(
بيدك الخير ) أي : بقدرتك وتصديقك وقع الخير ، ويستحيل وجود اليد بمعنى الجارحة لله تعالى . قيل : المعنى والشر ، نحو : تقيكم الحر ، أي والبرد . وحذف المعطوف جائز لفهم المعنى ، إذ أحد الضدين يفهم منه الآخر ، وهو تعالى قد ذكر إيتاء الملك ونزعه ، والإعزاز والإذلال ، وذلك خير لناس وشر لآخرين ، فلذلك كان التقدير : بيدك الخير والشر ، ثم ختمها بقوله (
إنك على كل شيء قدير ) فجاء بهذا العام المندرج تحته الأوصاف السابقة ، وجمع الخيور والشرور ، وفي الاقتصار على ذكر الخير تعليم لنا كيف نمدح ؟ بأن نذكر أفضل الخصال . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، فإن قلت : كيف قال (
بيدك الخير ) فذكر الخير دون الشر ؟ قلت : لأن الكلام إنما وقع في الخير الذي يسوقه إلى المؤمنين ، وهو الذي أنكرته الكفرة ، فقال : (
بيدك الخير ) تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك ; ولأن كل أفعال الله من نافع وضار صادر عن الحكمة والمصلحة فهو خير كله انتهى كلامه ، وهو يدافع آخره أوله ، لأنه ذكر في السؤال ; لم اقتصر على ذكر الخير دون الشر ؟
وأجاب بالجواب الأول ، وذلك يدل على أن بيده تعالى الخير والشر ، وإنما كان اقتصاره على الخير ; لأن الكلام إنما وقع فيما يسوقه تعالى من الخير للمؤمنين ، فناسب الاقتصار على ذكر الخير فقط . وأجاب بالجواب الثاني : وذلك يدل على أنه تعالى جميع أفعاله خير ليس فيها شر ، وهذا الجواب يناقض الأول . وقال
ابن عطية : خص الخير بالذكر ، وهو تعالى بيده كل شيء ; إذ الآية في معنى دعاء ورغبة ، فكان المعنى : (
بيدك الخير ) فأجزل حظي منه .
وقال
الراغب : لما كانت في الحمد والشكر لا للحكم ، ذكر الخير إذ هو المشكور عليه . وقال
الرازي : الخير فيه الألف واللام الدالة على العموم ، وتقديم : بيدك ، يدل على الحصر ، فدل على أن لا خير إلا بيده ، وأفضل الخيرات الإيمان ، فوجب أن يكون بخلق الله . ولأن فاعل الأشرف أشرف ، والإيمان أشرف .
(
تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل ) قال
ابن [ ص: 421 ] عباس ،
ومجاهد ،
والحسن ،
وقتادة ،
والسدي ،
وابن زيد : المعنى ما ينتقص من النهار يزيد في الليل ، وما ينتقص من الليل يزيد في النهار ، دأبا كل فصل من السنة ، قيل : حتى يصير الناقص تسع ساعات ، والزائد خمس عشرة ساعة . وذكر بعض معاصرينا : أجمع أرباب علم الهيئة ، على أن الذي تحصل به الزيادة من الليل والنهار بأخذ كل واحد منهما من صاحبه ثلاثين درجة ، فتنتهي زيادة الليل على النهار إلى أربع عشرة ساعة ، وكذلك العكس . وذكر
الماوردي : أن المعنى في الولوج هنا تغطية الليل بالنهار إذا أقبل ، وتغطية النهار بالليل إذا أقبل ، فصيرورة كل واحد منهما في زمان الآخر كالولوج فيه ، وأورد هذا القول احتمالا
ابن عطية ، فقال : ويحتمل لفظ الآية أن يدخل فيها تعاقب الليل والنهار ، وكان زوال أحدهما ولوج الآخر .
(
وتخرج الحي من الميت وتخرج الميت من الحي ) معنى الإخراج : التكوين هنا ، والإخراج حقيقة : هو إخراج الشيء من الظرف . قال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
ومجاهد ،
وقتادة ،
وإبراهيم ،
والسدي ،
وإسماعيل بن أبي خالة إبراهيم ،
وعبد الرحمن بن زيد . تخرج الحيوان من النطفة وهي ميتة إذا انفصلت النطفة من الحيوان ، وتخرج النطفة وهي ميتة من الرجل وهو حي ، فعلى هذا يكون الموت مجازا إذ النطفة لم يسبق لها حياة ، ويكون المعنى : وتخرج الحي من ما لا تحله الحياة ، وتخرج ما لا تحله الحياة من الحي ، والإخراج عبارة عن تغير الحال .
وقال
عكرمة ،
والكلبي ؛ أي : الفرخ من البيضة ، والبيضة من الطير ، والموت أيضا هنا مجاز ، والإخراج حقيقة . وقال
أبو مالك : النخلة من النواة ، والسنبلة من الحبة ، والنواة من النخلة ، والحبة من السنبلة ، والموت والحياة في هذا مجاز . وقال
الحسن : وروي نحوه عن
nindex.php?page=showalam&ids=23سلمان الفارسي : تخرج المؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن ، وهما أيضا مجاز . وفي الحديث : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : "
سبحان الله الذي يخرج الحي من الميت " . وقد رأى امرأة صالحة مات أبوها كافرا ، وهي
خالدة بنت الأسود بن عبد يغوث . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : يخرج النبات الغض الطري من الحب ، ويخرج الحب اليابس من النبات الحي . وقيل : الطيب من الخبيث ، والخبيث من الطيب . وقال
الماوردي : ويحتمل : يخرج الجلد الفطن من البليد العاجز ، والعكس ; لأن الفطنة حياة الحس ، والبلادة موته . وقيل : يخرج الحكمة من قلب الفاجر ; لأنها لا تستقر فيه ، والسقطة من لسان العارف ، وهذه كلها مجازات بعيدة . والأظهر في قوله (
الحي من الميت ) تصور اثنين . وقيل : عنى بذلك شيئا واحدا يتغير به الحال ، فيكون ميتا ثم يحيا ، وحيا ثم يموت . نحو قولك : جاء من فلان أسد . وقال
ابن عطية : ذهب جمهور من العلماء إلى أن الحياة والموت هنا حقيقتان لا استعارة فيهما ، ثم اختلفوا في المثل الذي فسروا به ، وذكر قول
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود وقول
عكرمة المتقدمين ، ولا يمكن الحمل إذ ذاك على الحقيقة أصلا ، وكذلك في الموت ، وشدد
حفص ،
ونافع ،
وحمزة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : الميت ، في هذه الآية . وفي الأنعام ، والأعراف ، ويونس ، والروم ، وفاطر ، زاد
نافع تشديد الياء في : (
أومن كان ميتا فأحييناه ) في الأنعام و (
الأرض الميتة ) في يس (
لحم أخيه ميتا ) في الحجرات . وقرأ الباقون بتخفيف ذلك ، ولا فرق بين التشديد والتخفيف في الاستعمال ، كما تقول : لين ولين ، وهين وهين . ومن زعم أن المخفف لما قد مات ، والمشدد لما قد مات ولما لم يمت فيحتاج إلى دليل .
(
وترزق من تشاء بغير حساب ) تقدم تفسير نظيره في قوله (
والله يرزق من يشاء بغير حساب كان الناس أمة واحدة ) فأغنى ذلك عن إعادته هنا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ذكر قدرته الباهرة ، فذكر حال الليل والنهار في المعاقبة بينهما ، وحال الحي والميت في إخراج أحدهما من الآخر ، وعطف عليه رزقه بغير حساب ; دلالة على أن من قدر على تلك الأفعال العظيمة المحيرة للأفهام ، ثم قدر أن يرزق بغير حساب
[ ص: 422 ] من يشاء من عباده ، فهو قادر على أن ينزع الملك من العجم ويذلهم ، ويؤتيه العرب ويعزهم انتهى . وهو حسن . قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة ، والبلاغة ، والبديع . الاستفهام الذي معناه التعجب في (
ألم تر إلى الذين ) . والإشارة في (
نصيبا من الكتاب ) فإدخال : من ، يدل على أنهم لم يحيطوا بالتوراة علما ، ولا حفظا ، وذلك إشارة إلى الإزراء بهم ، وتنقيص قدرهم وذمهم ; إذ يزعمون أنهم أخيار وهم بخلاف ذلك ، وفي قوله (
ذلك بأنهم ) إشارة إلى توليهم وإعراضهم اللذين سببهما افتراؤهم ، وفي (
ووفيت كل نفس ) إشارة إلى أن جزاء أعمالهم لا ينقص منه شيء .
والتكرار في (
نصيبا من الكتاب ) (
يدعون إلى كتاب الله ) إما في اللفظ والمعنى إن كان المدلول واحدا ، وإما في اللفظ إن كان مختلفا . وفي التولي والإعراض إن كانا بمعنى واحد . وفي : (
مالك الملك ) (
تؤتي الملك ) (
وتنزع الملك ) وتكراره في جمل للتفخيم والتعظيم ، إن كان المراد واحدا ، وإن اختلف كان من تكرار اللفظ فقط ، وتكرار (
من تشاء ) وفي ( تولج ) وفي ( تخرج ) وفي متعلقيهما . والاتساع في جعل في بمعنى على ، على قول من زعم ذلك في قوله (
تولج الليل في النهار ) أي : على النهار ، (
وتولج النهار في الليل ) أي : على الليل .
وعبر بالإيلاج عن العلو والتغشية . والنفي المتضمن الأمر في (
لا ريب فيه ) على قول
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، أي : لا ترتابوا فيه ، والتجنيس المماثل في (
مالك الملك ) والطباق : في : تؤتي وتنزع ، وتعز وتذل ، وفي الليل والنهار ، وفي الحي والميت . ورد العجز على الصدر في : تولج ، وما بعده ، والحذف وهو في مواضع مما يتوقف فهم الكلام على تقديرها . كقوله (
تؤتي الملك من تشاء ) أي : من تشاء أن تؤتيه . والإسناد المجازي في (
ليحكم بينهم ) أسند الحكم إلى الكتاب ; لأنه يبين الأحكام فهو سبب الحكم . وروي في الحديث : "
إن من أراد قضاء دينه قرأ كل يوم : ( قل اللهم مالك الملك ) إلى ( بغير حساب ) . وبقول : رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، تعطي منهما من تشاء اقض عني ديني . فلو كان ملء الأرض ذهبا لأداه الله " .
(
لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ) قيل : نزلت في
nindex.php?page=showalam&ids=63عبادة بن الصامت ; كان له حلفاء من
اليهود فأراد أن يستظهر بهم على العدو . وقيل : في
عبد الله بن أبي وأصحابه كانوا يتوالون
اليهود . وقيل : في قوم من
اليهود ، وهم :
الحجاج بن عمر ،
وكهمس بن أبي الحقيق ،
وقيس بن يزيد ، كانوا يباطنون نفرا من الأنصار يفتنونهم عن دينهم فنهاهم قوم من المسلمين وقالوا : اجتنبوا هؤلاء
اليهود ، فأبوا ، فنزلت ، هذه الأقوال مروية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . وقيل : في
nindex.php?page=showalam&ids=195حاطب بن بلتعة وغيره كانوا يظهرون المودة لكفار قريش ، فنزلت .
ومعنى اتخاذهم أولياء اللطف بهم في المعاشرة ; وذلك لقرابة أو صداقة ، قبل الإسلام ، أو يد سابقة أو غير ذلك ، وهذا فيما يظهر نهوا عن ذلك ، وأما أن يتخذ ذلك بقلبه ونيته فلا يفعل ذلك مؤمن ، والمنهيون هنا قد قرر لهم الإيمان ، فالنهي هنا إنما معناه النهي عن اللطف بهم والميل إليهم ، واللطف عام في جميع الأعصار ، وقد تكرر هذا في القرآن .
ويكفيك من ذلك قوله تعالى : (
لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ) الآية ،
والمحبة في الله والبغض في الله أصل عظيم من أصول الدين . وقرأ الجمهور : (
لا يتخذ ) ، على النهي ، وقرأ
الضبي برفع الذال على النفي ، والمراد به النهي ، وقد أجاز
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي فيه الرفع كقراءة
الضبي . ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى - لما ذكر ما يجب أن يكون المؤمن عليه من تعظيم الله تعالى والثناء عليه بالأفعال التي يختص بها ، ذكر ما يجب على المؤمن من معاملة الخلق ، وكانت الآيات السابقة في الكفار فنهوا عن موالاتهم ، وأمروا بالرغبة فيما عنده وعند أوليائه دون أعدائه ; إذ هو تعالى مالك الملك .
وظاهر الآية تقتضي النهي عن موالاتهم إلا ما فسح لنا فيه من اتخاذهم عبيدا ، والاستعانة بهم استعانة العزيز بالذليل ، والأرفع بالأوضع ، والنكاح فيهم . فهذا كله ضرب
[ ص: 423 ] من الموالاة أذن لنا فيه ، ولسنا ممنوعين منه ، فالنهي ليس على عمومه . (
من دون المؤمنين ) تقدم تفسير : من دون ، في قوله (
وادعوا شهداءكم من دون الله ) فأغنى عن إعادته .
و " يتخذ " ، هنا متعدية إلى اثنين ، ومن دون : متعلقة بقوله : " لا يتخذ " ؛ ومن : لابتداء الغاية . قال
علي بن عيسى : أي لا تجعلوا ابتداء الولاية من مكان دون مكان المؤمنين .