(
من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) كان المشركون يزعمون أن الأصنام تشفع لهم عند الله ، وكانوا يقولون : إنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى . وفي هذه الآية أعظم دليل على ملكوت الله ، وعظم كبريائه ، بحيث لا يمكن أن يقدم أحد على الشفاعة عنده إلا بإذن منه تعالى ، كما قال تعالى : (
لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن ) ودلت الآية على وجود الشفاعة بإذنه تعالى ، والإذن هنا معناه الأمر ، كما ورد " اشفع تشفع " أو العلم أو التمكين إن شفع أحد بلا أمر . و ( من ) رفع على الابتداء ، وهو استفهام في معنى النفي ، ولذلك دخلت إلا ، في قوله : ( إلا بإذنه ) وخبر المبتدأ قالوا ( ذا ) ويكون ( الذي ) نعتا لذا ، أو بدلا منه ، وعلى هذا الذي قالوا : يكون ( ذا ) اسم إشارة ، وفي ذلك بعد ؛ لأن ذا ، إذا كان اسم إشارة وكان خبرا عن ( من ) استقلت بهما الجملة ، وأنت ترى احتياجها إلى الموصول بعدها . والذي يظهر أن ( من ) الاستفهامية ركب
[ ص: 279 ] معها ( ذا ) وهو الذي يعبر عنها بعض النحويين أن ( ذا ) لغو ، فيكون ( من ذا ) كله في موضع رفع بالابتداء ، والموصول بعدهما هو الخبر ، إذ به يتم معنى الجملة الابتدائية ، و ( عنده ) معمول لـ ( يشفع ) وقيل : يجوز أن يكون حالا من الضمير في ( يشفع ) فيكون التقدير : يشفع مستقرا عنده ، وضعف بأن المعنى على يشفع إليه . وقيل : الحال أقوى ؛ لأنه إذا لم يشفع من هو عنده وقريب منه ، فشفاعة غيره أبعد ، و ( بإذنه ) متعلق بـ ( يشفع ) والباء للمصاحبة ، وهي التي يعبر عنها بالحال ، أي : لا أحد يشفع عنده إلا مأذونا له .
(
يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ) الضمير يعود على ( ما ) وهم الخلق ، وغلب من يعقل ، وقيل : الضميران في ( أيديهم ) و ( خلفهم ) عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله : (
له ما في السماوات وما في الأرض ) قاله
ابن عطية ، وجوز
ابن عطية أن يعود على ما دل عليه ( من ذا ) من الملائكة والأنبياء . وقيل : على الملائكة ، قاله
مقاتل ، و ( ما بين أيديهم ) أمر الآخرة ( وما خلفهم ) أمر الدنيا . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وقتادة ، أو العكس قاله
مجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ،
والحكم بن عتبة ،
والسدي وأشياخه . و ( ما بين أيديهم ) هو ما قبل خلقهم ( وما خلفهم ) هو ما بعد خلقهم ، أو ما بين أيديهم ما أظهروه ، وما خلفهم ما كتموه . قاله
الماوردي ، أو ما بين أيديهم من السماء إلى الأرض ، وما خلفهم ما في السماوات . أو ما بين أيديهم الحاضر من أفعالهم وأحوالهم ، وما خلفهم ما سيكون . أو عكسه ، ذكر هذين القولين تاج القراء في تفسيره . أو ما بين أيدي الملائكة من أمر الشفاعة ، وما خلفهم من أمر الدنيا ، أو بالعكس قاله
مجاهد . أو ما فعلوه وما هم فاعلوه ، قاله
مقاتل . والذي يظهر أن هذا كناية عن إحاطة علمه تعالى بسائر المخلوقات من جميع الجهات وكنى بهاتين الجهتين عن سائر جهات من أحاط علمه به ، كما تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، وأنت تعني بذلك جميع جسده ، واستعيرت الجهات لأحوال المعلومات ، فالمعنى أنه تعالى عالم بسائر أحوال المخلوقات ، لا يعزب عنه شيء ، فلا يراد بما بين الأيدي ولا بما خلفهم شيء معين ، كما ذهبوا إليه .