صفحة جزء
( ها أنتم هؤلاء حاججتم فيما لكم به علم ) الذي لهم به علم هو دينهم الذي وجدوه في كتبهم وثبت عندهم صحته ، والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم ودينه ، ليس موجودا في كتبهم ، ولا أتتهم به أنبياؤهم ، ولا شاهدوه فيعلموه . قاله قتادة ، والسدي ، والربيع ، وغيرهم . وهو الظاهر لما حف به ، من قبله ومن بعده ، من الحديث في إبراهيم ، ونسب هذا القول إلى الطبري ابن عطية ، وقال : ذهب عنه أن ما كان هكذا فلا يحتاج معهم فيه إلى محاجة ; لأنهم يجدونه عند محمد - صلى الله عليه وسلم - كما كان هنالك على حقيقته .

وقيل : الذي لهم به علم هو أمر محمد - صلى الله عليه وسلم - لأنهم وجدوا نعته في كتبهم ، فجادلوا بالباطل . والذي ليس لهم به علم هو أمر إبراهيم . والظاهر في قوله : ( فيما لكم به علم ) إثبات العلم لهم . وقال ابن عطية : فيما لكم به علم على زعمكم ، وإنما المعنى : فيما يشبه دعواكم ، ويكون الدليل العقلي يرد عليكم . وقالقتادة أيضا : حاججتم فيما شهدتم ورأيتم ، فلم تحاجون فيما لم تشاهدوا ولم تعلموا ؟ وقال الرازي : ( ها أنتم هؤلاء ) الآية . أي : زعمتم أن شريعة التوراة والإنجيل مخالفة لشريعة القرآن ، فكيف تحاجون فيما لا علم لكم به ؟ وهو ادعاؤهم أن شريعة إبراهيم مخالفة لشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم ؟ ، ويحتمل أن يكون قوله ( لكم به علم ) أي : تدعون علمه ، لا أنه وصفهم بالعلم حقيقة ، فكيف يحاجون فيما لا علم لهم به ألبتة . وقرأ الكوفيون ، و ابن عامر ، والبزي : ها أنتم ، بألف بعد الهاء بعدها همزة : أنتم ، محققة . وقرأ نافع ، وأبو عمرو ، ويعقوب : بهاء بعدها ألف بعدها همزة مسهلة بين بين ، وأبدل أناس هذه الهمزة ألفا محضة لورش : ها ، للتنبيه ; لأنه يكثر وجودها مع المضمرات المرفوعة مفصولا بينها ، وبين اسم الإشارة حيث لا استفهام ، وأصلها أن تباشر اسم الإشارة ، لكن اعتني بحرف التنبيه ، فقدم ، وذلك نحو قول العرب : ها أنا ذا قائما ، وها أنت ذا تصنع كذا . وها هو ذا قائما . ولم ينبه المخاطب هنا على وجود ذاته ، بل نبه على حال غفل عنها لشغفه بما التبس به ، وتلك الحالة هي أنهم حاجوا فيما لا يعلمون ، ولم ترد به التوراة والإنجيل ، فتقول لهم : هب أنكم تحتجون فيما تدعون أن قد ورد به كتب الله المتقدمة ، فلم تحتجون فيما ليس كذلك ؟ وتكون الجملة خبرية [ ص: 486 ] وهو الأصل ، لأنه قد صدرت منهم المحاجة فيما يعلمون ، ولذاك أنكر عليهم بعد المحاجة فيما ليس لهم به علم ، وعلى هذا يكون : ها ، قد أعيدت مع اسم الإشارة توكيدا ، وتكون في قراءة قنبل قد حذف ألف : ها ، كما حذفها من وقف على : ( أيه الثقلان ) يا أيه بالسكون ، وليس الحذف فيها يقوى في القياس . وقال أبو عمرو ابن العلاء ، وأبو الحسن الأخفش : الأصل في : ها أنتم ، أأنتم . فأبدل من الهمزة الأولى التي للاستفهام هاء ; لأنها أختها ، واستحسنه النحاس . وإبدال الهمزة هاء مسموع في كلمات ولا ينقاس ، ولم يسمع ذلك في همزة الاستفهام ، لا يحفظ من كلامهم : هتضرب زيدا ، بمعنى : زيدا إلا في بيت نادر جاءت فيه : ها ، بدل همزة الاستفهام ، وهو :


وأتت صواحبها وقلن هذا الذي منح المودة غيرنا وجفانا



ثم الفصل بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام وهمزة أنتم ، لا يناسب ; لأنه إنما يفصل لاستثقال اجتماع الهمزتين ، وهنا قد زال الاستثقال بإبدال الأولى هاء ، ألا ترى أنهم حذفوا الهمزة في نحو : أريقه ، إذ أصله : أأريقه ؟ فلما أبدلوها هاء لم يحذفوا ، بل قالوا : أهريقه . وقد وجهوا قراءة قنبل على أن الهاء بدل من همزة الاستفهام لكونها هاء لا ألف بعدها ، وعلى هذا من أثبت الألف ، فيكون عنده فاصلة بين الهاء المبدلة من همزة الاستفهام ، وبين همزة أنتم ، أجرى البدل في الفصل مجرى المبدل منه ، والاستفهام على هذا معناه التعجب من حماقتهم . وأما من سهل ، فلأنها همزة بعد ألف على حد تسهيلهم إياها في هيأه . وأما تحقيقها فهو الأصل ، وأما إبدالها ألفا فقد تقدم الكلام في ذلك في قوله ( أأنذرتهم أم لم تنذرهم ) .

و : أنتم ، مبتدأ ، وهؤلاء : الخبر . وحاججتم : جملة حالية . كقول : ها أنت ذا قائما . وهي من الأحوال التي ليست يستغنى عنها ، كقوله : ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون ) على أحسن الوجوه في إعرابه . وقال الزمخشري : " أنتم " مبتدأ ، وهؤلاء : خبره ، وحاججتم : جملة مستأنفة مبينة للجملة الأولى ، يعني : أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى ، وبيان حماقتكم ، وقلة عقولكم ، أنكم حاججتم فيما لكم به علم مما نطق به التوراة والإنجيل ، فلم تحاجون فيما ليس لكم به علم ولا ذكر له في كتابيكم من دين إبراهيم ؟ انتهى .

وأجازوا أن يكون : هؤلاء بدلا وعطف بيان ، والخبر : حاججتم ، وأجازوا أن يكون : هؤلاء موصولا بمعنى الذي ، وهو خبر المبتدأ ، أو : حاججتم صلته . وهذا على رأي الكوفيين . وأجازوا أيضا أن يكون منادى أي : يا هؤلاء ، وحذف منه حرف النداء ، ولا يجوز حذف حرف النداء من المشار على مذهب البصريين ، ويجوز على مذهب الكوفيين ، وقد جاء في الشعر حذفه ، وهو قليل ، نحو قول رجل من طيئ :


إن الألى وصفوا قومي لهم فهم     هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا



وقال :


لا يغرنكم أولاء من القو     م جنوح للسلم فهو خداع



يريد : يا هذا اعتصم ، ويا أولاء .

( والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) أي : يعلم دين إبراهيم الذي حاججتم فيه ، وكيف حال الشرائع في الموافقة والمخالفة ، وأنتم لا تعلمون ذلك ، وهو تأكيد لما قبله من نفي العلم عنهم في شأن إبراهيم ، وفي قوله : والله يعلم ، استدعاء لهم أن يسمعوا ، كما تقول لمن تخبره بشيء لا يعلمه : اسمع فإني أعلم ما لا تعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية