صفحة جزء
( وللمطلقات متاع بالمعروف ) ، ظاهره العموم كما ذهب إليه أبو ثور ، وقد تقدم في قوله : ( ومتعوهن ) اختلاف العلماء فيما يخصص به العموم ؛ فأغنى عن إعادته ، وتعلق " بالمعروف " بما تعلق به " للمطلقات " ، وقيل : بقوله " متاعا " ، وقيل : المراد بالمتاع هنا نفقة العدة . ( حقا على المتقين ) ، قال ابن زيد : نزلت هذه الآية مؤكدة لأمر المتعة ؛ لأنه نزل قبل : ( حقا على المحسنين ) ، فقال رجل : فإن لم أرد أن أحسن لم أمتع ، فنزلت : ( حقا على المتقين ) . وإعراب " حقا " هنا كإعراب " حقا " على المحسنين " ، وظاهر " المتقين " : من يتصف بالتقوى التي هي أخص من اتقاء الشرك ، وخصوا بالذكر تشريفا لهم ، أو لأنهم أكثر الناس وقوفا ، والله أسرعهم لامتثال أمر الله ، وقيل " على المتقين " أي : متقي الشرك . ( كذلك يبين الله لكم آياته ) ، أي : مثل هذا التبيين الذي سبق من الأحكام ، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد . ( لعلكم تعقلون ) ، ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها ؛ لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك ، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات ؛ فإن العقل يرتبك فيها ، ولا يكاد يحصل منها على طائل . قيل : وفي هذه الآيات من بدائع البديع وصنوف الفصاحة : النقل من صيغة " افعلوا " إلى " فاعلوا " للمبالغة ، وذلك في " حافظوا " ، والاختصاص بالذكر في " والصلاة الوسطى " ، والطباق المعنوي في " فإن خفتم " ؛ لأن التقدير في " حافظوا " وهو مراعاة أوقاتها وهي هيئاتها إذا كنتم آمنين ، والحذف في " فإن خفتم " : العدو أو ما جرى مجراه . وفي " فرجالا " أي : فصلوا رجالا ، وفي " وصية لأزواجهم " سواء رفع أم نصب ، وفي " غير إخراج " أي : لهن من مكانهن الذي يعتددن فيه ، وفي فإن خرجن من بيوتهن من غير رضا منهن ، وفي " فيما فعلن في أنفسهن " أي : من ميلهن إلى التزويج ، أو الزينة بعد انقضاء المدة ، وفي " بالمعروف " أي : عادة أو شرعا [ ص: 247 ] وفي " عزيز " أي : انتقامه ، وفي " حكيم " أي : في أحكامه . وفي قوله " حقا " أي : حق ذلك حقا ، وفي " على المتقين " أي عذاب الله ، والتشبيه في " كما علمكم " ، والتجنيس المماثل : وهو أن يكون بفعلين أو باسمين ، وذلك في " علمكم ما لم تكونوا تعلمون " ، والتجنيس المغاير في " غير إخراج فإن خرجن " ، والمجاز في " يتوفون " أي : يقاربون الوفاة ، والتكرار في " متاعا إلى الحول " ، ثم قال : " وللمطلقات متاع " ؛ فيكون للتأكيد إن كان إياه ، ولاختلاف المعنيين إن كان غيره . وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة حكم المتوفى عنها زوجها ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر ، وأنهن إذا انقضت عدتهن لا حرج على من كان متوليا أمرهن من ولي أو حاكم فيما فعلن من تعرض لخطبة ، وتزين ، وترك إحداد ، وتزوج ، وذلك بالمعروف شرعا ، وأعلم تعالى أنه خبير بما يصدر منا ، وأنه لا جناح على من عرض بالخطبة أو أكن التزويج في نفسه ، وأفهم ذلك أن التصريح فيه الجناح ، ثم إنه تعالى عذر في التعريض بأن النفوس تتوق إلى التزوج وذكر النساء ، ونهى تعالى عن مواعدة السر وهو النكاح ، وأباح قولا معروفا من التنبيه به على أن المرأة مرغوب فيها ، فإن في ذلك جبرا لها وبعض تأنيس منه لها بذلك . ثم نهى عن بت النكاح قبل انقضاء العدة ، وأعلم أن ما في نفس الإنسان يعلمه الله ، وأمر بأن يحذر ، ولما كان الأمر بالحذر يستدعي مخوفا ؛ أعلم أنه غفور يستر الذنب ، حليم يصفح عن المسيء ؛ ليتعادل خوف المؤمن ورجاؤه ، ثم ذكر رفع الحرج عن من طلق المرأة قبل المسيس ، أو قبل أن يفرض لها الصداق ؛ إذ كان يتوهم أن الطلاق قبل الدخول بها لا يباح ، ثم أمر بالتمتيع ؛ ليكون ذلك عوضا لغير المدخول بها مما كان فاتها من الزوج ، ومن نصف الصداق الذي تشطر بالطلاق ، وجبرا لها بذلك ولغير المفروض لها ، وأن ذلك التمتيع على حسب وجد الزوج وإقتاره ، ولم يعين المقدار ، بل قال أن ذلك بالمعروف ، وهو الذي ألف عادة وشرعا ، وأن ذلك حق على من كان محسنا . ثم ذكر أنه إذا طلق قبل المسيس وبعد الفرض فإنه يتشطر المسمى ، فيجب لها نصف الصداق إلا إن عفت المرأة فلم تأخذ منه شيئا ، أو عفا الزوج فأدى إليها الصداق كاملا إذا كان الطلاق إنما كان من جهته ، ثم ذكر أن العفو من أي جهة كان منهما أقرب لتحصيل التقوى للعافي ؛ إذ هو إما بين تارك حقه ، أو باذل فوق الحق . ثم نهى عن نسيان الفضل ، ففي هذا النهي الأمر بالفضل . ثم ختم ذلك بأنه بصير بجميع أعمالهم ؛ فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته . ولما ذكر تعالى أحكام النكاح ، وكادت تستغرق المكلف ؛ نبه تعالى على أشرف العبادات التي يتقرب بها إلى الله تعالى المكلف ، وأمر بالمحافظة عليها ، وهي الصلوات ، وخص الوسطى منها بالذكر تنبيها على فضلها ، ومن تسميتها بالوسطى تبين تمييزها على غيرها ، وهي بلا شك صلاة العصر ، ثم أمر بالقيام لله متلبسين بطاعته ، ثم للمبالغة في توكيد إيجاب الصلوات لم يسامح بتركها حالة الخوف ، بل أمر أن تؤدى في تلك الحال ، سواء كان الخائف ماشيا أو راكبا ، وإن كان في ذلك بعض اختلال لشروطها . ثم أمر أن تؤدى على حالها الأول من إتمام شروطها ، وهيئاتها إذا أمن الخائف ، وأن يؤديها على الحالة التي علمه الله في أدائها قبل الخوف . وذكر أن اللواتي يتوفى عنهن أزواجهن لهن وصية بتمتيع إلى انقضاء حول من وفاة الأزواج ، وأنهن لا يخرجن من بيوتهن في ذلك الحول ، فإن اخترن الخروج فخرجن ؛ فلا جناح على متولي أمرها فيما فعلت في نفسها . ثم أعلم أنه عزيز لا يغلب ويقهر ، حكيم بوضع الأشياء مواضعها . ثم ذكر تعالى أن للمطلقات متاعا مما عرف شرعا وعادة ، واقتضى ذلك عموم كل مطلقة ، وأن ذلك المتاع حق على من اتقى . ولما كان تعالى قد بين عدة أحكام فيما تقدم من الآيات ؛ أحال على ذلك التبيين ، وشبه التبيين الذي قد يأتي لسائر الآيات بالتبيين الذي سبق . وأن التبيين هو لرجائكم أن تتعقلوا عن الله أحكامه [ ص: 248 ] فتجتنبوا ما نهى تعالى عنه ، وتمتثلوا ما به أمر تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية