صفحة جزء
( وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى ) . قال البراء بن عازب ، والزهري ، وقتادة ، سبب نزولها أن الأنصار كانوا إذا حجوا واعتمروا يلتزمون شرعا أن لا يحول بينهم وبين السماء حائل ، فكانوا يتسنمون ظهور بيوتهم على الجدران ، وقيل : كانوا في الجاهلية وفي بدء الإسلام ، إذا أحرم أحدهم بحج أو عمرة لم يأت حائطا ولا بيتا ، ولا دارا من بابه ، فإن كان من أهل المدينة نقب في ظهر بيته نقبا يدخل منه ويخرج ، أو ينصب سلما يصعد منه ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخيمة والفسطاط ، ولا يدخل ولا [ ص: 63 ] يخرج من الباب حتى يحل إحرامه ، ويرون ذلك برا إلا أن يكون ذلك من الحمس ، وهم : قريش ، وكنانة ، وخزاعة ، وثقيف ، وخثعم ، وبنو عامر بن صعصعة ، وبنو نصر بن معاوية . فدخل النبي - صلى الله عليه وسلم - ومعه رجل منهم ، فوقف ذلك الرجل وقال : إني أحمس ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " وأنا أحمس " . فنزلت . ذكر هذا مختصرا السدي .

وروى الربيع أن النبي - صلى الله عليه وسلم - دخل وخلفه رجل من الأنصار ، فدخل وخرق عادة قومه ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : " لم دخلت وأنت قد أحرمت " ؟ قال : دخلت أنت فدخلت بدخولك ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : " إني أحمس ، إني من قوم لا يدينون بذلك " ، فقال الرجل : وأنا ديني دينك فنزلت . وقال إبراهيم : كان يفعل ما ذكر قوم من أهل الحجاز ، وقيل : كان الخارج لحاجة لا يعود من بابه مخافة التطير بالخيبة ، ويبقى كذلك حولا كاملا . وملخص هذه الأسباب أن الله تعالى أنزل هذه الآية : رادا على من جعل إتيان البيوت من ظهورها برا ، آمرا بإتيان البيوت من أبوابها ، وهذه أسباب تظافرت على أن البيوت أريد بها الحقيقة ، وأن الإتيان هو المجيء إليها ، والحمل على الحقيقة أولى من ادعاء المجاز مع مخالفة ما تظافر من هذه الأسباب . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر أن الأهلة مواقيت للحج : استطرد إلى ذكر شيء كانوا يفعلونه في الحج زاعمين أنه من البر ، فبين لهم أن ذلك ليس من البر ، وإنما جرت العادة به قبل الحج أن يفعلوه في الحج ، ولما ذكر سؤالهم عن الأهلة بسبب النقصان والزيادة ، وما حكمة ذلك ، وكان من المعلوم أنه تعالى حكيم ، فأفعاله جارية على الحكمة ، رد عليهم بأن ما يفعلونه من إتيان البيوت من ظهورها ، إذا أحرموا ليس من الحكمة في شيء ، ولا من البر ، أو لما وقعت القصتان في وقت واحد نزلت الآية فيهما معا ، ووصل إحداهما بالأخرى .

وأما حمل الإتيان والبيوت على المجاز ففيه أقوال . أحدهما : أن ذلك ضرب مثل : المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ، ولكن اتقوا واسألوا العلماء . فهذا كما يقال : أتيت الأمر من بابه ، قاله أبو عبيدة . الثاني : أنه ذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا لمخالفة الواجب في الحج ، وذلك ما كانوا يعملونه في النسيء ، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله تعالى ، فيحرمون الحلال ويحلون الحرام ، فضرب مثلا للمخالفة ، وقيل : واتقوا الله تحت إتيان كل واجب في اجتناب كل محرم . قاله أبو مسلم . الثالث : أن إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق الصحيح ، وذلك أن الطريق المستقيم أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، وقد ثبت أن الصانع حكيم لا يفعل إلا الصواب ، وقد عرفنا أن اختلاف أحوال القمر في نوره من فعله ، فيعلم أن فيه مصلحة وحكمة ، فهذا استدلال بالمعلوم على المجهول . أما أن نستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بحكيم ، فهذا استدلال بالمجهول على المعلوم ، فالمعنى : أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف القمر ، صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم ما تظنونه برا ، إنما البر أن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم ، وهو حكمة الخالق على المجهول ، فتقطعوا أن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمون ، قاله في ( ري الظمآن ) ، وهو قول ملفق من كلام الزمخشري .

قال الزمخشري : ويحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم ، وأن مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت ويدخله من ظهره ، والمعنى : ليس البر ، وما ينبغي أن يكونوا عليه ، بأن تعكسوا في مسائلكم ، ولكن البر بر من اتقى ذلك وتجنبه ، ولم يجسر على مثله . ثم قال : ( وأتوا البيوت من أبوابها ) أي : وباشروا الأمور من وجوهها التي يجب أن تباشر عليها ، ولا تعكسوا ، والمراد وجوب توطيء النفوس ، وربط القلوب على أن جميع أفعال الله حكمة وصواب من غير اختلاج شبهة ، ولا اعتراض شك في ذلك ، حتى لا يسأل عنه [ ص: 64 ] لما في السؤال من الاتهام بمقارفة الشك ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) . انتهى كلامه . وحكى هذا القول مختصرا ابن عطية ، فقال : وقال غير أبي عبيدة : ليس البر أن تشذوا في الأسئلة عن الأهلة وغيرها ، فتأتون الأمور على غير ما تحب الشرائع .

أنه كنى بالبيوت عن النساء ، الإيواء إليهن كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن ، وأتوهن من حيث يحل من قبلهن . قاله ابن زيد ، وحكاه مكي ، والمهدوي عن ابن الأنباري . وقال ابن عطية : كونه في جماع النساء بعيد مغير نمط الكلام ، انتهى .

والباء في : " بأن تأتوا " زائدة في خبر ليس ، و " بأن تأتوا " خبر ليس ، ويتقدر بمصدر ، وهو من الإخبار بالمعنى عن المعنى ، وبالأعرف عما دونه في التعريف : لأن " أن " وصلتها ، عندهم بمنزلة الضمير . وقرأ ابن كثير ، وابن عامر ، والكسائي ، وقالون ، وعباس ، عن أبي عمرو : والعجلي عن حمزة : والشموني عن الأعشى ، عن أبي بكر " البيوت " بالكسر : حيث وقع ذلك لمناسبة الياء ، والأصل هو الضم : لأنه على وزن فعول ، وبه قرأ باقي السبعة و " من " متعلقة بـ " تأتوا " وهي لابتداء الغاية ، والضمير في " أبوابها " عائد على البيوت . وعاد كضمير المؤنث الواحدة : لأن البيوت جمع كثرة ، وجمع المؤنث الذي لا يعقل فرق فيه بين قليله وكثيره ، فالأفصح في قليله أن يجمع الضمير ، والأفصح في كثيره أن يفرد ، كهو في ضمير المؤنث الواحدة ، ويجوز العكس . وأما جمع المؤنث الذي يعقل فلم تفرق العرب بين قليله وكثيره ، والأفصح أن يجمع الضمير . ولذلك جاء في القرآن : ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) ونحوه ، ويجوز أن يعود كما يعود على المؤنث الواحد وهو فصيح .

التالي السابق


الخدمات العلمية