(
قل إن تخفوا ما في صدوركم أو تبدوه يعلمه الله ) تقدم تفسير نظير هذه الآية في أواخر آي البقرة ، وهناك قدم الإبداء على الإخفاء ، وهنا قدم الإخفاء على الإبداء ، وجعل محلهما ما في الصدور ، وأتى جواب الشرط قوله : (
يعلمه الله ) وذلك من التفنن في الفصاحة . والمفهوم أن الباري تعالى مطلع على ما في الضمائر ، لا يتفاوت علمه تعالى بخفاياها ، وهو مرتب على ما فيها الثواب والعقاب إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر . وفي ذلك تأكيد لعدم الموالاة ، وتحذير من ذلك .
(
ويعلم ما في السماوات وما في الأرض ) هذا دليل على سعة علمه ، وذكر عموم بعد خصوص ، فصار علمه بما في صدورهم مذكورا مرتين على سبيل التوكيد ، أحدهما : بالخصوص ، والآخر : بالعموم ، إذ هم ممن في الأرض .
(
والله على كل شيء قدير ) فيه تحذير مما يترتب على علمه تعالى بأحوالهم من المجازاة على ما أكنته صدورهم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وهذا بيان لقوله (
ويحذركم الله نفسه ) لأن نفسه ، وهي ذاته المتميزة من سائر الذوات ، متصفة بعلم ذاتي لا يختص بمعلوم دون معلوم ، فهي متعلقة بالمعلومات كلها وبقدرة ذاتية لا تختص بمقدور دون مقدور ، فهي قادرة على المقدورات كلها ، فكان حقها أن تحذر وتتقى ، فلا يجسر أحد على قبيح ، ولا يقصر عن واجب ، فإن ذلك مطلع عليه لا محالة ، فلاحق به العذاب انتهى . وهو كلام حسن ، وفيه التصريح بإثبات صفة العلم ، والقدرة لله تعالى ، وهو خلاف ما عليه أشياخه من المعتزلة ، وموافقة لأهل السنة في إثبات الصفات .
(
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا )
[ ص: 426 ] اختلف في العامل في : " يوم " ، فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : العامل فيه : ويحذركم ، ورجحه . وقال أيضا : العامل فيه : المصير . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17141مكي بن أبي طالب : العامل فيه : قدير ، وقال أيضا : فيه مضمر تقديره ، اذكر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : تقديره : اتقوا ، ويضعف نصبه بقوله : ويحذركم ; لطول الفصل . هذا من جهة اللفظ ، وأما من جهة المعنى فلأن التحذير موجود ، واليوم موعود ، فلا يصح له العمل فيه ، ويضعف انتصابه بالمصير ; للفصل بين المصدر ومعموله ، ويضعف نصبه بقدير ; لأن قدرته على كل شيء لا تختص بيوم دون يوم ، بل هو تعالى متصف بالقدرة دائما . وأما نصبه بإضمار فعل ، فالإضمار على خلاف الأصل . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : (
يوم تجد ) منصوب : بـ " تود " ، والضمير في : بينه ، ليوم القيامة ، حين تجد كل نفس خيرها وشرها حاضرين ، تتمنى لو أن بينها وبين ذلك اليوم وهو له أمدا بعيدا انتهى هذا التخريج .
والظاهر : في بادئ النظر حسنه وترجيحه ، إذ يظهر أنه ليس فيه شيء من مضعفات الأقوال السابقة ، لكن في جواز هذه المسألة ونظائرها خلاف بين النحويين ، وهي : إذا كان الفاعل ضميرا عائدا على شيء اتصل بالمعمول للفعل ، نحو : غلام هند ضربت ، وثوبي أخويك يلبسان ، ومال زيد أخذ ، فذهب
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي ،
وهشام ، وجمهور
البصريين إلى جواز هذه المسائل . ومنها الآية على تخريج
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، لأن الفاعل : بـ " تود " ، هو ضمير عائد على شيء اتصل بمعمول : تود ، وهو : " يوم " ، لأن : " يوم " ، مضاف إلى : تجد كل نفس ، والتقدير : يوم وجدان كل نفس ما عملت من خير محضرا ، وما عملت من سوء تود . وذهب
الفراء ،
وأبو الحسن الأخفش ، وغيره من البصريين إلى أن هذه المسائل وأمثالها لا تجوز ; لأن هذا المعمول فضلة ، فيجوز الاستغناء عنه ، وعود الضمير على ما اتصل به في هذه المسائل يخرجه عن ذلك ، لأنه يلزم ذكر المعمول ; ليعود الضمير الفاعل على ما اتصل به ، ولهذه العلة امتنع : زيدا ضرب ، وزيدا ظن قائما . والصحيح جواز ذلك قال الشاعر :
[ ص: 427 ] أجل المرء يستحث ولا يد ري إذا يبتغي حصول الأماني
أي : المرء في وقت ابتغائه حصول الأماني يستحث أجله ولا يشعر . وتجد : الظاهر أنها متعدية إلى واحد وهو : ما عملت ، فيكون بمعنى نصيب ، ويكون : محضرا ، منصوبا على الحال . وقيل : تجد ، هنا بمعنى : تعلم ، فتتعدى إلى اثنين ، وينتصب : محضرا على أنه مفعول ثان لها ، وما ، في : ما عملت ، موصولة ، والعائد عليها من الصلة محذوف ، ويجوز أن تكون مصدرية أي : عملها ، ويراد به إذ ذاك اسم المفعول ، أي : معمولها ، فقوله : ما عملت ، هو على حذف مضاف أي : جزاء ما عملت وثوابه .
قيل : ومعنى : محضرا على هذا موفرا غير مبخوس . وقيل : ترى ما عملت مكتوبا في الصحف محضرا إليها تبشيرا لها ; ليكون الثواب بعد مشاهدة العمل . وقرأ الجمهور : محضرا ، بفتح الضاد ، اسم مفعول . وقرأ عبيد بن عمير : " محضرا " بكسر الضاد ، أي محضرا الجنة أو محضرا مسرعا به إلى الجنة من قولهم : أحضر الفرس ، إذا جرى وأسرع . وما عملت من سوء ، يجوز أن تكون في موضع نصب ، معطوفا على : ما عملت من خير ، فيكون المفعول الثاني إن كان : تجد ، متعدية إليهما ، أو الحال إن كان يتعدى إلى واحد محذوفا ، أي : وما عملت من سوء محضرا . وذلك نحو : ظننت زيدا قائما وعمرا ، إذا أردت : وعمرا قائما ، وعلى هذا الوجه يجوز أن يكون : تود ، مستأنفا . ويجوز أن يكون : تود ، في موضع الحال أي : وادة تباعد ما بينها ، وبين ما عملت من سوء ، فيكون الضمير في بينه عائدا على ما عملت من سوء ، وأبعد
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في عوده على اليوم ، لأن أحد القسمين اللذين أحضرا له في ذلك اليوم هو : الخير الذي عمله ، ولا يطلب تباعد وقت إحضار الخير إلا بتجوز ; إذا كان يشتمل على إحضار الخير والشر ، فتود تباعده لتسلم من الشر ، ودعه لا يحصل له الخير .
والأولى عوده على ما عملت من السوء ، لأنه أقرب مذكور ، لأن المعنى أن السوء يتمنى في ذلك اليوم التباعد منه ، وإلى عطف ما عملت من سوء ، على ما عملت من خير ، وكون تود ، في موضع الحال ذهب إليه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ، ويجوز أن يكون : وما عملت من سوء ، موصولة في موضع رفع بالابتداء . وتود : جملة في موضع الخبر : لما ، التقدير : والذي عملته من سوء تود هي لو تباعد ما بينها وبينه ، وبهذا الوجه بدأ
[ ص: 428 ] nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وثنى به
ابن عطية ، واتفقا على أنه لا يجوز أن يكون وما عملت من سوء ، شرطا . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : لارتفاع " تود " . وقال
ابن عطية : لأن الفعل مستقبل مرفوع يقتضي جزمه ، اللهم إلا أن يقدر في الكلام محذوف ، أي : فهي تود ، وفي ذلك ضعف انتهى كلامه .
وظهر من كلاميهما امتناع الشرط لأجل رفع : تود ، وهذه المسألة كان سألني عنها قاضي القضاة
أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني السروجي الحنفي ، رحمه الله ، واستشكل قول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري . وقال : ينبغي أن يجوز ؛ غاية ما في هذا أن يكون مثل قول
زهير :
وإن أتاه خليل يوم مسألة يقول لا غائب مالي ولا حرم
وكتبت جواب ما سألني عنه في كتابي الكبير المسمى ( بالتذكرة ) ، ونذكر هنا ما تمس إليه الحاجة من ذلك بعد أن نقدم ما ينبغي تقديمه في هذه المسألة ، فنقول : إذا كان فعل الشرط ماضيا ، وما بعده مضارع تتم به جملة الشرط والجزاء ، جاز في ذلك المضارع الجزم ، وجاز فيه الرفع ، مثال ذلك : إن قام زيد يقوم عمرو ، وإن قام زيد يقم عمرو . فأما الجزم فعلى أنه جواب الشرط ، ولا نعلم في جواز ذلك خلافا ، وأنه فصيح ،
[ ص: 429 ] إلا ما ذكره صاحب كتاب ( الإعراب ) عن بعض النحويين أنه لا يجيء في الكلام الفصيح ، وإنما يجيء مع كان ، لقوله تعالى (
من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها ) لأنها أصل الأفعال ، ولا يجوز ذلك مع غيرها . وظاهر كلام
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، ونص الجماعة ، أنه لا يختص ذلك بكان ، بل سائر الأفعال في ذلك مثل كان ، وأنشد
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه nindex.php?page=showalam&ids=14899للفرزدق :
دست رسولا بأن القوم إن قدروا عليك يشفوا صدورا ذات توغير
وقال أيضا :
تعال فإن عاهدتني لا تخونني نكن مثل من يا ذئب يصطحبان
وأما الرفع فإنه مسموع من لسان العرب كثير . وقال بعض أصحابنا : وهو أحسن من الجزم ، ومنه بيت
زهير السابق إنشاده ، وهو قوله أيضا :
وإن سل ريعان الجميع مخافة يقول جهارا ويلكم لا تنفروا
وقال
أبو صخر :
ولا بالذي إن بان عنه حبيبه يقول ويخفي الصبر : إني لجازع
وقال الآخر :
وإن بعدوا لا يأمنون اقترابه تشوف أهل الغائب المتنظر
وقال الآخر :
وإن كان لا يرضيك حتى تردني إلى قطري لا إخالك راضيا
وقال الآخر :
إن يسألوا الخير يعطوه وإن خبروا في الجهد أدرك منهم طيب أخبار
فهذا الرفع ، كما رأيت كثير ، ونصوص الأئمة على جوازه في الكلام ، وإن اختلفت تأويلاتهم كما سنذكره . وقال صاحبنا
أبو جعفر أحمد بن رشيد المالقي ، وهو مصنف ( وصف المباني ) - رحمه الله : لا أعلم منه شيئا جاء في الكلام ، وإذا جاء فقياسه الجزم لأنه أصل العمل في المضارع ، تقدم الماضي أو تأخر ، وتأول هذا المسموع على إضمار الفاء ، وجعله مثل قول الشاعر :
إنك إن يصرع أخوك تصرع
على مذهب من جعل الفاء منه محذوفة . وأما المتقدمون : فاختلفوا في تخريج الرفع ، فذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه إلى أن ذلك على سبيل التقديم . وأما جواب الشرط فهو محذوف عنده . وذهب
الكوفيون ،
وأبو العباس إلى أنه هو الجواب حذفت منه الفاء ، وذهب غيرهما إلى أنه لما لم يظهر لأداة الشرط تأثير في فعل الشرط ، لكونه ماضيا ، ضعف عن العمل في فعل الجواب ، وهو عنده جواب لا على إضمار الفاء ، ولا على نية التقديم ، وهذا والمذهب الذي قبله ضعيفان .
وتلخص من هذا الذي قلناه أن رفع المضارع لا يمنع أن يكون ما قبله شرطا ، لكن امتنع
[ ص: 430 ] أن يكون : وما عملت ، شرطا لعلة أخرى ، لا لكون : تود مرفوعا ، وذلك على ما نقرره على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه من أن النية بالمرفوع التقديم ، ويكون إذ ذاك دليلا على الجواب لا نفس الجواب ، فنقول : إذا كان : تود ، منويا به التقديم أدى إلى تقدم المضمر على ظاهره في غير الأبواب المستثناة في العربية . ألا ترى أن الضمير في قوله : وبينه ، عائد على اسم الشرط الذي هو : ما ، فيصير التقدير : تود كل نفس لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ما عملت من سوء ؟ فيلزم من هذا التقدير تقدم المضمر على الظاهر ، وذلك لا يجوز .
فإن قلت : لم لا يجوز ذلك ، والضمير قد تأخر عن اسم الشرط ؟ فإن كان نيته التقديم فقد حصل عود الضمير على الاسم الظاهر قبله ، وذلك نظير : ضرب زيدا غلامه ، فالفاعل رتبته التقديم ، ووجب تأخيره لصحة عود الضمير . فالجواب : إن اشتمال الدليل على ضمير اسم الشرط يوجب تأخيره عنه لعود الضمير ، فيلزم من ذلك اقتضاء جملة الشرط لجملة الدليل ، وجملة الشرط إنما تقتضي جملة الجزاء لا جملة دليله ، ألا ترى أنها ليست بعاملة في جملة الدليل ، بل إنما تعمل في جملة الجزاء وجملة الدليل لا موضع لها من الإعراب . وإذا كان كذلك تدافع الأمر ; لأنها من حيث هي جملة دليل لا يقتضيها فعل الشرط ، ومن حيث عود الضمير على اسم الشرط اقتضتها ، فتدافعا . وهذا بخلاف ضرب زيدا غلامه ، هي جملة واحدة ، والفعل عامل في الفاعل والمفعول معا ، وكل واحد منهما يقتضي صاحبه ، ولذلك جاز عند بعضهم : ضرب غلامها هندا ، لاشتراك الفاعل المضاف للضمير والمفعول الذي عاد عليه الضمير في العامل ، وامتنع : ضرب غلامها جار هند ; لعدم الاشتراك في العامل ، فهذا فرق ما بين المسألتين .
ولا يحفظ من لسان العرب : أود لو أني أكرمه أيا ضربت هند ; لأنه يلزم منه تقديم المضمر على مفسره في غير المواضع التي ذكرها النحويون ، فلذلك لا يجوز تأخيره .
وقرأ
عبد الله ،
nindex.php?page=showalam&ids=12356وابن أبي عبلة : من سوء ودت لو أن ، وعلى هذه القراءة يجوز أن تكون : ما ، شرطية في موضع نصب ، فعملت . أو في موضع رفع على إضمار الهاء في : عملت ، على مذهب
الفراء ، إذ يجيز ذلك في اسم الشرط في فصيح الكلام ، وتكون : ودت ، جزاء الشرط . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : لكن الحمل على الابتداء والخبر أوقع في المعنى ; لأنه حكاية الكائن في ذلك اليوم ، وأثبت لموافقة قراءة العامة انتهى .
و : لو ، هنا حرف لما كان سيقع لوقوع غيره ، وجوابها محذوف ، ومفعول : تود ، محذوف ، والتقدير : تود تباعد ما بينهما لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا لسرت بذلك ، وهذا الإعراب والتقدير هو على المشهور في : لو ، وأن : وما بعدها في موضع مبتدأ على مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، وفي موضع فاعل على مذهب
أبي العباس . وأما على قول من يذهب إلى أن : لو ، بمعنى : أن ، وأنها مصدرية فهو بعيد هنا ; لولايتها أن ، وأن مصدرية ، ولا يباشر حرف مصدري حرفا مصدريا إلا قليلا ، كقوله تعالى (
مثل ما أنكم تنطقون ) والذي يقتضيه المعنى أن : لو أن ، وما يليها هو معمول : لتود ، في موضع المفعول به . قال
الحسن : يسر أحدهم أن لا يلقى عمله ذلك أبدا ، ذلك معناه . ومعنى أمدا بعيدا : غاية طويلة ، وقيل : مقدار أجله ، وقيل : قدر ما بين المشرق والمغرب .
(
ويحذركم الله نفسه ) . كرر التحذير للتوكيد والتحريض على الخوف من الله ، بحيث يكونون ممتثلي أمره ونهيه .
(
والله رءوف بالعباد ) لما ذكر صفة التخويف وكررها ، كان ذلك مزعجا للقلوب ، ومنبها على إيقاع المحذور مع ما قرن بذلك من اطلاعه على خفايا الأعمال وإحضاره لها يوم الحساب ، وهذا هو الاتصاف بالعلم والقدرة ، اللذين يجب أن يحذر لأجلهما ، فذكر صفة الرحمة ; ليطمع في إحسانه ، وليبسط الرجاء في أفضاله ، فيكون ذلك من باب ما إذا ذكر ما يدل على شدة الأمر ، ذكر ما يدل على سعة الرحمة ، كقوله تعالى : (
إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) وتكون هذه الجملة أبلغ في الوصف من جملة
[ ص: 431 ] التخويف ; لأن جملة التخويف جاءت بالفعل الذي يقتضي المطلق ولم يتكرر فيها اسم الله ، وجاء المحذر مخصوصا بالمخاطب فقط ، وهذه الجملة جاءت اسمية ، فتكرر فيها اسم الله ، إذ الوصف محتمل ضميره تعالى وجاء المحكوم به على وزن " فعول " المقتضي للمبالغة والتكثير ، وجاء بأخص ألفاظ الرحمة وهو : رءوف ، وجاء متعلقه عاما ; ليشمل المخاطب وغيره ، وبلفظ العباد ; ليدل على الإحسان التام ، لأن المالك محسن لعبده وناظر له أحسن نظر ، إذ هو ملكه .
قالوا : ويحتمل أن يكون إشارة إلى التحذير ، أي : إن تحذيره نفسه ، وتعريفه حالها من العلم والقدرة من الرأفة العظيمة بالعباد ; لأنهم إذا عرفوه حق المعرفة وحذروا ؛ دعاهم ذلك إلى طلب رضاه ، واجتناب سخطه . وعن
الحسن : من رأفته بهم أن حذرهم نفسه ، وقال
الحوفي : جعل تحذيرهم نفسه إياه ، وتخويفهم عقابه رأفة بهم ، ولم يجعلهم في عمى من أمرهم . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا المعنى أيضا ، والكلام محتمل لذلك ، لكن الأظهر الأول ، وهو أن يكون ابتداء إعلامه بهذه الصفة على سبيل التأنيس والإطماع ؛ لئلا يفرط الوعيد على قلب المؤمن .
(
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم ) . نزلت في اليهود ، قالوا : (
نحن أبناء الله وأحباؤه ) أو : في قول المشركين : (
ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى ) قالوا ذلك ، وقد نصبت
قريش أصنامها يسجدون لها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "
يا معشر قريش لقد خالفتم ملة أبيكم إبراهيم " وكلا هذين القولين عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
وقال
الحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج : في قوم ، قالوا : إنا لنحب ربنا حبا شديدا . وقال
محمد بن جعفر بن الزبير : في
وفد نجران حيث قالوا : إنا نعظم المسيح حبا لله انتهى .
ولفظ الآية يعم كل من ادعى محبة الله ، فمحبة العبد لله عبارة عن ميل قلبه إلى ما حده له تعالى وأمره به ، والعمل به واختصاصه إياه بالعبادة ، ومحبته تعالى للعبد تقدم الكلام عليها ، وهل هي من صفات الذات أم من صفات الفعل ، فأغنى عن إعادته . رتب تعالى على محبتهم له ، اتباع رسوله محبته لهم ، وذلك أن الطريق الموصل إلى رضاه تعالى إنما هو مستفاد من نبيه ، فإنه هو المبين عن الله ، إذ لا يهتدي العقل إلى معرفة أحكام الله في العبادات ولا في غيرها ، بل رسوله - صلى الله عليه وسلم - هو الموضح لذلك ، فكان اتباعه فيما أتى به ، احتماء لمن يحب أن يعمل بطاعة الله تعالى .
وقرأ الجمهور : تحبون ، ويحببكم ، من أحب . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12004أبو رجاء العطاردي : تحبون ويحببكم ، بفتح التاء ، والياء ، من " حب " ، وهما لغتان ، وقد تقدم ذكرهما . وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري أنه قرئ : يحبكم ، بفتح الياء ، والإدغام .
وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : فاتبعوني ، بتشديد النون ، ألحق فعل الأمر نون التوكيد ، وأدغمها في نون الوقاية ، ولم يحذف الواو شبها : بـ " أتحاجوني " ، وهذا توجيه شذوذ . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أراد أن يجعل لقولهم تصديقا من عمل ، فمن ادعى محبته ، وخالف سنة رسوله ، فهو كذاب ، وكتاب الله يكذبه .
ثم ذكر من يذكر محبة الله ، ويصفق بيديه مع ذكرها ، ويطرب ، وينعر ، ويصفق ، وقبح من فعله هذا ، وزرى على فاعل ذلك بما يوقف عليه في كتابه .
وروي عن
أبي عمر إدغام راء ، ويغفر لكم : في لام : لكم ، وذكر
ابن عطية عن
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج أن ذلك خطأ وغلط ممن رواها عن
أبي عمرو ، وقد تقدم لنا الكلام على ذلك ، وذكرنا أن رؤساء
الكوفة :
أبا جعفر الرواسي ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء رووا ذلك عن العرب ، ورأسان من
البصريين وهما :
أبو عمرو ،
ويعقوب ، قرءا بذلك وروياه ، فلا التفات لمن خالف في ذلك .
(
قل أطيعوا الله والرسول ) هذا توكيد لقوله : فاتبعوني ، وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أنه لما نزل (
قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) قال
عبد الله بن أبي لأصحابه : إن محمدا يجعل طاعته ، كطاعة الله ، ويأمر بأن نحبه ، كما أحبت
النصارى عيسى ابن مريم ، فنزل (
قل أطيعوا الله ) .
(
فإن تولوا فإن الله لا يحب الكافرين ) يحتمل أن يكون : تولوا ، ماضيا . ويحتمل أن يكون
[ ص: 432 ] مضارعا حذفت منه التاء ، أي : فإن تتولوا ، والمعنى : فإن تولوا عما أمروا به ، من اتباعه ، وطاعته فإن الله لا يحب من كان كافرا . وجعل من لم يتبعه ولم يطعه كافرا ، وتقييد انتفاء محبة الله بهذا الوصف الذي هو الكفر مشعر بالعلية ، فالمؤمن العاصي لا يندرج في ذلك .
قيل : وفي هذه الآيات من ضروب الفصاحة ، وفنون البلاغة . الخطاب العام الذي سببه خاص ، في قوله (
لا يتخذ المؤمنون الكافرين ) والتكرار ، في قوله : المؤمنون ، من دون المؤمنين ، وفي قوله : (
من الله ) ، (
ويحذركم الله نفسه ) ، (
وإلى الله ) وفي : (
يعلمه الله ) ، ( ويعلم ) وفي قوله : (
يعلمه الله ) ، (
والله على ) وفي قوله : (
ما عملت ) ، (
وما عملت ) وفي قوله : (
الله نفسه ) ، ( والله ) وفي قوله : (
ويحذركم الله ) ، (
والله رءوف ) وفي قوله : (
تحبون الله ) ، (
يحببكم الله ) ، ( والله غفور ) ، (
قل أطيعوا الله ) ، (
فإن الله ) .
والتجنيس المماثل في : تحبون ، ويحببكم ، والتجنيس المغاير ، في :
تتقوا منهم تقاة ، وفي يغفر لكم ، وغفور .
والطباق في : تخفوا ، وتبدوه ، وفي : من خير ، ومن سوء ، وفي : محضرا ، وبعيدا .
والتعبير بالمحل عن الشيء ، في قوله : ما في صدوركم ، عبر بها عن القلوب ، قال تعالى : (
فإنها لا تعمى الأبصار ) الآية .
والإشارة في قوله : (
ومن يفعل ذلك ) ، الآية . أشار إلى انسلاخهم من ولاية الله .
والاختصاص في قوله : (
ما في صدوركم ) ، وفي قوله : (
ما في السماوات وما في الأرض )
والتأنيس بعد الإيحاش ، في قوله : والله رءوف بالعباد ، والحذف في عدة مواضع تقدم ذكرها في التفسير .