(
وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم ) ، عسى هنا للإشفاق لا للترجي ، ومجيؤها للإشفاق قليل ، وهي هنا تامة لا تحتاج إلى خبر ، ولو كانت ناقصة لكانت مثل قوله تعالى : (
فهل عسيتم إن توليتم أن تفسدوا ) ، فقوله : " أن تكرهوا " في موضع رفع بعسى ، وزعم
الحوفي في أنه في موضع نصب ، ولا يمكن إلا بتكلف بعيد ، واندرج في قوله " شيئا "
[ ص: 144 ] القتال ؛ لأنه مكروه بالطبع لما فيه من التعرض للأسر ، والقتل ، وإفناء الأبدان ، وإتلاف الأموال . والخير الذي فيه هو الظفر ، والغنيمة بالاستيلاء على النفوس والأموال ، أسرا وقتلا ونهبا وفتحا ، وأعظمها الشهادة وهي الحالة التي تمناها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مرارا . والجملة من قوله : " وهو خير لكم " حال من قوله : " شيئا " ، وهو نكرة ، والحال من النكرة أقل من الحال من المعرفة ، وجوزوا أن تكون الجملة في موضع الصفة ، قالوا : وساغ دخول الواو لما كانت صورة الجملة هنا كصورتها إذ كانت حالا . انتهى . وهو ضعيف ؛ لأن الواو في النعوت إنما تكون للعطف في نحو : مررت برجل عالم وكريم ، وهنا لم يتقدم ما يعطف عليه ، ودعوى زيادة الواو بعيدة ، فلا يجوز أن تقع الجملة صفة .
(
وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم ) ، عسى هنا للترجي ، ومجيؤها له هو الكثير في لسان العرب ، وقالوا : كل عسى في القرآن للتحقيق ، يعنون به الوقوع ، إلا قوله تعالى : (
عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا ) ، واندرج في قوله " شيئا " الخلود إلى الراحة وترك القتال ؛ لأن ذلك محبوب بالطبع ؛ لما في ذلك من ضد ما قد يتوقع من الشر في القتال ، والشر الذي فيه هو ذلهم ، وضعف أمرهم ، واستئصال شأفتهم ، وسبي ذراريهم ، ونهب أموالهم ، وملك بلادهم . والكلام على هذه إعرابا ، كالكلام على التي قبلها . (
والله يعلم ) ما فيه المصلحة ؛ حيث كلفكم القتال ، (
وأنتم لا تعلمون ) ما يعلمه الله تعالى ؛ لأن عواقب الأمور مغيبة عن علمكم ، وفي هذا الكلام تنبيه على الرضى بما جرت به المقادير ، قال
الحسن : لا تكرهوا الملمات الواقعة ؛ فلرب أمر تكرهه فيه أربك ، ولرب أمر تحبه فيه عطبك ، وقال
أبو سعيد الضرير :
رب أمر تتقيه جر أمرا ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
وقال
الوضاحي :
ربما خير الفتى وهو للخير كاره
وقال
ابن السرحان :
كم فرحة مطوية لك بين أثناء المصائب
ومسرة قد أقبلت من حيث تنتظر النوائب
وقال آخر :
كم مرة حفت بك المكاره خار لك الله وأنت كاره