(
فاذكروا الله عند المشعر الحرام ) . الفاء جواب إذا ، والذكر هنا الدعاء والتضرع والثناء ، أو صلاة المغرب والعشاء
بالمزدلفة ، أو الدعاء . وهذه الصلاة أقوال ثلاثة يبني عليها أهل الأمر ، أمر ندب ، أم أمر وجوب ؟ وإذا كان الذكر هو الصلاة فلا دلالة فيه على الجمع بين الصلاتين ، فيصير الأمر بالذكر بالنسبة إلى الجمع بين الصلاتين مجملا يبينه فعله - صلى الله عليه وسلم ، وهو سنة
بالمزدلفة . ولو صلى المغرب قبل أن يأتي
المزدلفة ، فقال
أبو حنيفة ،
ومحمد : لا يجزئه ، وقال
عطاء ،
وعروة ،
والقاسم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
ومالك ،
وأحمد ،
وإسحاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور : ليس الجمع شرطا للصحة . ومن له عذر عن الإفاضة ممن وقف مع الإمام صلى كل صلاة لوقتها ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12927ابن المواز . وقال
مالك : يجمع بينهما إذا غاب الشفق ، وقال
ابن القاسم : إن رجا أن يأتي
المزدلفة ثلث الليل ، فليؤخر الصلاتين حتى يأتيها ، وإلا صلى كل صلاة لوقتها .
وهل يصليهما بإقامتين دون أذان ؟ أو بأذان واحد للمغرب وإقامتين ؟ أو بأذانين وإقامتين ؟ أو بأذان وإقامة للأولى ، وبلا أذان ولا إقامة للثانية ؟ أقوال أربعة .
الأول : قول
سالم ،
والقاسم ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وإسحاق ،
وأحمد في أحد قوليه . والثاني : قول
زفر ،
nindex.php?page=showalam&ids=14695والطحاوي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13064وابن حزم ، وروي عن
أبي حنيفة . والثالث : قول
مالك . والرابع : قول
أبي حنيفة ، والسنة أن لا يتطوع الجامع بينهما .
والمشعر مفعل من شعر ، أي : المعلم ، والحرام : لأنه ممنوع أن يفعل فيه ما نهي عنه من محظورات الإحرام . وهذا المشعر يسمى جمعا ، وهو ما بين جبلي
المزدلفة من حد مفضى
عرفة إلى بطن
محسر ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
ومجاهد . وتسمي العرب
وادي محسر : وادي النار ، وليس
المأزمان ولا
وادي محسر من
المشعر الحرام ، والمأزم المضيق ، وهو مضيق واحد بين جبلين ، ثنوه لمكان الجبلين . وقيل : المشعر الحرام هو قزح ، وهو الجبل الذي يقف عليه الإمام وعليه الميقدة . قيل : وهو الصحيح لحديث
جابر :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373941أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما صلى الفجر ، يعني بالمزدلفة ، بغلس ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام ، فدعا وكبر وهلل ، ولم يزل واقفا حتى أسفر ، فعلى هذا لم تتعرض الآية المذكورة للذكر
[ ص: 97 ] بالمزدلفة ، لا على أنه الدعاء ولا الصلاة بها ، وإنما هذا أمر بالذكر عند هذا الجبل ، وهو قزح الذي ركب إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فدعا عنده وكبر وهلل ، ووقف بعد صلاته الصبح
بالمزدلفة بغلس حتى أسفر ، ويكون ثم جملة محذوفة التقدير : فإذا أفضتم من
عرفات ، ونمتم
بالمزدلفة ، فاذكروا الله عند
المشعر الحرام . ومعنى العندية هنا القرب منه ، وكونه يليه .
ومزدلفة كلها موقف ، إلا
وادي محسر ، وجعلت كلها موقفا لكونها في حكم المشعر ومتصلة به ، وقيل : سميت
المزدلفة وما تضمنه الحد الذي ذكر مشعرا ، ووحد لاستوائه في الحكم ، فكان كالمكان الواحد . وقال في ( المنتخب ) : هذا الأمر يدل على أن الحصول عند المشعر الحرام واجب ، ويكفي فيه المرور كما في
عرفة ، فأما الوقوف هناك فمسنون ، انتهى كلامه . وكون الوقوف مسنونا هو قول جمهور العلماء ، وقال
أبو حنيفة : هو واجب ، فمن تركه من غير عذر فعليه دم ، فإن كان له عذر أو خاف الزحام فلا بأس أن يعجل بليل ، ولا شيء عليه . وقال
ابن الزبير ،
والحسن ،
وعلقمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي : الوقوف
بمزدلفة فرض ، ومن فاته فقد فاته الحج ، ويجعل إحرامه عمرة .
والآية لا تدل إلا على مطلوبية الذكر عند
المشعر الحرام ، لا على الوقوف ، ولا على المبيت
بمزدلفة ، وأجمعوا على أن المبيت ليس بركن . وقال
مالك : من لم يبت بها فعليه دم ، وإن أقام بها أكثر ليلة فلا شيء عليه : لأن المبيت بها سنة مؤكدة عند
مالك . وهو مذهب
عطاء ،
وقتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
وأبي حنيفة ،
وأحمد ،
وإسحاق ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبي ثور . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : إن خرج منها بعد نصف الليل فلا شيء عليه ، أو قبله افتدى ، والفدية شاة . ومطلق الأمر بالذكر لا يدل على ذكر مخصوص . قال بعضهم : وأولى الذكر أن يقول اللهم كما وفقتنا فيه فوفقنا لذكرك كما هديتنا ، واغفر لنا وارحمنا كما وعدتنا بقولك وقولك الحق : (
فإذا أفضتم ) ، ويتلو إلى قوله : (
إن الله غفور رحيم ) ، ثم بعد ذلك يدعو بما شاء من خير الدنيا والآخرة . والذي يظهر أن ذكر الله هنا هو الثناء عليه ، والحمد له ، ولا يراد بذكر الله هنا ذكر لفظة الله ، وإنما المعنى : اذكروا الله بالألفاظ الدالة على تعظيمه ، والثناء عليه ، والمحمدة له . و " عند " منصوب بـ " اذكروا " ، وهذا مما يدل على أن جواب " إذا " لا يكون عاملا فيها : لأن مكان إنشاء الإفاضة غير مكان الذكر : لأن ذلك
عرفات ، وهذا
المشعر الحرام ، وإذا اختلف المكانان لزم من ذلك ضرورة اختلاف الزمانين ، فلا يجوز أن يكون الذكر عند
المشعر الحرام واقعا وقت إنشاء الإفاضة .
(
واذكروه كما هداكم ) هذا الأمر الثاني هو الأول ، وكرر على سبيل التوكيد والمبالغة في الأمر بالذكر : لأن الذكر من أفضل العبادات ، أو غير الأول ، فيراد به تعلقه بتوحيد الله ، أي : واذكروه بتوحيده كما هداكم بهدايته ، أو اتصال الذكر لمعنى : اذكروه ذكرا بعد ذكر ، قال هذا القول
محمد بن قاسم النحوي ، والذكر المفعول عند الوقوف
بمزدلفة غداة جمع ، ويراد بالأول صلاة المغرب والعشاء
بالمزدلفة ، حكاه القاضي
أبو يعلى . والكاف في " كما " للتشبيه ، وهي في موضع نصب إما على النعت لمصدر محذوف ، وإما على الحال . وقد تقدم هذا البحث في غير موضع . والمعنى : أوجدوا الذكر على أحسن أحواله من مماثلته لهداية الله لكم ، إذ هدايته إياكم أحسن ما أسدى إليكم من النعم ، فليكن الذكر من الحضور والديمومة في الغاية حتى تماثل إحسان الهداية ، ولهذا المعنى قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة ، انتهى . ويحتمل أن تكون الكاف للتعليل على مذهب من أثبت هذا المعنى للكاف ، فيكون التقدير : كما هداكم ، أي : اذكروه وعظموه للهداية السابقة منه تعالى لكم ، وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : كما أنه لا يعلم فتجاوز الله عنه ، أي : لأنه لا يعلم ، وأثبت لها هذا المعنى
الأخفش ،
وابن برهان . و " ما " في " كما " مصدرية ، أي : كهدايته إياكم ، وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ،
وابن عطية أن تكون " ما " كافة للكاف عن العمل ، والفرق بينهما أن " ما " المصدرية
[ ص: 98 ] تكون هي وما بعدها في موضع جر ، إذ ينسبك منها مع الفعل مصدر ، والكاف لا يكون ذلك فيها إذ لا عمل لها البتة ، والأولى حملها على أن " ما " مصدرية : لإقرار الكاف على ما استقر لها من عمل الجر ، وقد منع أن تكون الكاف مكفوفة بـ " ما " عن العمل
أبو سعد ،
وعلي بن مسعود بن الفرخال صاحب ( المستوفي ) ، واحتج من أثبت ذلك بقول الشاعر :
لعمرك إنني وأبا حميد كما النشوان والرجل الحليم أريد هجاءه وأخاف ربي
وأعلم أنه عبد لئيم
والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة
إبراهيم - صلى الله على نبينا وعليه - فـ " ما " عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه .
(
وإن كنتم من قبله لمن الضالين ) ، " إن " هنا عند
البصريين هي التي للتوكيد المخففة من الثقيلة ، ودخلت على الفعل الناسخ كما دخلت على الجملة الابتدائية ، واللام في " لمن " ، وما أشبهه فيها خلاف : أهي لام الابتداء لزمت للفرق ؟ أم هي لام أخرى اجتلبت للفرق ؟ ومذهب
الفراء في نحو هذا : " إن " هي النافية بمعنى ما ، واللام بمعنى إلا ، وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي إلى أن إن بمعنى : قد ، إذا دخل على الجملة الفعلية ، وتكون اللام زائدة ، وبمعنى ما النافية إذا دخل على الجملة الاسمية ، واللام بمعنى إلا ، ودلائل هذه المسألة تذكر في علم النحو . فعلى قول
البصريين : تكون هذه الجملة مثبتة مؤكدة لا حصر فيها ، وعلى مذهب
الفراء : مثبتة إثباتا محصورا ، وعلى مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : مثبتة مؤكدة من جهة غير جهة قول
البصريين . و " من قبله " يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله لمن الضالين ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله من الضالين ، وقد تقدم نظير هذا . والهاء في " قبله " عائدة على الهدى المفهوم من قوله " هداكم " أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم : ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ، وقيل : تعود الهاء على القرآن ، وقيل : على النبي - صلى الله عليه وسلم . والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ، وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره .