صفحة جزء
( مستهم البأساء والضراء ) ، هذه الجملة تفسير للمثل وتبيين له ، فليس لها موضع من الإعراب ، وكأن قائلا قال : ما ذلك المثل ؟ فقيل : مستهم البأساء والضراء . والمس هنا معناه " الإصابة " ، وهو حقيقة في المس باليد ، فهو هنا مجاز . وأجازأبو البقاء أن تكون الجملة من قولهم " مستهم " في موضع الحال ، على إضمار قد ، وفيه بعد ، وتكون الحال إذ ذاك من ضمير الفاعل في " خلوا " . وتقدم شرح " البأساء والضراء " في قوله تعالى : ( والصابرين في البأساء والضراء ) .

( وزلزلوا ) ، أي : أزعجوا إزعاجا شديدا بالزلزلة ، وبني الفعل للمفعول ، وحذف الفاعل للعلم به ، أي : وزلزلهم أعداؤهم . ( حتى يقول الرسول ) ، قرأ الأعمش : " وزلزلوا ويقول الرسول " ، بالواو بدل " حتى " ، وفي مصحف عبد الله : " وزلزلوا ثم زلزلوا ويقول الرسول " . وقرأ الجمهور : " حتى " ، والفعل بعدها منصوب إما على الغاية وإما على التعليل ، أي : وزلزلوا إلى أن يقول الرسول ، أو : وزلزلوا كي يقول الرسول ، والمعنى الأول أظهر ؛ لأن المس والزلزال ليسا معلولين لقول الرسول والمؤمنين . وقرأ نافع برفع " يقول " بعد " حتى " ، وإذا كان المضارع بعد حتى فعل حال فلا يخلو أن يكون حالا في حين الإخبار ، نحو : مرض حتى لا يرجونه ، وإما أن يكون حالا قد مضت ، فيحكيها على ما وقعت ؛ فيرفع الفعل على أحد هذين الوجهين ، والمراد به هنا المضي ، فيكون حالا محكية ؛ إذ المعنى : وزلزلوا فقال الرسول ، وقد تكلمنا على مسائل " حتى " في كتاب ( التكميل ) وأشبعنا الكلام عليها هناك ، وتقدم الكلام عليها في هذا الكتاب .

( والذين آمنوا معه ) ، يحتمل " معه " أن يكون منصوبا بيقول ، ويحتمل أن يكون منصوبا بآمنوا . ( متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب ) ، " متى " : سؤال عن الوقت ، فقيل : ذلك على سبيل الدعاء لله تعالى ، والاستعلام لوقت النصر ، فأجابهم الله تعالى فقال : ( ألا إن نصر الله قريب ) ، وقيل : ذلك على سبيل الاستبطاء ؛ إذ ما حصل لهم من الشدة والابتلاء والزلزال هو الغاية القصوى ، وتناهى ذلك وتمادى بالمؤمنين إلى أن نطقوا بهذا الكلام ؛ فقيل ذلك لهم إجابة لهم إلى طلبهم من تعجيل النصر ، والذي يقتضيه النظر أن تكون الجملتان داخلتين تحت القول ، وأن الجملة الأولى من قول المؤمنين ، قالوا ذلك استبطاء للنصر ، وضجرا مما نالهم من الشدة ، والجملة الثانية من قول رسولهم إجابة لهم وإعلاما بقرب النصر ؛ فتعود كل جملة لمن يناسبها ، وصح نسبة المجموع للمجموع ، لا نسبة المجموع لكل نوع من القائلين . وتقدم نظير هذا في بعض التخاريج لقوله تعالى : ( قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك ) [ ص: 141 ] وإن قوله : " أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء " من قول إبليس ، وإن قوله : " ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك " من قول الملائكة عن إبليس ، وكان الجواب ذلك لما انتظم إبليس في الخطاب مع الملائكة في قوله : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ) . وقالت طائفة : في الكلام تقديم وتأخير ، التقدير : حتى يقول الذين آمنوا متى نصر الله ؟ فيقول الرسول : ألا إن نصر الله قريب ، فقدم الرسول في الرتبة لمكانته ، وقدم قول المؤمنين لتقدمه في الزمان .

قال ابن عطية : وهذا تحكم ، وحمل الكلام على وجهه غير متعذر . انتهى . وقوله حسن ؛ إذ التقديم والتأخير مما يختصان بالضرورة . وفي قوله : " والذين آمنوا " تفخيم لشأنهم ؛ حيث صرح بهم ظاهرا بهذا الوصف الشريف الذي هو الإيمان ، ولم يأت : حتى يقول الرسول وهم ؛ وهذا يدل على حذف ذلك الموصوف الذي قدرناه قبل مثل محنة المؤمنين الذين خلوا . قال ابن عطية : وأكثر المتأولين على أن الكلام إلى آخر الآية من قول الرسول والمؤمنين ، ويكون ذلك من قول الرسول على طلب استعجال النصر ، لا على شك ولا ارتياب ، والرسول اسم الجنس ، وذكره الله تعظيما للنازلة التي دعت الرسول إلى هذا القول . انتهى كلامه . واللائق بأحوال الرسل هو القول الذي ذكرنا أنه يقتضيه النظر ، والرسول - كما ذكر ابن عطية - اسم الجنس لا واحد بعينه ، وقيل : هو اليسع ، وقيل : هو شعيب ، وعلى هذا يكون الذين خلوا قوما بأعيانهم ، وهم أتباع هؤلاء الرسل . وحكى بعض المفسرين أن الرسول هنا هو محمد - صلى الله عليه وسلم - وأن الزلزلة هنا مضافة لأمته ، ولا يدل على ما ذكر سياق الكلام ، وعلى هذا القول قال بعضهم ، وفي هذا الكلام إجمال ، وتفصيله أن أتباع محمد - صلى الله عليه وسلم - قالوا : متى نصر الله ؟ فقال الرسول : ألا إن نصر الله قريب . فتلخص من هذه النقول أن مجموع الجملتين من كلام الرسول والمؤمنين على سبيل التفصيل ، أو على سبيل أن الرسول والمؤمنين قال كل منهما الجملتين ، فكأنهم قالوا : قد صبرنا ثقة بوعدك ، أو على أن الجملة الأولى من كلام الرسول والمؤمنين ، والثانية من كلام الله تعالى . ولما كان السؤال بمتى يشير إلى استعلام القرب ، تضمن الجواب القرب ، وظاهر هذا الإخبار أن قرب النصر هو : ينصرون في الدنيا على أعدائهم ويظفرون بهم ، كقوله تعالى : ( جاءهم نصرنا ) ، و ( إذا جاء نصر الله والفتح ) . وقال ابن عباس : النصر في الآخرة ؛ لأن المؤمن لا ينفك عن الابتلاء ، ومتى انقضى حرب جاءه آخر ، فلا يزال في جهاد العدو ، والأمر بالمعروف ، وجهاد النفس إلى الموت . وفي وصف أحوال هؤلاء الذين خلوا ما يدل على أنا يجري لنا ما جرى لهم ؛ فنتأسى بهم ، وننتظر الفرج من الله والنصر ، فإنهم أجيبوا لذلك قريبا .

( يسألونك ماذا ينفقون ) ، نزلت في عمرو بن الجموح ، كان شيخا كبيرا ذا مال كثير ، سأل بماذا أتصدق ؟ وعلى من أنفق ؟ قاله أبو صالح عن ابن عباس . وفي رواية عطاء : نزلت في رجل قال : إن لي دينارا . قال النبي - صلى الله عليه وسلم : ( أنفقه على نفسك ) . فقال : إن لي دينارين . فقال : ( أنفقهما على أهلك ) . فقال : إن لي ثلاثة . فقال : ( أنفقهما على خادمك ) . فقال : إن لي أربعة . فقال : ( أنفقهما على والديك ) . فقال إن لي خمسة . فقال : ( أنفقهما على قرابتك ) . فقال : إن لي ستة . فقال : ( أنفقهما في سبيل الله ، وهو أحسنها ) . وينبغي أن يفهم من هذا الترقي على معنى أن ما أخبر به فاضل عما قبله ، وقال الحسن : هي في التطوع ، وقال السدي : هي منسوخة بفرض الزكاة .

قال ابن عطية : وهم المهدوي على السدي في هذا ؛ فنسب إليه أنه قال : إن الآية في الزكاة المفروضة ، ثم نسخ منها الوالدان . انتهى . وقد قال : قدم بهذا القول ، وهي أنها في الزكاة المفروضة ، وعلى هذا نسخ منها الوالدان ومن جرى مجراهما من الأقربين ، وقال ابن جريج : هي ندب ، والزكاة غير هذا الإنفاق ، فعلى هذا لا نسخ فيها . ومناسبة [ ص: 142 ] هذه الآية لما قبلها أن الصبر على النفقة وبذل المال هو من أعظم ما تحلى به المؤمن ، وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة ، حتى لقد ورد : " الصدقة تطفئ غضب الرب " . والضمير المرفوع في " يسألونك " للمؤمنين ، والكاف لخطاب النبي - صلى الله عليه وسلم - و " ماذا " يحتمل هنا النصب والرفع ؛ فالنصب على أن " ماذا " كلها استفهام ، كأنه قال : أي شيء ينفقون ؟ فماذا منصوب بينفقون ، والرفع على أن " ما " وحدها هي الاستفهام ، و " ذا " موصولة بمعنى الذي ، و " ينفقون " صلة لذا ، والعائد محذوف ، التقدير : ما الذي ينفقون به ؟ فتكون " ما " مرفوعة بالابتداء ، و " ذا " بمعنى الذي خبره ، وعلى كلا الإعرابين فيسألونك معلق ، فهو عامل في المعنى دون اللفظ ، وهو في موضع المفعول الثاني ليسألونك ، ونظيره ما تقدم من قوله : ( سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة ) ، على ما شرحناه هناك . و " ماذا " سؤال عن المنفق لا عن المصرف ، وكأن في الكلام حذفا تقديره : ولمن يعطونه ؟ ونظير الآية في السؤال والتعليق قول الشاعر :


ألا تسألان المرء ماذا يحاول ؟



إلا أن " ماذا " هنا مبتدأ وخبر ، ولا يجوز أن يكون مفعولا بيحاول ؛ لأن بعده :


أنحب فيقضى أم ضلال وباطل ؟



ويضعف أن يكون " ماذا " كله مبتدأ ، و " يحاول " الخبر لضعف حذف العائد المنصوب من خبر المبتدأ دون الصلة ، فإن حذفه منها فصيح ، وذكر ابن عطية أن " ماذا " إذا كانت اسما مركبا فهي في موضع نصب ، إلا ما جاء من قول الشاعر :


وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا     سوى أن يقولوا إنني لك عاشق



فإن عسى لا تعمل في " ماذا " في موضع رفع ، وهو مركب ؛ إذ لا صلة لـ " ذا " . انتهى . وإنما لم يكن لـ " ذا " في البيت صلة لأن عسى لا تقع صلة للموصول الاسمي ، فلا يجوز لـ " ذا " أن تكون بمعنى الذي ، وما ذكره ابن عطية من أنه إذا كانت اسما مركبة فهي في موضع نصب ، إلا في ذلك البيت لا نعرفه ، بل يجوز أن نقول : ماذا محبوب لك ؟ و : من ذا قائم ؟ على تقدير التركيب ، فكأنك قلت : ما محبوب ؟ ومن قائم ؟ ولا فرق بين هذا وبين من ذا تضربه ؟ على تقديره : من تضربه ؟ وجعل " من " مبتدأ .

التالي السابق


الخدمات العلمية