(
وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل ) ، حقيقة التولي الانصراف بالبدن ، ثم اتسع فيه حتى استعمل فيما يرجع عنه من قول وفعل ، ومعناه هنا ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : غضب ؛ لأنه رجوع عن الرضى الذي كان قبله ، وقال
الحسن : انصرف عن القول الذي قاله ، وقال
مقاتل ،
وابن قتيبة : انصرف ببدنه ، وقال
مجاهد : من الولاية ، أي : صار واليا . والسعي حقيقة المشي بالقدمين بسرعة ، وعلى ذلك حمله هنا
أبو سليمان الدمشقي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ، فيما ذكر
ابن عطية عنه ، والمعنى : وإذا نهض عنك يا
محمد بعد إلانة القول وحلاوة المنطق ، فسعى بقدميه في الأرض ، فقطع الطريق وأفسد فيها ، كما فعله
الأخنس بثقيف . وقيل : السعي هنا العمل ، وهو مجاز سائغ في استعمال العرب ، ومنه : (
وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ) ، (
ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن ) ، وقال الشاعر :
فلو أن ما أسعى لأدنى معيشة كفاني ، ولم أطلب ، قليل من المال ولكنما أسعى لمجد مؤثل
وقد يدرك المجد المؤثل أمثالي
( وقال
الأعشى ) :
وسعى لكندة غير سعي مواكل قيس فصد عدوها وبنى لها
( وقال آخر ) :
أسعى على حيي بني مالك كل امرئ في شأنه ساع
والمعنى : سعى بحيله وإدارة الدوائر على الإسلام ، وإلى هذا القول نحا
مجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ، وذكر أيضا عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، والقائلون بهذا القول . قال قوم منهم : معناه سعى فيها بالكفر ، وقال قوم بالظلم . وقد يقع السعي بالقول ، يقال : سعى بين فلان وفلان ، نقل إليهما قولا يوجب الفرقة ، ومنه :
ما قلت ما قال وشاة سعوا سعي عدو بيننا يرجف
" في الأرض " ، معلوم أن السعي لا يكون إلا في الأرض ، لكن أفاد العموم بمعنى في أي مكان حل منها سعى للفساد ، ويدل لفظ في الأرض ، على كثرة سعيه ونقلته في نواحي الأرض : لأنه يلزم من عموم الأرض تكرار السعي وتقدم ما يشبهه في قوله : (
لا تفسدوا في الأرض ) . وإذا كان المراد
الأخنس ، فالأرض أرض
المدينة ، فالألف واللام للعهد . ليفسد فيها ، هذا علة سعيه ، والحامل له على السعي في
[ ص: 116 ] الأرض ، والفساد ضد الصلاح ، وهو معاندة الله في قوله : (
واستعمركم فيها ) . والفساد يكون بأنواع من الجور ، والقتل ، والنهب ، والسبي ، ويكون : بالكفر . " ويهلك الحرث والنسل " عطف هذه العلة على العلة قبلها ، وهو " ليفسد فيها " ، وهو شبيه بقوله : (
وملائكته ورسله وجبريل وميكال ) ، وقوله :
أكر عليهم دعلجا ولبانه
لأن الإفساد شامل يدخل تحته إهلاك الحرث والنسل ، ولكنه خصهما بالذكر لأنهما أعظم ما يحتاج إليه في عمارة الدنيا ، فكان إفسادهما غاية الإفساد . ومن فسر الإفساد بالتخريب ، جعل هذا من باب التفصيل بعد الإجمال . و " يهلك الحرث والنسل " تقدم ذكر الحرث في قوله : (
ولا تسقي الحرث ) ، وتقدم ذكر النسل في الكلام على المفردات ، وعلى ما تقدم من أن الآية في
الأخنس ، يكون الحرث الزرع ، والنسل الحمر التي قتلها ، فيكون النسل المراد به الدواب ذوات النسل . وقيل : المراد هنا بالحرث هنا النساء ، وبالنسل الأولاد ، وقال تعالى : (
نساؤكم حرث لكم ) ، وذكره
ابن عطية عن
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج احتمالا ، فيكون من الكناية ، وهو من ضروب البيان .
وقرأ الجمهور : " ويهلك " من أهلك . عطفا على " ليفسد " ، وقرأ
أبي : " وليهلك " بإظهار لام العلة ، وقرأ قوم : " ويهلك " ، من أهلك ، وبرفع الكاف . وخرج على أن يكون عطفا على قوله " يعجبك " ، أو على " سعى " : لأنه في معنى : يسعى ، وإما على الاستئناف ، أو على إضمار مبتدأ ، أي : وهو يهلك . وقرأ
الحسن ،
وابن أبي إسحاق ،
وأبو حيوة ،
وابن محيصن : " ويهلك " من هلك ، وبرفع الكاف ، و " الحرث والنسل " على الفاعلية ، وكذلك رواه
nindex.php?page=showalam&ids=15744حماد بن سلمة عن
ابن كثير ،
وعبد الوارث عن
أبي عمرو ، وحكى
المهدوي أن الذي رواه
حماد عن
ابن كثير ، إنما هو ويهلك من أهلك ، وبضم الكاف ، " الحرث " بالنصب . وقرأ قوم : " ويهلك " من هلك ، وبفتح اللام ، ورفع الكاف ورفع الحرث ، وهي لغة شاذة نحو ركن يركن ، ونسبت هذه القراءة إلى
الحسن nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وروي عنه ، يعني عن
الحسن ، " ويهلك " مبنيا للمفعول ، فيكون في هذه اللفظة ست قراءات : ويهلك وليهلك و يهلك ، وما بعد هذه الثلاثة منصوب : لأن في الفعل ضمير الفاعل ، ويهلك ويهلك ويهلك ، وما بعد هذه الثلاثة مرفوع بالفعل ، وهذه الجملة الشرطية إما مستأنفة ، وتم الكلام عند قوله " وهو ألد الخصام " ، وإما معطوفة على صلة " من " أو صفتها ، من قوله : ويعجبك .
(
والله لا يحب الفساد ) تقدمت علتان ، والثانية داخلة تحت الأولى ، فأخبر تعالى أنه لا يحب الفساد ، واكتفى بذكر الأولى لانطوائها على الثانية ، وإن فسرت المحبة بالإرادة ، وقد جاءت كذلك في مواضع منها : (
إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة ) ، فلا بد من التخصيص ، أي : لا يحب من أهل الصلاح الفساد ، ولا يمكن الحمل على العموم إذ ذاك على مذهبنا لوقوع الفساد ، فلو لم يكن مرادا لما كان واقعا . وقد تعلقت المعتزلة بهذه الآية في أن الله لا يريد الفساد ، فما وقع منه فليس مراد الله تعالى ، ولا مفعولا له : لأنه لو فعله لكان مريدا له لاستحالة أن يفعل ما لا يريد . قالوا : ويدل على أن محبته الفعل هي إرادته له ، أنه غير جائز أن يحب كونه ولا يريد أن يكون ، بل يكره أن يكون . وفي هذا ما فيه من التناقض . انتهى ما قالوا ، وقيل : المعنى والله لا يحب الفساد دينا ، وقيل : هو على حذف مضاف أي : أهل الفساد ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : المعنى لا يرضى المعاصي ، وقيل : عبر بالمحبة عن الأمر ، أي : لا يأمر بالفساد . وقال
الراغب : الإفساد إخراج الشيء من حالة محمودة لا لغرض صحيح ، وذلك غير موجود في فعل الله تعالى ، وهذه التأويلات كلها هو على ما ذهب إليه المتكلمون من أن الحب بمعنى الإرادة ، قال
ابن عطية : والحب له على الإرادة مزية إيثار ، فلو قال أحد : إن الفساد المراد تنقصه مزية الإيثار ، لصح ذلك إذ الحب من الله تعالى ، إنما هو لما حسن من جميع جهاته ، انتهى كلامه . وإذا صح هذا اتضح الفرق بين الإرادة والمحبة ، وصح أن الله يريد الشيء ولا يحبه . وقال بعضهم : سوى المعتزلة بين المحبة والإرادة
[ ص: 117 ] واستدلوا بهذه ، وجمهور العلماء على خلاف ذلك ، والفرق بين الإرادة والمحبة بين ، فإن الإنسان يريد بطيء الجرح ولا يحبه ، وإذا بان في المعقول الفرق بين الإرادة والمحبة بطل ادعاؤهم التساوي بينهما ، وفي معنى هذه الآية قوله تعالى : (
ولا يرضى لعباده الكفر ) ، انتهى كلامه . وجاء في كتاب الله تعالى نفي محبة الله تعالى أشياء ، إذ لا واسطة بين الحب وعدمه بالنسبة إليه تعالى ، بخلاف غيره ، فإنه قد يعرو عنهما ، فالمحبة ومقابلها بالنسبة إلى الله تعالى نقيضان ، وبالنسبة إلى غيره ضدان ، وظاهر الفساد يعم كل فساد في أرض أو مال أو دين ، وقد استدل
عطاء بقوله : (
والله لا يحب الفساد ) : على منع شق الإنسان ثوبه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : الفساد هنا الخراب .