(
والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ) ، في هذه الجملة وما قبلها دليل على أن هدى العبد إنما يكون من الله لمن يشاء له الهداية ، ورد على
المعتزلة في زعمهم أنه يستقل بهدى نفسه ، وتكرر اسم الله في قوله : والله ، جاء على الطريقة الفصحى التي هي استقلال كل جملة ، وذلك أولى من أن يفتقر بالإضمار إلى ما قبلها من مفسر ذلك المضمر ، وقد تقدم لذلك نظائر . وفي قوله : " من يشاء " إشعار ، بل دلالة على أن هدايته تعالى منشؤها الإرادة فقط ، لا وصف ذاتي في الذي يهديه يستحق به الهداية ، بل ذلك مغدوق بإرادته تعالى فقط (
لا يسأل عما يفعل ) .
(
أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ) ، نزلت في غزوة
الخندق حين أصاب المسلمين ما أصاب من الجهد وشدة الخوف والبرد وأنواع الأذى ، كما قال تعالى : (
وبلغت القلوب الحناجر ) ، قاله
قتادة ،
والسدي . أو في حرب
أحد ، قتل فيها جماعة من المسلمين ، وجرت شدائد حتى قال
عبد الله بن أبي وأصحابه : إلى متى تقتلون أنفسكم وتهلكون أموالكم ؟ لو كان
محمد نبيا لما سلط عليكم القتل والأسر . فقالوا : لا جرم ، من قتل منا دخل الجنة . فقال : إلى متى تسألون أنفسكم بالباطل ؟ أو : في أول ما هاجروا إلى
المدينة ، دخلوها بلا مال ، وتركوا ديارهم وأموالهم بأيدي المشركين ، رضي الله تعالى عنهم ، فأظهرت
اليهود العداوة ، وأسر قوم النفاق . قاله
عطاء . قيل : ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه قال : يهدي من يشاء ، والمراد إلى الحق الذي يفضي اتباعه إلى الجنة ، فبين أن ذلك لا يتم إلا باحتمال الشدائد والتكليف ؛ أو : لما بين أنه هداهم بين أنه بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق ، فكذا أنتم - أصحاب
محمد - لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن . و " أم " هنا منقطعة مقدرة ببل والهمزة فتتضمن إضرابا ، وهو انتقال من كلام إلى كلام ، ويدل على استفهام لكنه استفهام تقرير ، وهي التي عبر عنها
أبو محمد بن عطية بأن " أم " قد تجيء ابتداء كلام - وإن لم يكن تقسيم ولا معادلة - ألف استفهام . فقوله " قد يجيء " ابتداء كلام ليس كما ذكر ؛ لأنها تتقدر ببل والهمزة ، فكما أن " بل " لا بد أن يتقدمها كلام حتى يصير في حيز عطف الجمل ، فكذلك ما تضمن معناه . وزعم بعض اللغويين أنها تأتي بمنزلة همزة الاستفهام ، ويبتدأ بها ؛ فهذا يقتضي أن يكون التقدير : أحسبتم ؟ وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : بمعنى بل ، قال :
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى وصورتها أم أنت في العين أملح ؟
ورام بعض المفسرين أن يجعلها متصلة ، ويجعل قبلها جملة مقدرة تصير بتقديرها أم متصلة ، فتقدير الآية : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق ، فصبروا على استهزاء قومهم بهم ، أفتسلكون سبيلهم ؟ أم تحسبون أن تدخلوا الجنة من غير سلوك سبيلهم ؟ فتلخص في أم هنا أربعة أقوال : الانقطاع
[ ص: 140 ] على أنها بمعنى بل والهمزة ، والاتصال على إضمار جملة قبلها ، والاستفهام بمعنى الهمزة ، والإضراب بمعنى بل ؛ والصحيح هو القول الأول . ومفعولا " حسبتم " سدت " أن " مسدهما على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وأما
أبو الحسن فسدت عنده مسد المفعول الأول ، والمفعول الثاني محذوف ، وقد تقدم هذا المعنى في قوله : (
الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم ) .