صفحة جزء
( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ) مناسبة هذه [ ص: 333 ] الآية لما قبلها أن ما قبلها وارد في تفضيل الإنفاق والصدقة في سبيل الله ، وأنه يكون ذلك من طيب ما كسب ، ولا يكون من الخبيث ، فذكر نوع غالب عليهم في الجاهلية ، وهو خبيث ، وهو : الربا ، حتى يمتنع من الصدقة بما كان من ربا ، وأيضا فتظهر مناسبة أخرى ، وذلك أن الصدقات فيها نقصان مال ، والربا فيه زيادة مال ، فاستطرد من المأمور به إلى ذكر المنهي عنه لما بينهما من مناسبة ذكر التضاد ، وأبدى لأكل الربا صورة تستبشعها العرب على عادتها في ذكر ما استغربته واستوحشت منه ، كقوله : ( طلعها كأنه رءوس الشياطين ) وقول الشاعر :


ومسنونة زرق كأنياب أغوال



وقول الآخر :


خيلا كأمثال السعالي شربا



وقول الآخر :


بخيل عليها جنة عبقرية



والأكل هنا قيل على ظاهره من خصوص الأكل ، وأن الخبر عنهم مختص بالآكل الربى ، وقيل : عبر عن معاملة الربا وأخذه بالأكل ؛ لأن الأكل غالب ما ينتفع به فيه ، كما قال تعالى : ( وأخذهم الربا ) وقيل : الربا هنا كناية عن الحرام ، لا يخص الربا الذي في الجاهلية ، ولا الربا الشرعي ، وقرأ العدوي ( الربو ) بالواو ، وقيل : وهي لغة الحيرة ، ولذلك كتبها أهل الحجاز بالواو ؛ لأنهم تعلموا الخط من أهل الحيرة ، وهذه القراءة على لغة من وقف على أفعى بالواو ، فقال : هذه أفعو ، فأجرى هذا القارئ الوصل إجراء الوقف .

وحكى أبو زيد : أن بعضهم قرأ بكسر الراء وضم الباء وواو ساكنة ، وهي قراءة بعيدة ؛ لأن لا يوجد في لسان العرب اسم آخره واو قبلها ضمة ، بل متى أدى التصريف إلى ذلك قلبت تلك الواو ياء وتلك الضمة كسرة ، وقد أولت هذه القراءة على أنها على لغة من قال : في أفعى : أفعو ، في الوقف . وأن القارئ إما أنه لم يضبط حركة الباء ، أو سمى قربها من الضمة ضما .

و ( لا يقومون ) خبر عن ( الذين ) ووقع في بعض التصانيف أنها جملة حالية ، وهو بعيد جدا ؛ إذ يتكلف إضمار خبر من غير دليل عليه ، وظاهر هذا الإخبار أنه عن الذين يأكلون الربا ، وقيل : هو إخبار ووعيد عن الذين يأكلون الربا مستحلين ذلك ، بدليل قولهم : ( إنما البيع مثل الربا ) وقوله : ( والله لا يحب كل كفار أثيم ) وقوله : ( فأذنوا بحرب من الله ورسوله ) ومن اختار حرب الله ورسوله فهو كافر ، وهذا القيام الذي في الآية قيل : هو يوم القيامة .

وقال ابن عباس ، ومجاهد ، وجبير ، والضحاك ، والربيع ، والسدي ، وابن زيد : معناه لا يقومون من قبورهم في البعث يوم القيامة إلا كالمجانين ، عقوبة لهم وتمقيتا عند جمع المحشر ، ويكون ذلك سيما لهم يعرفون بها ، ويقوي هذا التأويل قراءة عبد الله ( لا يقومون يوم القيامة ) وقال بعضهم : يجعل معه شيطان يخنقه كأنه يخبط في المعاملات في الدنيا ، فجوزي في الآخرة بمثل فعله ، وقد أثر في حديث الإسراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى أكلة الربا ، كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، وذكر حالهم أنهم إذا قاموا تميل بهم بطونهم فيصرعون ، وفي طريق أنه رأى بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم .

قال ابن عطية : وأما ألفاظ الآية فيحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون ؛ لأن الطمع والرغبة يستفزه حتى تضطرب أعضاؤه ، كما يقوم المسرع في مشيه يخلط في هيئة حركاته ، إما من فزع أو غيره قد جن ، هذا وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله :


وتصبح عن غب السرى وكأنها     ألم بها من طائف الجن أولق



لكن ما جاءت به قراءة ابن مسعود وتظاهرت به أقوال المفسرين يضعف هذا التأويل ، انتهى كلامه . [ ص: 334 ] وهو حسن إلا كما يقوم الكاف في موضع الحال ، أو نعتا لمصدر محذوف على الخلاف المتقدم بين سيبويه وغيره ، وتقدم في مواضع .

و ( ما ) الظاهر أنها مصدرية ، أي : كقيام الذي ، وأجاز بعضهم أن يكون بمعنى الذي والعائد محذوف تقديره : إلا كما يقومه الذي يتخبطه الشيطان ، قيل : معناه كالسكران الذي يستجره الشيطان فيقع ظهر البطن ، ونسبه إلى الشيطان ؛ لأنه مطيع له في سكره .

وظاهر الآية أن الشيطان يتخبط الإنسان ، فقيل ذلك حقيقة هو من فعل الشيطان بتمكين الله تعالى له من ذلك في بعض الناس ، وليس في العقل ما يمنع من ذلك ، وقيل : ذلك من فعل الله لما يحدثه فيه من غلبة السوء أو انحراف الكيفيات واحتدادها فتصرعه ، فنسب إلى الشيطان مجازا تشبيها بما يفعله أعوانه مع الذين يصرعونهم ، وقيل : أضيف إلى الشيطان على زعمات العرب أن الشيطان يخبط الإنسان فيصرعه ، فورد على ما كانوا يعتقدون ، يقولون : رجل ممسوس ، وجن الرجل ، قال الزمخشري : ورأيتهم لهم في الجن قصص وأخبار وعجائب ، وإنكار ذلك عنده كإنكار المشاهدات ، انتهى .

وتخبط هنا : تفعل ، موافق للمجرد ، وهو خبط ، وهو أحد معاني : تفعل ، نحو : تعدى الشيء وعداه إذا جاوزه ، من المس ، المس الجنون يقال : مس فهو ممسوس وبه مس ، أنشد ابن الأنباري ، رحمه الله تعالى :


أعلل نفسي بما لا يكون     كذي المس جن ولم يخنق



وأصله من المس باليد ، كأن الشيطان يمس الإنسان فيجنه ، وسمي الجنون مسا كما أن الشيطان يخبطه ويطأه برجله فيخيله ، فسمي الجنون خبطة ، فالتخبط بالرجل والمس باليد ، ويتعلق : من المس ، بقوله : ( يتخبطه ) وهو على سبيل التأكيد ، ورفع ما يحتمله يتخبطه من المجاز إذ هو ظاهر في أنه لا يكون إلا من المس ، ويحتمل أن يراد بالتخبط الإغواء وتزيين المعاصي ، فأزال قوله ( من المس ) هذا الاحتمال ، وقيل : يتعلق بـ ( يقوم ) أي : كما يقوم من جنونه المصروع ، وقال الزمخشري : فإن قلت : بم يتعلق قوله ( من المس ) ؟ قلت : بـ ( لا يقومون ) ، أي : لا يقومون من المس الذي بهم إلا كما يقوم المصروع ، انتهى .

وكان قد قدم في شرح المس أنه الجنون ، وهو الذي ذهب إليه في تعلق ( من المس ) بقوله : ( لا يقومون ) ضعيف لوجهين : أحدهما : أنه قد شرح المس بالجنون ، وكان قد شرح أن قيامهم لا يكون إلا في الآخرة ، وهناك ليس بهم جنون ولا مس ، ويبعد أن يكنى بالمس الذي هو الجنون عن أكل الربا في الدنيا ، فيكون المعنى : لا يقومون يوم القيامة ، أو من قبورهم من أجل أكل الربا إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان ، إذ لو أريد هذا المعنى لكان التصريح به أولى من الكناية عنه بلفظ المس ، إذ التصريح به أبلغ في الزجر والردع .

والوجه الثاني : أن ما بعد إلا لا يتعلق بما قبلها ، إلا إن كان في حيز الاستثناء ، وهذا ليس في حيز الاستثناء ، ولذلك منعوا أن يتعلق ( بالبينات والزبر ) بقوله : ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا ) وأن التقدير : ما أرسلنا بالبينات والزبر إلا رجالا .

( ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا ) الإشارة بذلك إلى ذلك القيام المخصوص بهم في الآخرة ، ويكون مبتدأ ، والمجرور الخبر ، أي : ذلك القيام كائن بسب أنهم ، وقيل : خبر مبتدأ محذوف تقديره : قيامهم ذلك إلا أن في هذا الوجه فصلا بين المصدر ومتعلقه الذي هو ( بأنهم ) على أنه لا يبعد جواز ذلك لحذف المصدر ، فلم يظهر قبح بالفصل بالخبر ، وقدره الزمخشري : ذلك العقاب بسبب أنهم ، والعقاب هو ذلك القيام ، ويحتمل أن يكون ذلك إشارة إلى أكلهم الربا ، أي : ذلك الأكل الذي استحلوه بسبب قولهم واعتقادهم أن البيع مثل الربا ، أي : مستندهم في ذلك التسوية عندهم بين الربا والبيع ، وشبهوا البيع وهو المجمع على جوازه بالربا وهو محرم ، ولم يعكسوا تنزيلا لهذا الذي يفعلونه من الربا منزلة الأصل المماثل له البيع ، وهذا من [ ص: 335 ] عكس التشبيه ، وهو موجود في كلام العرب ، قال ذو الرمة :


ورمل كأوراك العذارى قطعته



وهو كثير في أشعار المولدين ، كما قال أبو القاسم بن هانئ :


كأن ضياء الشمس غرة جعفر     رأى القرن فازدادت طلاقته ضعفا



وكان أهل الجاهلية إذا حل دينه على غريمه طالبه ، فيقول : زدني في الأجل وأزيدك في المال ، فيفعلان ذلك ويقولان : سواء علينا الزيادة في أول البيع بالربح ، أو عند المحل لأجل التأخير ، فكذبهم الله تعالى ، وقيل : كانت ثقيف أكثر العرب ربا ، فلما نهوا عنه قالوا : إنما هو مثل البيع .

( وأحل الله البيع وحرم الربا ) ظاهره أنه من كلام الله تعالى لا من كلامهم ، وفي ذلك رد عليهم إذ ساووا بينهما ، والحكم في الأشياء إنما هو إلى الله تعالى ، لا يعارض في حكمه ولا يخالف في أمره ، وفي هذه الآية دلالة على أن القياس في مقابلة النص لا يصح ، إذ جعل تعالى الدليل في إبطال قولهم هو : أن الله أحل البيع وحرم الربا ، وقال بعض العلماء : قياسهم فاسد ؛ لأن البيع عوض ومعوض لا غبن فيه ، والربا فيه التغابن وأكل المال الباطل ؛ لأن الزيادة لا مقابل لها من جنسها ، بخلاف البيع ، فإن الثمن مقابل بالمثمن .

قال جعفر الصادق : حرم الله الربا ليتقارض الناس ، وقيل : حرم لأنه متلف للأموال ، مهلك للناس ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون : ( وأحل الله البيع وحرم الربا ) من كلامهم ، فكانوا قد عرفوا تحريم الله الربا فعارضوه بآرائهم ، فكان ذلك كفرا منهم ، والظاهر : عموم البيع والربا في كل بيع ، وفي كل ربا ، إلا ما خصه الدليل من تحريم بعض البيوع وإحلال بعض الربا ، وقيل : هما مجملان ، فلا يقدم على تحليل بيع ولا تحريم ربا إلا ببيان ، وهذا فرق ما بين العام والمجمل ، وقيل : هو عموم دخله التخصيص ، ومجمل دخله التفسير ، وتقاسيم البيع والربا وتفاصيلهما مذكور في كتب الفقه .

والظاهر أن الآية كما قالوا في الكفار ، لقوله : ( فله ما سلف ) لأن المؤمن العاصي بالربا ليس له ما سلف ، بل ينقض ويرد فعله ، وإن كان جاهلا بالتحريم ، لكنه يأخذ بطرف من وعيد هذه الآية .

( فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف ) حذف تاء التأنيث من : جاءته ، للفصل ، ولأن تأنيث الموعظة مجازي ، وقرأ أبي ، والحسن ( فمن جاءته ) بالتاء على الأصل ، وتلت عائشة هذه الآية حين سألتها العالية بنت أبقع - زوج أبي إسحاق السبيعي - عن شرائها جارية بستمائة درهم نقدا من زيد بن أرقم ، وكانت قد باعته إياها بثمانمائة درهم إلى عطائه ، فقالت عائشة : بئسما شريت وما اشتريت ، فأبلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلا أن يتوب ، فقالت العالية : أرأيت إن لم آخذ منه إلا رأس مالي ؟ فتلت الآية عائشة . والموعظة : التحريم ، أو الوعيد ، أو القرآن ، أقوال ، ويتعلق ( من ربه ) بـ ( جاءته ) أو بمحذوف ، فيكون صفة لموعظة ، وعلى التقدير فيه تعظيم الموعظة إذ جاءته من ربه ، الناظر له في مصالحه ، وفي ذكر الرب تأنيس لقبول الموعظة ، إذ الرب فيه إشعار بإصلاح عبده ، فانتهى تبع النهي ، ورجع عن المعاملة بالربا ، أو عن كل محرم من الاكتساب ( فله ما سلف ) أي : ما تقدم له أخذه من الربا لاتباعه عليه منه في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا حكم من الله لمن أسلم من كفار قريش وثقيف ، ومن كان يتجر هنالك ، وهذا على قول من قال : الآية مخصوصة بالكفار ، ومن قال : إنها عامة فمعناه : فله ما سلف قبل التحريم .

( وأمره إلى الله ) الظاهر أن الضمير في ( أمره ) عائد على المنتهي ، إذ سياق الكلام معه ، وهو بمعنى التأنيس له وبسط أمله في الخير ، كما تقول : أمره إلى طاعة وخير ، وموضع رجاء ، والأمر هنا ليس في الربا خاصة ، بل وجملة أموره ، وقيل : في الجزاء والمحاسبة . وقيل : في العفو والعقوبة . وقيل : أمره إلى الله يحكم في شأنه يوم القيامة ، لا إلى [ ص: 336 ] الذين عاملهم ، فلا يطالبونه بشيء . وقيل : المعنى فأجره على الله لقبوله الموعظة ، قاله الحسن . وقيل : الضمير يعود على ( ما سلف ) أي : في العفو عنه ، وإسقاط التبعة فيه ، وقيل : يعود على ذي الربا ، أي : في أن يثبته على الانتهاء ، أو يعيده إلى المعصية ، قاله ابن جبير ، ومقاتل ، وقيل : يعود على الربا أي : في إمرار تحريمه ، أو غير ذلك ، وقيل : في عفو الله من شاء منه ، قاله أبو سليمان الدمشقي .

( ومن عاد ) إلى فعل الربا ، والقول بأن البيع مثل الربا ، قال سفيان : ومن عاد إلى فعل الربا حتى يموت فله الخلود ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ) تقدم تفسير هذه الجملة الواقعة خبرا لمن ، وحمل ( فيها ) على المعنى بعد الحمل على اللفظ ، فإن كانت في الكفار فالخلود خلود تأبيد ، أو في مسلم عاص فخلوده دوام مكثه لا التأبيد ، وقال الزمخشري : وهذا دليل بين على تخليد الفساق ، انتهى ، وهو جار على مذهبه الاعتزالي في : أن الفاسق يخلد في النار أبدا ولا يخرج منها ، وورد عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصح أن أكل الربا من السبع الموبقات ، وروي عن عون بن أبي جحيفة ، عن أبيه : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعن آكل الربا وموكله ، وسأل مالكا - رحمه الله - رجل رأى سكران يتقافز ، يريد أن يأخذ القمر ، فقال : امرأته طالق إن كان يدخل جوف ابن آدم شر من الخمر ، أتطلق امرأته ؟ فقال له مالك ، بعد أن رده مرتين : امرأتك طالق ، تصفحت كتاب الله وسنة نبيه فلم أر شيئا أشر من الربا ؛ لأن الله تعالى قد آذن فيه بالحرب .

( يمحق الله الربا ) أي : يذهب ببركته ويذهب المال الذي يدخل فيه ، رواه أبو صالح عن ابن عباس ، وبه قال ابن جبير ، وعن ابن مسعود : أن الربا وإن كثر ، فعاقبته إلى قل . وروى الضحاك عن ابنعباس أن محاقه إبطال ما يكون منه من صدقة وصلة رحم وجهاد ونحو ذلك .

( ويربي الصدقات ) قيل : الإرباء حقيقة وهو أنه يزيدها وينميها في الدنيا بالبركة ، وكثرة الأرباح في المال الذي خرجت منه الصدقة ، وقيل : الزيادة معنوية ، وهي تضاعف الحسنات والأجور الحاصلة بالصدقة ، كما جاء في كثير من الآيات والأحاديث ، وقرأ ابن الزبير ، ورويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ( يمحق ويربي ) من : محق وربى مشددا . وفي ذكر المحق والإرباء بديع الطباق ، وفي ذكر الربا ويربى بديع التجنيس المغاير .

( والله لا يحب كل كفار أثيم ) فيه تغليظ أمر الربا وإيذان أنه من فعل الكفار لا من فعل أهل الإسلام ، وأتى بصيغة المبالغة في الكافر والآثم ، وإن كان تعالى لا يحب الكافر ؛ تنبيها على عظم أمر الربا ومخالفة الله ، وقولهم : ( إنما البيع مثل الربا ) وأنه لا يقول ذلك ، ويسوي بين البيع والربا ليستدل به على أكل الربا إلا مبالغ في الكفر ، مبالغ في الإثم ، وذكر الأثيم على سبيل المبالغة والتوكيد من حيث اختلف اللفظان ، وقال ابن فورك : ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في ( كفار ) إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض ، انتهى ، وهذا فيه بعد ، إطلاق القرآن : الكافر ( والكافرون ) ، والكفار ، إنما هو على من كفر بالله ، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية ، كقوله : ( كمثل غيث أعجب الكفار نباته ) .

وقال ابن فورك : ومعنى الآية : ( والله لا يحب كل كفار أثيم ) محسنا صالحا ، بل يريده مسيئا فاجرا ، ويحتمل أن يريد : والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم . وقال ابن عطية : وهذه تأويلات مستكرهة : أما الأول فأفرط في تعدية الفعل ، وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه ، وأما الثاني فغير صحيح المعنى ، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه ، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ، ولطف به ، وحرص على حفظه وتظهر دلائل ذلك ، والله تعالى يريد وجود ظهور الكافر على ما هو عليه ، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه ، نحو ما ذكرناه في الشاهد ، وتلك المزية موجودة للمؤمن ، انتهى كلامه . والحب حقيقة ، وهو الميل الطبيعي ، منتف عن الله تعالى ، وابن فورك جعله بمعنى [ ص: 337 ] الإرادة ، فيكون صفة ذات ، وابن عطية جعله بمعنى اللطف وإظهار الدلائل ، فيكون صفة فعل وقد تقدم الكلام على ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية