان الشهر الذي أفطر فيه تسعة وعشرين يوما ، قضى تسعة وعشرين يوما ، وبه قال جمهور العلماء ، وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=14117الحسن بن صالح إلى أنه يقضي شهرا بشهر من غير مراعاة عدد الأيام . وروي عن
مالك أنه يقضي بالأهلة ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري أنه يقضي شهرا تسعة وعشرين يوما وإن كان رمضان ثلاثين ، وهو خلاف الظاهر ، وخلاف ما أجمعوا عليه من أنه إذا كان ما أفطر فيه بعض رمضان ، فإنه يجب القضاء بالعدد ، فكذلك يجب أن يكون قضاء جميعه باعتبار العدد ، وظاهر قوله تعالى : (
فعدة من أيام أخر ) أنه لا يلزمه التتابع ، وبه قال جمهور العلماء من الصحابة والتابعين وفقهاء الأمصار . وروي عن
علي ،
ومجاهد ،
وعروة : أنه لا يفرق ، وفي قراءة
أبي : " فعدة من أيام أخر متتابعات " ، وظاهر الآية : أنه لا يتعين الزمان ، بل تستحب المبادرة إلى القضاء . وقال
داود : يجب عليه القضاء ثاني شوال ، فلو لم يصمه ثم مات أثم ، وهو محجوج بظاهر الآية ، وبما ثبت في الصحيح عن
عائشة قالت : كان يكون علي الصوم من رمضان فلا أستطيع أن أقضيه ، إلا في شعبان لشغل من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو برسول الله - صلى الله عليه وسلم . وظاهر الآية أنه :
من أخر القضاء حتى دخل رمضان آخر ، أنه لا يجب عليه إلا القضاء فقط عن الأول ، ويصوم الثاني . وبه قال
الحسن ،
والنخعي ،
وأبو حنيفة ،
وداود ،
ومالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وأحمد ،
وإسحاق ، يجب عليه الفدية مع القضاء .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17299يحيى بن أكثم القاضي روي وجوب الإطعام عن ستة من الصحابة ، ولم أجد لهم من الصحابة مخالفا . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أنه لا قضاء عليه إذا فرط في رمضان الأول ، ويطعم عن كل يوم منه مدا من بر ، ويصوم رمضان الثاني . ومن أخر قضاء رمضان حتى مات ، فقال
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : لا يصوم أحد عن أحد لا في رمضان ولا في غيره . وقال
الليث ،
وأحمد ،
وإسحاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ،
وأبو عبيد ، وأهل الظاهر : يصام عنه ، وخصصوه بالنذر . وقال
أحمد ،
وإسحاق : يطعم عنه في قضاء رمضان .