(
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ، صح عن
عائشة قالت : كان
الحمس هم الذين أنزل الله تعالى فيهم : (
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ، رجعوا إلى
عرفات ، وفي ( الجامع )
nindex.php?page=showalam&ids=13948للترمذي عن
عائشة قالت : كانت
قريش ومن على دينها ، وهم
الحمس ، يقفون
بالمزدلفة يقولون نحن قطين الله ، وكان من سواهم يقفون
بعرفة ، فأنزل الله : (
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) . قال
أبو عيسى : هذا حديث حسن صحيح . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16932محمد بن جبير بن مطعم ، عن أبيه قال :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373942خرجت في طلب بعير بعرفة ، فرأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قائما بعرفة مع الناس قبل أن يبعث ، فقلت : والله إن هذا من الحمس ، فما شأنه واقفا هاهنا مع الناس ؟ وكان وقوف رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
بعرفة إلهاما من الله تعالى وتوفيقا إلى ما هو شرع الله ومراده ، وكانت
قريش قد ابتدعت أشياء لا يأقطون الأقط ، ولا يسلئون السمن وهم محرمون ، ولا يدخلون بيتا من شعر ، ولا يستظلون إلا في بيوت الأدم ، ولا يأكلون حتى يخرجوا إلى الحل وهم حرم ، ولا يطوف القادم إلى البيت إلا في ثياب
الحمس ، ومن لم يجد ذلك طاف عريانا ، فإن طاف بثيابه ألقاها فلا يأخذها أبدا ، لا هو ولا غيره ، وتسمي العرب تلك الثياب اللقي ، وسمحوا للمرأة أن تطوف وعليها درعها ، وكانت قبل تطوف عريانة وعلى فرجها نسعة ، حتى قالت امرأة منهم :
[ ص: 99 ] اليوم يبدو بعضه أو كله وما بدا منه فلا أحله
فلما أنزل الله : (
ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) ، وأنزل : (
خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا ) ، أباح لهم ما حرموا على أنفسهم من الوقوف
بعرفة ، ومن الأكل والشرب واللباس ، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا
قريشا وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم
الحمس . وهذا قول الجمهور . وقيل : الخطاب عام
لقريش وغيرها . والإفاضة المأمور بها هي من
عرفات ، إلا أن " ثم " على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : (
فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واذكروه كما هداكم ثم أفيضوا ) ، الإفاضة قد تقدمت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بـ " ثم " التي تقتضي التراخي لالافي الزمان ؟ وأجيب عن هذا بوجوه .
أحدها : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأمورا بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذا ضربك زيد فاضربه ؟ فلا يكون زيد مأمورا بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من
عرفات لا من
المزدلفة كما تفعله
الحمس ، وزعم بعضهم أن " ثم " هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوز بعض النحويين أن " ثم " تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب . وقد حمل بعض الناس " ثم " هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديما وتأخيرا ، فجعل : (
ثم أفيضوا ) معطوفا على قوله : (
واتقون يا أولي الألباب ) ، كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، فإذا أفضتم من
عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل " ثم " للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى
منى ، والمخاطبون بقوله : (
ثم أفيضوا ) ، جميع المسلمين ، وقد قال بهذا
الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري فإن ( قلت ) : فكيف موقع " ثم " ؟ ( قلت ) : نحو موقعها في قولك أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي " ثم " لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد ما بينهما ، فكذلك حين أمرهم بالذكر عند الإفاضة من
عرفات ، قال : ثم أفيضوا ، لتفاوت ما بين الإفاضتين ، وأن إحداهما صواب والثانية خطأ ، انتهى كلامه .
وليست الآية كالمثال الذي مثله ، وحاصل ما ذكر أن " ثم " تسلب الترتيب ، وأنها لها معنى غيره سماه بالتفاوت والبعد لما بعدها مما قبلها ، ولم يجز في الآية أيضا ذكر الإفاضة الخطأ ، فيكون " ثم " في قوله "
ثم أفيضوا " جاءت لبعد ما بين الإفاضتين وتفاوتهما ، ولا نعلم أحدا سبقه إلى إثبات هذا المعنى لـ " ثم " .