وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=47زيد بن ثابت والضحاك : " ذرية " ، بكسر الذال ، والجمهور بالضم .
(
بعضها من بعض ) جملة في موضع الصفة لـ " ذرية "
[ ص: 436 ] ومن : للتبعيض حقيقة أي : متشعبة بعضها من بعض في التناسل ، فإن فسر "
عمران " بوالد
موسى وهارون فهما منه ، وهو من يصهر ، ويصهر من
قاهث ،
وقاهث من
لاوى ،
ولاوى من
يعقوب ، و
يعقوب من
إسحاق ، و
إسحاق من
إبراهيم - عليهم السلام . وإن فسر "
عمران " بوالد
مريم أم عيسى ،
فعيسى من
مريم ،
ومريم من
عمران بن ماثان ، وهو من ولد
سليمان بن داود ، و
سليمان من ولد
يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وقد دخل في
آل إبراهيم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقيل : من ، للتبعيض مجازا أي : من بعض في الإيمان والطاعة والإنعام عليهم بالنبوة ، وإلى نحو من هذا ذهب
الحسن ، قال : من بعض في تناصر الدين ، وقال أبوروت : بعضها على دين بعض . وقال
قتادة : في النية والعمل والإخلاص والتوحيد .
(
والله سميع عليم ) أي : سميع لما يقوله الخلق ، عليم بما يضمرونه . أو : سميع لما تقوله
امرأة عمران ، عليم بما تقصد . أو : سميع لما تقوله الذرية ، عليم بما تضمره . ثلاثة أقوال . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : عليم بمن يصلح للاصطفاء ، أو : يعلم أن بعضهم من بعض في الدين انتهى .
والذي يظهر أن ختم هذه الآية بقوله (
والله سميع عليم ) مناسب لقوله (
وآل إبراهيم وآل عمران ) لأن
إبراهيم - عليه السلام - دعا لإلهه في قوله : (
ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع ) بقوله : (
فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وارزقهم من الثمرات ) وحمد ربه تعالى فقال : (
الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق ) وقال مخبرا عن ربه : (
إن ربي لسميع الدعاء ) ثم دعا ربه بأن يجعله مقيم الصلاة وذريته ، وقال حين بنى هو و
إسماعيل الكعبة (
ربنا تقبل منا ) إلى سائر ما دعا به حتى قوله : (
وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياتك ) ولذا قال رسول الله : "
أنا دعوة إبراهيم " . فلما تقدمت من
إبراهيم تضرعات ، وأدعية لربه تعالى في آله وذريته ، ناسب أن يختم بقوله : (
والله سميع عليم ) وكذلك
آل عمران ، دعت
امرأة عمران بقبول ما كانت نذرته لله تعالى ، فناسب أيضا ذكر الوصفين ، ولذلك حين ذكرت النذر ودعت بتقبله ، أخبرت عن ربها بأنه (
السميع العليم ) أي : السميع لدعائها ، العليم بصدق نيتها بنذرها ما في بطنها لله تعالى .
(
إذ قالت امرأة عمران رب إني نذرت لك ) الآية ، لما ذكر أنه تعالى اصطفى
آل عمران ، وكان معظم صدر هذه السورة في أمر النصارى
وفد نجران ، ذكر ابتداء حال
آل عمران ، و
امرأة عمران اسمها :
حنة ، بالحاء المهملة والنون المشددة مفتوحتين وآخرها تاء تأنيث ، وهو اسم عبراني ، وهي
حنة بنت فاقود ، و
دير حنة بالشام معروف ، وثم دير آخر يعرف
بدير حنة ، وقد ذكر
أبو نواح دير حنة في شعره فقال :
يا دير حنة من ذات الأكيراح من يصح عنك فإني لست بالصاح
وقبر
حنة ، جدة
عيسى ، بظاهر
دمشق . وقال
القرطبي : لا يعرف في العربي اسم امرأة
حنة ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16390عبد الغني بن سعيد الحافظ :
حنة أم عمر ويروي حديثها
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج . ويستفاد
حنة مع حبة ، بالحاء المهملة وباء بواحدة من أسفل ، وحية : بالحاء المهملة وياء باثنتين من أسفل ، وهما اسمان لناس ، ومع خبة ، بالخاء المعجمة والباء بواحدة من أسفل ، وهي
خبة بنت يحيى بن أكثم القاضي ،
أم محمد بن نصر ، ومع جنة بجيم ونون ، وهو
أبو جنة خال
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة الشاعر ، لا نعرف سواه . ولم تكتف حنة بنية النذر حتى أظهرته باللفظ ، وخاطبت به الله تعالى ، وقدمت قبل التلفظ بذلك نداءها له تعالى بلفظ الرب . الذي هو مالكها ومالك كل شيء ، وتقدم معنى " النذر " وهو استدفاع المخوف بما يعقده الإنسان على نفسه من أعمال البر . وقيل : ما أوجبه الإنسان على نفسه بشريطة ، وبغير شريطة . قال الشاعر :
فليت رجالا فيك قد نذروا دمي وهموا بقتلي يا بثين لقوني
[ ص: 437 ] ولك ، اللام فيه لام السبب ، وهو على حذف التقدير : لخدمة بيتك ، أو للاحتباس على طاعتك .
(
ما في بطني ) جزمت النذر على تقدير أن يكون ذكرا ، أو لرجاء منها أن يكون ذكرا .
( محررا ) معناه عتيقا من كل شغل من أشغال الدنيا ، فهو من لفظ الحرية . قال
محمد بن جعفر بن الزبير : أو خادما للبيعة . قاله
مجاهد ، أو : مخلصا للعبادة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي . ورواه
nindex.php?page=showalam&ids=15822خصيف عن
عكرمة ،
ومجاهد ، وأتى بلفظ : ما ، دون : من ; لأن الحمل إذ ذاك لم يتصف بالعقل ، أو لأن : ما ، مبهمة تقع على كل شيء ، فيجوز أن تقع موقع : من . ونسب هذا إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه .
(
فتقبل مني ) دعت الله تعالى بأن يقبل منها ما نذرته له ، والتقبل : أخذ الشيء على الرضا به ، وأصله المقابلة بالجزاء ، وتقبل : هنا بمعنى : قبل ، فهو مما " تفعل " فيه بمعنى " الفعل " المجرد ، كقولهم : تعدى الشيء وعداه ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها " تفعل " .
(
إنك أنت السميع العليم ) ختمت بهذين الوصفين ; لأنها اعتقدت النذر ، وعقدته بنيتها ، وتلفظت به ، ودعت بقبوله ، فناسب ذلك ذكر هذين الوصفين . والعامل في : إذ ، مضمر تقديره : أذكر ، قاله
الأخفش nindex.php?page=showalam&ids=15153والمبرد ، أو معنى الاصطفاء ، التقدير : واصطفى
آل عمران . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وعلى هذا يجعل ( و
آل عمران ) من باب عطف الجمل ، لا من باب عطف المفردات ، لأنه إن جعل من باب عطف المفردات ، لزم أن يكون العامل فيه اصطفى
آدم ، ولا يسوغ ذلك لتغاير زمان هذا الاصطفاء وزمان قول
امرأة عمران ، فلا يصح عمله فيه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري ما معناه : إن العامل فيه : سميع ، وهو ظاهر قول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، أو : سميع عليم ، لقول
امرأة عمران ونيتها ، وإذ : منصوب به انتهى . ولا يصح ذلك لأن قوله : عليم ، إما أن يكون خبرا بعد خبر ، أو وصفا لقوله : سميع ، فإن كان خبرا فلا يجوز الفصل به بين العامل والمعمول لأنه أجنبي منهما ، وإن كان وصفا فلا يجوز أن يعمل : سميع ، في الظرف ، لأنه قد وصف . واسم الفاعل وما جرى مجراه إذا وصف قبل أخذ معموله ، لا يجوز له إذ ذاك أن يعمل على خلاف لبعض
الكوفيين في ذلك ، ولأن اتصافه تعالى بسميع عليم ، لا يتقيد بذلك الوقت .
وذهب
أبو عبيدة إلى أن " إذ " زائدة ، المعنى : قالت
امرأة عمران . وتقدم له نظير هذا القول في مواضع ، وكان
أبو عبيدة يضعف في النحو . وانتصب " محررا " ، على الحال . قيل : من " ما " ، فالعامل : نذرت ، وقيل من الضمير الذي في : استقر ، العامل في الجار والمجرور ، فالعامل في هذا : استقر ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=17140مكي فمن نصبه على النعت لمفعول محذوف يقدره : غلاما محررا . وقال
ابن عطية : وفي هذا نظر ، يعني أن : " نذر " ، قد أخذ مفعوله ، وهو : ما في بطني ، فلا يتعدى إلى آخره ، ويحتمل أن ينتصب محررا ، على أن يكون مصدرا في معنى تحريرا ، لأن المصدر يجوز أن يكون على زنة المفعول من كل فعل زائد على الثلاثة ، كما قال الشاعر :
ألم تعلم مسرحي القوافي فلا عيا بهن ولا اجتلابا
التقدير : تسريحي القوافي ، ويكون إذ ذاك على حذف مضاف ، أي : نذر تحريرا ، أو على أنه مصدر من معنى نذرت ، لأن معنى : (
نذرت لك ما في بطني ) حررت لك بالنذر ما في بطني . والظاهر القول الأول ، وهو أن يكون حالا من : ما ، ويكون ، إذ ذاك حالا مقدرة إن كان المراد بقوله : محررا ، خادما للكنيسة ، وحالا مصاحبة إن كان المراد عتيقا ، لأن عتق ما في البطن يجوز . وكتبوا : امرأة عمران ، بالتاء ، لا بالهاء ، وكذلك
امرأة العزيز في موضعين ،
وامرأة نوح ،
وامرأة لوط ،
وامرأة فرعون . سبعة مواضع ،
فأهل المدينة يقفون بالتاء اتباعا لرسم المصحف ; مع أنها لغة لبعض العرب يقفون على طلحة طلحت ، بالتاء . ووقف
أبو عمرو ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي : بالهاء ولم يتبعوا رسم المصحف في ذلك ، وهي لغة أكثر العرب ، وذكر المفسرون سبب هذا الحمل الذي اتفق
لامرأة عمران ، فروي أنها كانت عاقرا ، وكانوا أهل
[ ص: 438 ] بيت لهم عند الله مكانة ، فبينا هي يوما في ظل شجرة ، نظرت إلى طائر يذق فرخا له ، فتحركت به نفسها للولد ، فدعت الله تعالى أن يهب لها ولدا . فحملت . ومات
عمران زوجها وهي حامل ، فحسبت الحمل ولدا فنذرته لله حبيسا لخدمة الكنيسة أو
بيت المقدس ، وكان من عادتهم التقرب بهبة أولادهم لبيوت عباداتهم ، وكان
بنو ماثان رءوس
بني إسرائيل وملوكهم وأحبارهم ، ولم يكن أحد منهم إلا ومن نسله محرر
لبيت المقدس من الغلمان ، وكانت الجارية لا تصلح لذلك ، وكان جائزا في شريعتهم ، وكان على أولادهم أن يطيعوهم ، فإذا حرر خدم الكنيسة بالكنس والإسراج حتى يبلغ ، فيخير ، فإن أحب أن يقيم في الكنيسة أقام فيها ، وليس له الخروج بعد ذلك ، وإن أحب أن يذهب ذهب حيث شاء ، ولم يكن أحد من الأنبياء والعلماء إلا ومن نسله محرر
لبيت المقدس .
(
فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى ) أنث الضمير في وضعتها حملا على المعنى في ما ، لأن ما في بطنها كان أنثى في علم الله تعالى وقال
ابن عطية : حملا على الموجدة ، ورفعا للفظ : ما ، في قولها : ما في بطني . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أو على تأويل الجبلة ، أو النفس ، أو النسمة . جواب لما ، هو : قالت وخاطبت ربها على سبيل التحسر على ما فاتها من رجائها ، وخلاف ما قدرت ; لأنها كانت ترجو أن تلد ذكرا يصلح للخدمة ، ولذلك نذرته محررا . وجاء في قوله : (
إني وضعتها ) الضمير مؤنثا ، فإن كان على معنى النسمة أو النفس فظاهر ، إذ تكون الحال في قوله أنثى ، مبينة ; إذ النسمة والنفس تنطلق على المذكر والمؤنث . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : فإن قلت : كيف جاز انتصاب أنثى حالا من الضمير في وضعتها ; وهو كقولك : وضعت الأنثى أنثى ؟ .
قلت : الأصل وضعته أنثى ، وإنما أنث لتأنيث الحال لأن الحال ، وذا الحال شيء واحد ، كما أنث الاسم في : من كانت أمك ؟ لتأنيث الخبر ، ونظيره قوله تعالى : (
فإن كانتا اثنتين ) انتهى . وآل قوله إلى أن أنثى
[ ص: 439 ] تكون حالا مؤكدة ، لا يخرجه تأنيثه لتأنيث الحال من أن يكون الحال مؤكدة . وأما تشبيهه ذلك بقوله : من كانت أمك ، حيث عاد الضمير على معنى من ، فليس ذلك نظير : وضعتها أنثى ; لأن ذلك حمل على معنى من ، إذ المعنى : أية امرأة كانت أمك ، أي : كانت هي أي المرأة أمك ، فالتأنيث ليس لتأنيث الخبر ، وإنما هو من باب الحمل على معنى من ، ولو فرضنا أنه تأنيث للاسم لتأنيث الخبر ، لم يكن نظير وضعتها أنثى ; لأن الخبر مخصص بالإضافة إلى الضمير ، فقد استفيد من الخبر ما لا يستفاد من الاسم بخلاف أنثى ، فإنه لمجرد التأكيد .
وأما تنظيره بقوله : (
فإن كانتا اثنتين ) فيعني أنه ثنى بالاسم لتثنية الخبر ، والكلام عليه يأتي في مكانه ، فإنه من المشكلات ، فالأحسن أن يجعل الضمير في : وضعتها أنثى ، عائدا على النسمة ، أو النفس ، فتكون الحال مبنية لا مؤكدة . وقيل : خاطبت الله تعالى بذلك على سبيل الاعتذار ، والتنصل من نذر ما لا يصلح لسدانة البيت ; إذ كانت الأنثى لا تصلح لذلك في شريعتهم . وقيل : كانت
مريم أجمل نساء زمانها ، وأكملهن .