(
الشيطان يعدكم الفقر ) أي : يخوفكم بالفقر ، يقول للرجل : أمسك فإن تصدقت افتقرت ، وروى
أبو حيوة عن رجل من أهل الرباط أنه قرأ : ( الفقر ) بضم الفاء ، وهي لغة ، وقرئ ( الفقر ) بفتحتين .
(
ويأمركم بالفحشاء ) أي : يغريكم بها إغراء الآمر ، والفحشاء : البخل وترك الصدقة ، أو المعاصي مطلقا ، أو الزنا ، أقوال . ويحتمل أن تكون الفحشاء الكلمة السيئة ، كما قال الشاعر :
ولا ينطق الفحشاء من كان منهم إذا جلسوا منا ولا من سوائنا
وكأن الشيطان يعد الفقر لمن أراد أن يتصدق ، ويأمره - إذ منع - بالرد القبيح على السائل ، وبخه وأقهره بالكلام السيء ، وروى
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374019إن للشيطان لمة من ابن آدم ، وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، فمن وجد ذلك فليتعوذ . وأما لمة الملك فوعد بالحق وتصديق بالخير ، فمن وجد ذلك فليحمد الله " . ثم قرأ - عليه السلام - : ( الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء ) الآية . وتقدم وعد الشيطان على أمره ؛ لأنه بالوعد يحصل الاطمئنان إليه ، فإذا اطمأن إليه وخاف الفقر تسلط عليه بالأمر ، إذ الأمر استعلاء على المأمور .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : والفاحش عند العرب البخيل ، وقال أيضا : ويأمركم بالفحشاء ويغريكم على البخل ومنع الصدقات ، انتهى . فتكون الجملة الثانية كالتوكيد للأولى ، ونظرنا إلى ما شرحه الشراح في الفاحش في نحو قول الشاعر :
حتى تأوى إلى لا فاحش برم ولا شحيح إذا أصحابه غنموا
وقال الآخر :
أرى الموت يعتام الكرام ويصطفي عقيلة مال الفاحش المتشدد
فقالوا : الفاحش السيء الخلق ، ولو كان الفاحش هو البخيل لكان قوله : ولا شحيح ، من باب التوكيد ، وقال في قول
امرئ القيس :
وجيد كجيد الريم ليس بفاحش
إن معناه ليس بقبيح ، ووافق
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أبا مسلم في تفسير الفاحش بالبخيل ، والفحشاء بالبخل ، قال بعضهم . وأنشد
أبو مسلم قول
طرفة :
عقيلة مال الفاحش المتشدد
قال : والأغلب في كلام العرب ، وفي تفسير البيت الذي أنشده أن الفاحش السيء الرد لضيفانه ، وسؤاله ، قال : وقد وجدنا بعد ذلك شعرا يشهد لتأويل أبي مسلم أن الفحشاء البخل ، وقال راجز من
طيء :
قد أخذ المجد كما أرادا ليس بفحاش يصر الزادا
انتهى . ولا حجة في هذا البيت على أنه أراد بالفحاش البخيل ، بل يحمل على السيء الخلق ، أو السيء الرد ، ويفهم البخيل من قوله : يصر الزادا .
(
والله يعدكم مغفرة منه وفضلا ) أي : سترا لذنوبكم مكافأة للبذل ، ( وفضلا ) زيادة على مقتضى ثواب البذل ، وقيل : وفضلا ، أن يخلف عليكم أفضل مما أنفقتم ، أو وثوابا عليه في
[ ص: 320 ] الآخرة ، ولما تقدم قوله : (
ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ) وكان الحامل لهم على ذلك إنما هو الشح والبخل بالجيد الذي مثيره الشيطان ، بدئ بهذه الجملة من قوله (
الشيطان يعدكم الفقر ) وإن ما تصدقتم من الخبيث إنما ذلك من نزغات الشيطان ليقبح لهم ما ارتكبوه من ذلك بنسبته إلى الشيطان ، فيكون أبعد شيء عنه ، ثم ذكر تعالى في مقابلة وعد الشيطان وعد الله بشيئين : أحدهما : الستر لما اجترحوه من الذنوب . والثاني : الفضل وهو زيادة الرزق والتوسعة في الدنيا والآخرة ، روي أن في التوراة : عبدي ، أنفق من رزقي أبسط عليك فضلي ، فإن يدي مبسوطة على كل يد مبسوطة . وفي كتاب الله مصداقه : (
وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ) .
(
والله واسع عليم ) أي : واسع بالجود والفضل على من أنفق ، عليم بنيات من أنفق ، وقيل : عليم أين يضع فضله ، ووردت الأحاديث بتفضيل الإنفاق والسماحة وذم البخل ، منها حديث
البراء ، قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
إن الله يحب الإنفاق ويبغض الإقتار ، فكل وأطعم ولا تصرر ، فيعسر عليك الطلب " . وقوله - صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10370342 " وأي داء أردأ من البخل " .
(
يؤتي الحكمة من يشاء ) قرأ
nindex.php?page=showalam&ids=14355الربيع بن خيثم بالتاء في ( تؤتي ) وفي : تشاء ، على الخطاب ، وهو التفات ؛ إذ هو خروج من غيبة إلى خطاب ، والحكمة : القرآن ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
ومجاهد ،
والضحاك ،
ومقاتل في آخرين ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس فيما رواه عنه
علي بن طلحة : معرفة ناسخ القرآن ومنسوخه ، ومحكمه ومتشابهه ، ومقدمه ومؤخره ، وقال فيما رواه عنه
أبو صالح : النبوة ، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، وقال
إبراهيم ،
وأبو العالية ،
وقتادة : الفهم في القرآن . وقال
مجاهد ، وقال
الحسن : الورع في دين الله ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14354الربيع بن أنس : الخشية ، وقال
ابن زيد ، وأبوه
nindex.php?page=showalam&ids=15944زيد بن أسلم : العقل في أمر الله ، وقال
شريك : الفهم . وقال
ابن قتيبة : العلم والعمل ، لا يسمى حكيما حتى يجمعهما . وقال
مجاهد أيضا : الكتابة . وقال
ابن المقفع : ما يشهد العقل بصحته ، وقال
القشيري : وقال فيما روى عنه
ابن القاسم : التفكر في أمر الله والاتباع له ، وقال أيضا : طاعة الله والفقه والدين والعمل به . وقال
عطاء : المغفرة . وقال
أبو عثمان : نور يفرق به بين الوسواس والمقام . ووجدت في نسخة : والإلهام بدل المقام . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14946القاسم بن محمد : أن يحكم عليك خاطر الحق دون شهوتك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15574بندار بن الحسين : سرعة الجواب مع إصابة الصواب . وقال
المفضل : الرد إلى الصواب . وقال
الكتاني : ما تسكن إليه الأرواح . وقيل : إشارة بلا علة ، وقيل : إشهاد الحق على جميع الأحوال . وقيل : صلاح الدين وإصلاح الدنيا . وقيل : العلم اللدني . وقيل : تجريد السر لورود الإلهام . وقيل : التفكر في الله تعالى ، والاتباع له . وقيل : مجموع ما تقدم ذكره : فهذه تسع وعشرون مقالة لأهل العلم في تفسير الحكمة .
قال
ابن عطية ، وقد ذكر جملة من الأقوال في تفسير الحكمة ما نصه : وهذه الأقوال كلها ، ما عدا قول
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي ، قريب بعضها من بعض ؛ لأن الحكمة مصدر من الإحكام وهو الإتقان في عمل أو قول ، وكتاب الله حكمة ، وسنة نبيه حكمة ، وكل ما ذكر فهو جزء من الحكمة التي هي الجنس ، انتهى كلامه .
وقد تقدم تفسير الحكمة في قوله : (
ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ) فكان يغني عن إعادة تفسيرها هنا ، إلا أنه ذكرت هنا أقاويل لم يذكرها المفسرون هناك ، فلذلك فسرت هنا .
(
ومن يؤت الحكمة ) قرأ الجمهور مبنيا للمفعول الذي لم يسم فاعله ، وهو ضمير ( من ) وهو المفعول الأول لـ ( يؤت ) وقرأ يعقوب ( ومن يؤت ) بكسر التاء مبنيا للفاعل ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : بمعنى ومن يؤته الله ، انتهى .
فإن أراد تفسير المعنى فهو صحيح ، وإن أراد تفسير الإعراب فليس كذلك ، ليس في ( يؤت ) ضمير نصب حذف ، بل مفعوله مقدم بفعل الشرط ، كما تقول : أيا تعط درهما أعطه درهما . وقرأ
[ ص: 321 ] nindex.php?page=showalam&ids=13726الأعمش ( ومن يؤته الحكمة ) بإثبات الضمير الذي هو المفعول الأول لـ ( يؤت ) والفاعل في هذه القراءة ضمير مستكن في ( يؤت ) عائد على الله تعالى ، وكرر ذكر الحكمة ولم يضمرها لكونها في جملة أخرى ، وللاعتناء بها ، والتنبيه على شرفها وفضلها وخصالها .
(
فقد أوتي خيرا كثيرا ) هذا جواب الشرط ، والفعل الماضي المصحوب بقد ، الواقع جوابا للشرط في الظاهر قد يكون ماضي اللفظ ، مستقبل المعنى ، كهذا ، فهو الجواب حقيقة ، وقد يكون ماضي اللفظ والمعنى ، كقوله تعالى : (
وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) فتكذيب الرسل واقع فيما مضى من الزمان ، وإذا كان كذلك فلا يمكن أن يكون جواب الشرط ؛ لأن الشرط مستقبل ، وما ترتب على المستقبل مستقبل ، فالجواب في الحقيقة إنما هو محذوف ، ودل هذا عليه ، التقدير : وإن يكذبوك فتسل ، فقد كذبت رسل من قبلك ، فحالك مع قومك كحالهم مع قومهم .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري و (
خيرا كثيرا ) تنكير تعظيم ، كأنه قال : فقد أوتي أي خير كثير ، انتهى . وهذا الذي ذكره يستدعي أن في لسان العرب تنكير تعظيم ، ويحتاج إلى الدليل على ثبوته ، وتقديره : أي خير كثير ، إنما هو على أن يجعل ( خيرا ) صفة لخير محذوف ، أي : فقد أوتي خيرا ، أي خير كثير ، ويحتاج إلى إثبات مثل هذا التركيب من لسان العرب ، وذلك أن المحفوظ أنه إذا وصف بأي ; فإنما تضاف للفظ مثل الموصوف ، تقول : مررت برجل أي رجل ، كما قال الشاعر :
دعوت امرأ أي امرئ ، فأجابني وكنت وإياه ملاذا وموئلا
وإذا تقرر هذا ، فهل يجوز وصف ما يضاف إليه ؟ أي : إذا كانت صفة ، فتقول : مررت برجل أي رجل كريم ، أو لا يجوز ؟ يحتاج جواب ذلك إلى دليل سمعي ، وأيضا ففي تقديره : أي خير كثير ، حذف الموصوف وإقامة ( أي ) الصفة مقامه ، ولا يجوز ذلك إلا في ندور ، لا تقول : رأيت أي رجل ، تريد رجلا أي رجل إلا في ندور نحو قول الشاعر :
إذا حارب الحجاج أي منافق علاه بسيف كلما هز يقطع
يريد منافقا ، أي منافق ، وأيضا ففي تقديره : خيرا كثيرا أي خير كثير ، حذف ( أي ) الصفة ، وإقامة المضاف إليه مقامها ، وقد حذف الموصوف به ، أي : فاجتمع حذف الموصوف به وحذف الصفة ، وهذا كله يحتاج في إثباته إلى دليل .
(
وما يذكر إلا أولو الألباب ) أصله : يتذكر ، فأدغم التاء في الذال ، و (
أولو الألباب ) هم أصحاب العقول السليمة ، وفي هذا حث على العمل بطاعة الله ، والامتثال لما أمر به من الإنفاق ، ونهى عنه من التصدق بالخبيث ، وتحذير من وعد الشيطان وأمره ، ووثوق بوعد الله ، وتنبيه على أن الحكمة هي العقل المميز به بين الحق والباطل ، وذكر التذكر لما قد يعرض للعاقل من الغفلة في بعض الأحيان ، ثم يتذكر ما به صلاح دينه ودنياه فيعمل عليه .