(
أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون ) أولئك المتقدمة ، وأولئك المتأخرة ، والواو مقحمة ، وهذا الأخير إعراب منكر لا يليق مثله بالقرآن ، والمختار في الإعراب الجر على النعت ، والقطع إما للنصب وإما للرفع ، وهذه الصفة جاءت للمدح . وقرأ الجمهور : يؤمنون ، بالهمزة ساكنة بعد الياء ، وهي فاء الكلمة ، وحذف همزة أفعل حيث وقع ذلك
nindex.php?page=showalam&ids=17274ورش وأبو عمرو ، وإذا أدرج بترك الهمز ، وروي هذا عن
عاصم ، وقرأ
رزين بتحريك الهمزة مثل : يؤخركم ، ووجه قراءته أنه حذف الهمزة التي هي فاء الكلمة لسكونها ، وأقر همزة أفعل لتحركها وتقدمها واعتلالها في الماضي والأمر ، والياء مقوية لوصول الفعل إلى الاسم ، كمررت بزيد ، فتتعلق بالفعل ، أو للحال فتتعلق بمحذوف ، أي ملتبسين بالغيب عن المؤمن به ، فيتعين في هذا الوجه المصدر ، وأما إذا تعلق بالفعل فعلى معنى الغائب أطلق المصدر وأريد به اسم الفاعل ، قالوا : وعلى معنى الغيب أطلق المصدر وأريد به اسم المفعول ، نحو : هذا خلق لله ، ودرهم ضرب الأمير ، وفيه نظر لأن الغيب مصدر غاب اللازم ، أو على التخفيف من غيب كلين ، فلا يكون إذ ذاك مصدرا ، وذلك على مذهب من أجاز التخفيف ، وأجاز ذلك في الغيب
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، ولا يصار إلى ذلك حتى يسمع منقولا من كلام العرب . والغيب هنا القرآن ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16273عاصم بن أبي النجود ، أو ما لم ينزل منه ، قاله
الكلبي ، أو كلمة التوحيد وما جاء به
محمد - صلى الله عليه وسلم - قاله
الضحاك ، أو علم الوحي ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=15916وزر بن حبيش nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج وابن وافد ، أو أمر الآخرة ، قاله
الحسن ، أو ما غاب من علوم القرآن ، قاله
عبد الله بن هانئ ، أو الله - عز وجل - قاله
عطاء nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ، أو ما غاب عن الحواس مما يعلم بالدلالة ، قاله
ابن عيسى ، أو القضاء والقدر ، أو معنى بالغيب بالقلوب ، قاله
الحسن ، أو ما أظهره الله على أوليائه من الآيات والكرامات ، أو المهدي المنتظر ، قاله بعض
الشيعة ، أو متعلق بما أخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم - من تفسير الإيمان حين سئل عنه وهو : الله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر والقدر خيره وشره ، وإياه نختار لأنه شرح حال المتقين بأنهم الذين يؤمنون بالغيب . والإيمان المطلوب شرعا هو ذاك ، ثم إن هذا تضمن الاعتقاد القلبي ، وهو الإيمان بالغيب ، والفعل البدني ، وهو الصلاة وإخراج المال . وهذه الثلاثة هي عمد أفعال المتقي ، فناسب أن يشرح الغيب بما ذكرنا ، وما فسر به الإقامة قبل يصلح أن يفسر به قوله : (
ويقيمون الصلاة ) ، وقالوا : وقد يعبر بالإقامة عن الأداء ، وهو فعلها في الوقت المحدود لها ، قالوا : لأن القيام بعض أركانها ، كما عبر عنه بالقنوت ، والقنوت القيام بالركوع والسجود . قالوا : سبح إذا صلى لوجود التسبيح فيها ، (
فلولا أنه كان من المسبحين ) ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، ولا يصح إلا بارتكاب مجاز بعيد ، وهو أن يكون الأصل قامت الصلاة بمعنى أنه كان منها قيام ثم دخلت الهمزة للتعدية فقلت : أقمت الصلاة ، أي جعلتها تقوم ، أي يكون منها القيام ، والقيام حقيقة من المصلي لا من الصلاة ، فجعل منها على المجاز إذا كان من فاعلها . والصلاة هنا الصلوات الخمس ، قاله
مقاتل ، أو الفرائض والنوافل ، قاله الجمهور . والرزق قيل : هو الحلال ، قاله أصحابنا ، لكن المراد هنا الحلال لأنه في معرض وصف المتقي . ومن كتبت متصلة بما محذوفة النون من الخط ، وكان حقها أن تكون منفصلة لأنها موصولة بمعنى الذي ، لكنها وصلت لأن الجار والمجرور كشيء واحد ، ولأنها قد أخفيت نون من في اللفظ فناسب حذفها في الخط ، وهنا للتبعيض ، إذ المطلوب ليس إخراج جميع ما رزقوا لأنه منهي عن التبذير
[ ص: 41 ] والإسراف . والنفقة التي في الآية هي الزكاة الواجبة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو نفقة العيال ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، أو التطوع قبل فرض الزكاة قاله
الضحاك ، معناه أو النفقة في الجهاد أو النفقة التي كانت واجبة قبل وجوب الزكاة ، وقالوا : إنه كان الفرض على الرجل أن يمسك مما في يده بمقدار كفايته في يومه وليلته ويفرق باقيه على الفقراء ، ورجح كونها الزكاة المفروضة لاقترانها بأختها الصلاة في عدة مواضع من القرآن والسنة ، ولتشابه أوائل هذه السورة بأول سورة النمل وأول سورة لقمان ، ولأن الصلاة طهرة للبدن ، والزكاة طهرة للمال والبدن ، ولأن الصلاة شكر لنعمة البدن ، والزكاة شكر لنعمة المال ، ولأن أعظم ما لله على الأبدان من الحقوق الصلاة ، وفي الأموال الزكاة ، والأحسن أن تكون هذه الأقوال تمثيلا للمتفق لا خلافا فيه . وكثيرا ما نسب الله الرزق لنفسه حين أمر بالإنفاق أو أخبر به ، ولم ينسب ذلك إلى كسب العبد ليعلم أن الذي يخرجه العبد ويعطيه هو بعض ما أخرجه الله له ونحله إياه ، وجعل صلات الذين أفعالا مضارعة ، ولم يجعل الموصول أل فيصله باسم الفاعل لأن المضارع فيما ذكر البيانيون مشعر بالتجدد والحدوث بخلاف اسم الفاعل ; لأنه عندهم مشعر بالثبوت ، والأمدح في صفة المتقين تجدد الأوصاف ، وقدم المنفق منه على الفعل اعتناء بما خول الله به العبد وإشعارا أن المخرج هو بعض ما أعطى العبد ، ولتناسب الفواصل وحذف الضمير العائد على الموصول لدلالة المعنى عليه ، أي ومما رزقناهموه ، واجتمعت فيه شروط جواز الحذف من كونه متعينا للربط معمولا لفعل متصرف تام . وأبعد من جعل ( ما ) نكرة موصوفة وقدر ومن شيء رزقناهموه لضعف المعنى بعد عموم المرزوق الذي ينفق منه فلا يكون فيه ذلك التمدح الذي يحصل بجعل ما موصولة لعمومها ، ولأن حذف العائد على الموصول أو جعل ما مصدرية ، فلا يكون في رزقناهم ضمير محذوف بل ما مع الفعل بتأويل المصدر ، فيضطر إلى جعل ذلك المصدر المقدر بمعنى المفعول ; لأن نفس المصدر لا ينفق منه إنما ينفق من المرزوق ، وترتيب الصلاة على حسب الإلزام . فالإيمان بالغيب لازم للمكلف دائما ، والصلاة لازمة في أكثر الأوقات ، والنفقة لازمة في بعض الأوقات ، وهذا من باب تقديم الأهم فالأهم .
الإنزال : الإيصال والإبلاغ ، ولا يشترط أن يكون من أعلى ، (
فإذا نزل بساحتهم ) أي وصل وحل ، إلى حرف جر معناه انتهاء الغاية وزيد كونها للمصاحبة وللتبيين ولموافقة اللام وفي ومن ، وأجاز
الفراء زيادتها ، ( مثل ذلك ) سرت إلى الكوفة ، (
ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم ) ، (
السجن أحب إلي ) ، (
والأمر إليك ) ،
كأنني إلى الناس مطلبي
، أي في الناس .
أيسقي فلا يروي إلى ابن أحمرا
، أي متى تهوي إليهم في قراءة من قرأ بفتح الواو ، أي تهواهم ، وحكمها في ثبوت الفاء ، وقلبها حكم على ، وقد تقدم . والكاف المتصلة بها ضمير المخاطب المذكر ، وتكسر للمؤنث ، ويلحقها ما يلحق أنت في التثنية والجمع دلالة عليهما ، وربما فتحت للمؤنث ، أو اقتصر عليها مكسورة في جمعها نحو :
ولست بسائل جارات بيتي أغياب رجالك أم شهود
قبل وبعد ظرفا زمان وأصلهما الوصف ولهما أحكام تذكر في النحو ، ومدلول قبل متقدم ، كما أن مدلول بعد متأخر . الآخرة تأنيث الآخر مقابل الأول ، وأصل الوصف (
تلك الدار الآخرة ) ، (
ولدار الآخرة ) ، ثم صارت من الصفات الغالبة ، والجمهور على تسكين لام التعريف وإقرار الهمزة التي تكون بعدها للقطع ،
nindex.php?page=showalam&ids=17274وورش يحذف وينقل الحركة إلى اللام . الإيقان : التحقق للشيء لسكونه ووضوحه ، يقال : يقن الماء سكن وظهر ما تحته ، وأفعل بمعنى استفعل كأبل بمعنى استبل . وقرأ الجمهور : (
بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك ) مبنيا للمفعول ، وقرأهما
النخعي وأبو حيوة ويزيد بن قطيب مبنيا للفاعل . وقرئ شاذا بما أنزل إليك بتشديد اللام ، ووجه ذلك أنه أسكن لام أنزل كما أسكن
وضاح آخر الماضي في قوله :
[ ص: 42 ] إنما شعري قيد قد خلط بخلجان
ثم حذف همزة إلى ونقل كسرتها إلى لام أنزل فالتقى المثلان من كلمتين ، والإدغام جائز فأدغم . وقرأ الجمهور : يوقنون بواو ساكنة بعد الياء وهي مبدلة من ياء لأنه من أيقن . وقرأ
أبو حية النمري بهمزة ساكنة بدل الواو ، كما قال الشاعر :
لحب المؤقدان إلي موسى وجعدة إذ أضاءهما الوقود
وذكر أصحابنا أن هذا يكون في الضرورة ، ووجهت هذه القراءة بأن هذه الواو لما جاورت المضموم فكأن الضمة فيها ، وهم يبدلون من الواو المضمومة همزة ، قالوا : وفي وجوه ووقتت أجوه وأقتت ، فأبدلوا من هذه همزة ، إذ قدروا الضمة فيها ، وإعادة الموصول بحرف العطف يحتمل المغايرة في الذات وهو الأصل ، فيحتمل أن يراد مؤمنو أهل الكتاب لإيمانهم بكل وحي ، فإن جعلت الموصول معطوفا على الموصول اندرجوا في جملة المتقين ، إن لم يرد بالمتقين بوصفه مؤمنو العرب ، وذلك لانقسام المتقين إلى القسمين . وإن جعلته معطوفا على المتقين لم يندرج لأنه إذ ذاك قسيم لمن له الهدى لا قسم من المتقين . ويحتمل المغايرة في الوصف ، فتكون الواو للجمع بين الصفات ، ولا تغاير في الذاوت بالنسبة للعطف وحذف الفاعل في قراءة الجمهور ، وبني الفعلان للمفعول للعلم بالفاعل ، نحو : أنزل المطر ، وبناؤهما للفاعل في قراءة
النخعي وأبي حيوة ويزيد بن قطيب ، فاعله مضمر ، قيل : الله أو
جبريل . قالوا : وقوة الكلام تدل على ذلك وهو عندي من الالتفات لأنه تقدم قوله : (
ومما رزقناهم ) ، فخرج من ضمير المتكلم إلى ضمير الغيبة ، إذ لو جرى على الأول لجاء بما أنزلنا إليك ، وما أنزلنا من قبلك ، وجعل صلة ما الأولى ماضية لأن أكثره كان نزل
بمكة والمدينة ، فأقام الأكثر مقام الجميع ، أو غلب الموجود لأن الإيمان بالمتقدم الماضي يقتضي الإيمان بالمتأخر ، لأن موجب الإيمان واحد . وأما صلة الثانية فمتحققة المضي ولم يعد حرف الجر في ( ما ) الثانية ليدل أنه إيمان واحد ، إذ لو أعاد لأشعر بأنهما إيمانان .
وبالآخرة : تقدم أن المعني بها الدار الآخرة للتصريح بالموصوف في بعض الآي ، وحمله بعضهم على النشأة الآخرة ، إذ قد جاء أيضا مصرحا بهذا الموصوف ، وكلاهما يدل على البعث . وأكد أمر الآخرة بتعلق الإيقان بها الذي هو أجلى وآكد مراتب العلم والتصديق ، وإن كان في الحقيقة لا تفاوت في العلم والتصديق دفعا لمجاز إطلاق العلم ، ويراد به الظن ، فذكر أن الإيمان والعلم بالآخرة لا يكون إلا إيقانا لا يخالطه شيء من الشك والارتياب . وغاير بين الإيمان بالمنزل والإيمان بالآخرة في اللفظ لزوال كلفة التكرار ، وكان الإيقان هو الذي خص بالآخرة لكثرة غرائب متعلقات الآخرة ، وما أعد فيها من الثواب والعقاب السرمديين ، وتفصيل أنواع التنعيم والتعذيب ، ونشأة أصحابها على خلاف النشأة الدنيوية ورؤية الله - تعالى - . فالآخرة أغرب في الإيمان بالغيب من الكتاب المنزل ، فلذلك خص بلفظ الإيقان ، ولأن المنزل إلى الرسول مشاهد أو كالمشاهد ، والآخرة غيب صرف ، فناسب تعليق اليقين بما كان غيبا صرفا . قالوا : والإيقان هو العلم الحادث سواء كان ضروريا أو استدلاليا ، فلذلك لا يوصف به الباري - تعالى - ليس من صفاته الموقن ، وقدم المجرور اعتناء به ولتطابق الأواخر . وإيراد هذه الجملة اسمية وإن كانت الجملة معطوفة على جملة فعلية آكد في الإخبار عن هؤلاء بالإيقان ، لأن قولك : زيد فعل آكد من فعل زيد لتكرار الاسم في الكلام بكونه مضمرا ، وتصديره مبتدأ يشعر بالاهتمام بالمحكوم عليه ، كما أن التقديم للفعل مشعر بالاهتمام بالمحكوم به . وذكر لفظة هم في قوله : (
هم يوقنون ) ، ولم يذكر لفظة هم في قوله : (
ومما رزقناهم ينفقون ) لأن وصف إيقانهم بالآخرة أعلى من وصفهم بالإنفاق ، فاحتاج هذا إلى التوكيد ولم يحتج ذلك إلى تأكيد ، ولأنه لو ذكرهم هناك لكان فيه قلق لفظي ، إذ كان يكون ومما رزقناهم هم ينفقون . أولئك : اسم إشارة
[ ص: 43 ] للجمع يشترك فيه المذكر والمؤنث . والمشهور عند أصحابنا أنه للرتبة القصوى كأولى لك ، وقال بعضهم : هو للرتبة الوسطى ، قاسه على ذا ، حين لم يزيدوا في الوسطى عليه غير حرف الخطاب ، بخلاف أولى لك . ويضعف قوله كون هاء التنبيه لا تدخل عليه . وكتبوه بالواو فرقا بينه وبين إليك ، وبني لافتقاره إلى حاضر يشار إليه به ، وحرك لالتقاء الساكنين ، وبالكسر على أصل التقائهما . الفلاح : الفوز والظفر بإدراك البغية ، أو البقاء ، قيل : وأصله الشق والقطع :
إن الحديد بالحديد يفلح
وفي تشاركه في معنى الشق مشاركة في الفاء والعين نحو : فلى وفلق وفلذ ، تقدم في إعراب (
الذين يؤمنون بالغيب ) ، أن من وجهي رفعه كونه مبتدأ ، فعلى هذا يكون أولئك مع ما بعده مبتدأ وخبر في موضع خبر الذين ، ويجوز أن يكون بدلا وعطف بيان ، ويمتنع الوصف لكونه أعرف ، ويكون خبر الذين إذ ذاك قوله : (
على هدى ) ، وإن كان رفع الذين على أنه خبر مبتدأ محذوف ، أو كان مجرورا أو منصوبا ، كان أولئك مبتدأ خبره (
على هدى ) ، وقد تقدم أنا لا نختار الوجه الأول لانفلاته مما قبله والذهاب به مذهب الاستئناف مع وضوح اتصاله بما قبله وتعلقه به ، وأي فائدة للتكلف والتعسف في الاستئناف فيما هو ظاهر التعلق بما قبله والارتباط به . وقد وجه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وجه الاستئناف بأنه لما ذكر أن الكتاب اختص المتقين بكونه هدى لهم ، اتجه لسائل أن يقول : ما بال المتقين مخصوصين بذلك ؟ فأجيب بأن الذين جمعوا هذه الأوصاف الجليلة من الإيمان بالغيب ، وإقامة الصلاة ، والإنفاق ، والإيمان بالمنزل ، والإيقان بالآخرة على هدى في العاجل ، وذوو فلاح في الآجل . ثم مثل هذا الذي قرره من الاستئناف بقوله : أحب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
الأنصار الذين قارعوا دونه ، فكشفوا الكرب عن وجهه ، أولئك أهل للمحبة ، يعني أنه استأنف فابتدأ بصفة المتقين ، كما استأنف بصفة
الأنصار . وعلى ما اخترناه من الاتصال يكون قد وصف المتقين بصفات مدح فضلت جهات التقوى ، ثم أشار إليهم وأعلم بأن من حاز هذه الأوصاف الشريفة هو على هدى ، وهو المفلح ، والاستعلاء الذي أفادته في قوله : (
على هدى ) ، هو مجاز نزل المعنى منزلة العين ، وأنهم لأجل ما تمكن رسوخهم في الهداية جعلوا كأنهم استعلوه كما تقول : فلان على الحق ، وإنما حصل لهم هذا الاستقرار على الهدى بما اشتملوا عليه من الأوصاف المذكورة في وصف الهدى بأنه من ربهم ، أي كائن من ربهم ، تعظيم للهدى الذي هم عليه . ومناسبة ذكر الرب هنا واضحة ، أي أنه لكونه ربهم بأي تفاسيره فسرت ناسب أن يهيئ لهم أسباب السعادتين : الدنيوية والأخروية ، فجعلهم في الدنيا على هدى ، وفي الآخرة هم المفلحون . وقد تكون ثم صفة محذوفة أي على هدى ، وحذف الصفة لفهم المعنى جائز ، وقد لا يحتاج إلى تقدير الصفة لأنه لا يكفي مطلق الهدى المنسوب إلى الله - تعالى - . ومن لابتداء الغاية أو للتبعيض على حذف مضاف ، أي من هدى ربهم . وقرأ
ابن هرمز : من ربهم بضم الهاء ، وكذلك سائرها آت جمع المذكر والمؤنث على الأصل من غير أن يراعى فيها سبق كسر أو ياء ، ولما أخبر عنهم بخبرين مختلفين كرر أولئك ليقع كل خبر منهما في جملة مستقلة وهو آكد في المدح إذ صار الخبر مبنيا على مبتدأ . وهذان الخبران هما نتيجتا الأوصاف السابقة إذ كانت الأوصاف منها ما هو متعلقه أمر الدنيا ، ومنها ما متعلقه أمر الآخرة ، فأخبر عنهم بالتمكن من الهدى في الدنيا وبالفوز في الآخرة . ولما اختلف الخبران كما ذكرنا أتى بحرف العطف في المبتدأ ، ولو كان الخبر الثاني في معنى الأول لم يدخل العاطف لأن الشيء لا يعطف على نفسه . ألا ترى إلى قوله تعالى : (
أولئك هم الغافلون ) بعد قوله : (
أولئك كالأنعام ) كيف جاء بغير عاطف لاتفاق الخبرين اللذين للمبتدأين في المعنى ؟ ويحتمل هم أن يكون فصلا أو بدلا فيكون المفلحون خبرا عن أولئك ، أو المبتدأ والمفلحون خبره ، والجملة من قوله :
هم المفلحون في
[ ص: 44 ] موضع خبر أولئك ، وأحكام الفصل وحكمة المجيء به مذكورة في كتب النحو . وقد جمعت أحكام الفصل مجردة من غير دلائل في نحو من ست ورقات ، وإدخال هو في مثل هذا التركيب أحسن ; لأنه محل تأكيد ورفع توهم من يتشكك في المسند إليه الخبر أو ينازع فيه ، أو من يتوهم التشريك فيه . ألا ترى إلى قوله تعالى : (
وأنه هو أضحك وأبكى وأنه هو أمات وأحيا ) ، (
وأنه هو أغنى وأقنى ) ، وقوله : (
وأنه خلق الزوجين الذكر والأنثى ) ، (
وأنه أهلك عادا الأولى ) ، كيف أثبت هو دلالة على ما ذكر ، ولم يأت به في نسبة خلق الزوجين وإهلاك عاد ، إذ لا يتوهم إسناد ذلك لغير الله - تعالى - ولا الشركة فيه . وأما الإضحاك والإبكاء والإماتة والإحياء والإغناء والإقناء فقد يدعي ذلك ، أو الشركة فيه متواقح كذاب
كنمروذ . وأما قوله تعالى : (
وأنه هو رب الشعرى ) ، فدخول هو للإعلام بأن الله هو رب هذا النجم ، وإن كان رب كل شيء ; لأن هذا النجم عبد من دون الله واتخذ إلها ، فأتى به لينبه بأن الله مستبد بكونه ربا لهذا المعبود ، ومن دونه لا يشاركه في ذلك أحد . والألف واللام في المفلحون لتعريف العهد في الخارج أو في الذهن ، وذلك أنك إذا قلت : زيد المنطلق ، فالمخاطب يعرف وجود ذات صدر منها انطلاق ، ويعرف زيدا ويجهل نسبة الانطلاق إليه ، وأنت تعرف كل ذلك فتقول له : زيد المنطلق ، فتفيده معرفة النسبة التي كان يجهلها ، ودخلت هو فيه إذا قلت : زيد هو المنطلق ، لتأكيد النسبة ، وإنما تؤكد النسبة عند توهم أن المخاطب يشك فيها أو ينازع أو يتوهم الشركة . وذكر المفسرون في
سبب نزول هذه الآيات من قوله تعالى : (
الم ) إلى قوله : (
المفلحون ) أقوالا ، أحدها : أنها نزلت في مؤمني أهل الكتاب دون غيرهم ، وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وجماعة . الثاني : نزلت في جميع المؤمنين ، قاله
مجاهد . وذكروا في هذه الآية من ضروب الفصاحة أنواعا ، ( الأول ) : حسن الافتتاح ، وأنه تعالى افتتح بما فيه غموض ودقة لتنبيه السامع على النظر والفكر والاستنباط . ( الثاني ) : الإشارة في قوله ذلك أدخل اللام إشارة إلى بعد المنازل . ( الثالث ) : معدول الخطاب في قوله تعالى : (
لا ريب فيه ) صيغته خبر ومعناه أمر ، وقد مضى الكلام فيه . ( الرابع ) : الاختصاص هو في قوله (
هدى للمتقين ) . ( الخامس ) : التكرار في قوله تعالى : (
يؤمنون بالغيب ) ، (
يؤمنون بما أنزل إليك ) ، وفي قوله : ( الذين ) ، والذين إن كان الموصوف واحدا فهو تكرار اللفظ والمعنى ، وإن كان مختلفا كان من تكرار اللفظ دون المعنى ، ومن التكرار أولئك وأولئك . ( السادس ) : تأكيد المظهر بالمضمر في قوله : (
وأولئك هم المفلحون ) ، وفي قوله : (
هم يوقنون ) . ( السابع ) : الحذف ، وهو في مواضع أحدها هذه الم عند من يقدر ذلك ، وهو هدى ، وينفقون في الطاعة ، وما أنزل إليك من القرآن ، ومن قبلك ، أي قبل إرسالك ، أو قبل الإنزال ، وبالآخرة ، أي بجزاء الآخرة ، ويوقنون بالمصير إليها ، وعلى هدى ، أي أسباب هدى ، أو على نور هدى ، والمفلحون ، أي الباقون في نعيم الآخرة .