(
ما كان لبشر أن يأتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عبادا لي من دون الله ) روي
أن أبا رافع القرظي قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - حين اجتمعت الأحبار من يهود ، والوفد من نصارى نجران : يا محمد إنما تريد أن نعبدك ونتخذك إلها كما عبدت النصارى عيسى ، فقال الرئيس من نصارى نجران : أوذاك تريد يا محمد ، وإليه تدعونا ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " معاذ الله ما بذلك أمرت ، ولا إليه دعوت " ، فنزلت . وقيل : قال رجل : يا رسول الله نسلم عليك كما يسلم بعضنا على بعض ، أفلا نسجد لك ؟ قال : " لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون الله ، ولكن أكرموا نبيكم ، واعرفوا الحق لأهله " .
واختلف المفسرون إلى من هي الإشارة بقوله : (
ما كان لبشر ) فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
والربيع ،
nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ، وجماعة : الإشارة إلى
محمد - صلى الله عليه وسلم - وذكروا سبب النزول المذكور .
وقال
النقاش ، وغيره : الإشارة إلى
عيسى ، والآية رادة على
النصارى الذين قالوا :
عيسى إله ، وادعوا أن عبادته هي شرعة مستندة إلى أوامره ، ومعنى (
ما كان لبشر أن يؤتيه الله ) وما جاء نحوه أنه ينفي عنه الكون ، والمراد نفي الخبر ، وذلك على قسمين .
أحدهما : أن يكون الانتفاء من حيث العقل ، ويعبر عنه بالنفي التام ، ومثاله قوله : (
ما كان لكم أن تنبتوا شجرها ) (
وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله ) .
والثاني : أن يكون الانتفاء فيه على سبيل الانتفاء ، ويعبر عنه بالنفي غير التام ، ومثاله قول
nindex.php?page=showalam&ids=1أبي بكر الصديق - رضي الله عنه : ما كان
nindex.php?page=showalam&ids=1لابن أبي قحافة أن يتقدم أن يصلي بين يدي رسول الله - صلى الله عليه وسلم .
ومدرك القسمين إنما يعرف بسياق الكلام الذي النفي فيه ، وهذه الآية من القسم الأول ، لأنا نعلم أنه الله لا يعطي الكذبة والمدعين النبوة ، وفي هذه الآية دلالة على عصمة الأنبياء عليهم السلام .
والكتاب هنا اسم جنس ، والحكم قيل : بمعنى الحكمة ، ومنه "
إن من الشعر لحكما " . وقيل : الحكم هنا السنة ، يعنون لمقابلته الكتاب ، والظاهر أن الحكم هنا القضاء والفصل بين الناس ، وهذا من باب الترقي ، بدأ أولا بالكتاب وهو العلم ، ثم ترقى إلى التمكين وهو الفصل بين الناس ، ثم ترقى إلى الرتبة العليا وهي النبوة وهي مجمع الخير ، ثم يقول للناس .
أتى بلفظ ثم التي هي للمهلة تعظيما لهذا القول ، وإذا انتفى هذا القول بعد المهلة كان انتفاؤه بدونها أولى وأحرى ، أي : إن هذا الإيتاء العظيم لا يجامع هذا القول ، وإن كان بعد مهلة من هذا الإنعام العظيم .
(
كونوا عبادا لي من دون الله ) عبادا جمع عبد . قال
ابن عطية : ومن جموعه : عبيد وعبدى . قال بعض اللغويين : هذه الجموع
[ ص: 505 ] كلها بمعنى . وقال قوم : العباد لله ، والعبيد للبشر . وقال قوم : العبدى إنما يقال في العبيد بني العبيد ، كأنه مبالغة تقتضي الاستغراق في العبودية .
والذي استقرئت في لفظة العباد أنه جمع عبد ، متى سيقت اللفظة في مضمار الترفيع ، والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير وتصغير الشأن ، فانظر قوله - تعالى - : ( والله رؤوف بالعباد ) ( وعباد مكرمون ) و (
ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) وقول
عيسى في معنى الشفاعة والتعريض (
إن تعذبهم فإنهم عبادك ) . وأما العبيد ، فيستعمل في التحقير ، ومنه قول
امرئ القيس :
قولا لدودان عبيد العصا ما غركم بالأسد الباسل
ومنه قول
nindex.php?page=showalam&ids=135حمزة بن عبد المطلب : وهل أنتم إلا عبيد لأبي ، ومنه (
وما ربك بظلام للعبيد ) لأنه مكان تشقيق وإعلام بقلة انتصارهم ومقدرتهم ، وأنه تعالى ليس بظلام لهم مع ذلك ، ولما كانت لفظة العباد تقتضي الطاعة ، لم يقع هنا ، ولذلك أنس بها في قوله : (
قل ياعبادي الذين أسرفوا على أنفسهم ) فهذا النوع من النظر يسلك بك سبيل العجائب في حيز فصاحة القرآن العزيز على الطريقة العربية السليمة ، ومعنى قوله : (
كونوا عبادا لي من دون الله ) اعبدوني واجعلوني إلها انتهى كلام
ابن عطية . وفيه بعض مناقشة .
أما قوله : ومن جموعه : عبيد ، وعبدى ، أما عبيد فالأصح أنه جمع . وقيل : اسم جمع ، وأما عبدى ، فاسم جمع ، وألفه للتأنيث . وأما ما استقرأه أن عبادا يساق في مضمار الترفيع والدلالة على الطاعة دون أن يقترن بها معنى التحقير والتصغير ، وإيراده ألفاظا في القرآن بلفظ العباد ، وقوله : وأما العبيد فيستعمل في تحقير ، وأنشد بيت
امرئ القيس ، وقول
حمزة ، وقوله تعالى (
بظلام للعبيد ) فليس باستقراء صحيح ، وإنما كثر استعمال عباد ، دون عبيد ; لأن فعالا في جمع فعل غير اليائي العين قياس مطرد ، وجمع فعل على فعيل لا يطرد .
قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : وربما جاء فعيلا ، وهو قليل ، نحو : الكليب والعبيد انتهى . فلما كان فعال هو
[ ص: 506 ] المقيس في جمع عبد ، جاء عباد كثيرا . وأما (
وما ربك بظلام للعبيد ) فحسن مجيئه هنا ، وإن لم يكن مقيسا أنه جاء لتواخي الفواصل ، ألا ترى أن قبله (
أولئك ينادون من مكان بعيد ) وبعده (
قالوا آذناك ما منا من شهيد ) فحسن مجيئه بلفظ " العبيد " مواخاة هاتين الفاصلتين ، ونظير هذا قوله في سورة ق : (
وما أنا بظلام للعبيد ) لأن قبله ( قال
قالوا آذناك ما منا من شهيد ) وبعده (
يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد ) وأما مدلوله فمدلول عباد سواء .
وأما بيت
امرئ القيس فلم يفهم التحقير من لفظ عبيد ، إنما فهم من إضافتهم إلى العصا ، ومن مجموع البيت . وكذلك قول
حمزة ، إنما فهم منه معنى التحقير من قرينة الحال التي كان عليها ، وأتى في البيت ، وفي وقول
حمزة على أحد الجائزين .
وقرأ الجمهور : ثم يقول ، بالنصب عطفا على : أن يؤتيه ، وقرأ شبل عن
ابن كثير ،
ومحبوب عن
أبي عمرو : بالرفع على القطع أي : ثم هو يقول . وقرأ الجمهور : " عبادا لي " ، بتسكين ياء الإضافة . وقرأ
عيسى بن عمر : بفتحها .
(
ولكن كونوا ربانيين ) هذا على إضمار القول تقديره : ولكن يقول كونوا ربانيين ، والرباني ، الحكيم العالم ، قاله
قتادة ،
وأبو رزين . أو الفقيه ، قاله
علي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11وابن عباس ،
والحسن ،
ومجاهد . أو العالم الحليم ، قاله
قتادة وغيره . أو الحكيم الفقيه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . أو الفقيه العالم ، قاله
الحسن ،
والضحاك . أو والي الأمر يربيهم ، ويصلحهم ، قاله
ابن زيد . أو الحكيم التقي ، قاله
ابن جبير . أو المعلم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج . أو العالم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد . أو التائب لربه ، قاله
المؤرج . أو الشديد التمسك بدين الله وطاعته ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري . أو العالم الحكيم الناصح لله في خلقه ، قاله
عطاء . أو العالم العامل بعلمه ، قاله
ابن جبير . أو العالم المعلم ، قاله بعضهم . وهذه أقوال متقاربة .
وللصوفية في تفسير أقوال كثيرة غير هذه ، وقال
مجاهد : الرباني فوق الحبر ; لأن الحبر هو العالم ، والرباني الذي جمع إلى العلم والفقه النظر بالسياسة والتدبير ، والقيام بأمور الرعية ، وما يصلحهم في دينهم ودنياهم . وفي
nindex.php?page=showalam&ids=12070البخاري : الرباني الذي يربي الناس بصغار العلم قبل كباره . قال
ابن عطية : فجملة ما يقال في الرباني : إنه العالم المصيب في التقدير من الأقوال والأفعال التي يحاولها في الناس انتهى . ولما مات
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس قال
nindex.php?page=showalam&ids=12691محمد بن الحنفية : اليوم مات رباني هذه الأمة .
(
بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون ) الباء للسبب ، وما : الظاهر أنها مصدرية ، وتعلمون : متعد لواحد على قراءة الحرمين
وأبي عمرو ; إذ قرءوا بالتخفيف مضارع علم ، فأما قراءة باقي السبعة بضم التاء ، وفتح العين ، وتشديد اللام المكسورة ، فيتعدى إلى اثنين ، إذ هي منقولة بالتضعيف من المتعدية إلى واحد ، وأول المفعولين محذوف تقديره : تعلمون الناس الكتاب . وتكلموا في ترجيح أحد القراءتين على الأخرى ، وقد تقدم أني لا أرى شيئا من هذه التراجيح ; لأنها كلها منقولة متواترة قرءانا ، فلا ترجيح في إحدى القراءتين على الأخرى .
وقرأ
مجاهد ،
والحسن : تعلمون ، بفتح التاء ، والعين ، واللام المشددة ، وهو مضارع حذفت منه التاء ، التقدير : تتعلمون ، وقد تقدم الخلاف في المحذوف منهما .
وقرأ
أبو حيوة : تدرسون بكسر الراء . وروي عنه : تدرسون ، بضم التاء ، وفتح الدال ، وكسر الراء المشددة أي : تدرسون غيركم العلم ، ويحتمل أن يكون التضعيف للتكثير لا للتعدية . وقرئ : تدرسون ، من أدرس بمعنى درس نحو : أكرم وكرم ، وأنزل نزل ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أوجب أن تكون الرئاسة التي هي قوة التمسك بطاعة الله مسببة عن العلم ، والدراسة ، وكفى به دليلا على خيبة سعي من جهد نفسه ، وكد روحه في جمع العلم ، ثم لم يجعله ذريعة إلى العمل ، فكان مثل من غرس شجرة حسناء تونقه بمنظرها ، ولا تنفعه بثمرها ، ثم قال أيضا بعد أسطر : وفيه أن من علم ودرس العلم ، ولم يعمل به فليس من الله في شيء ، وأن السبب بينه وبين ربه منقطع حيث لم تثبت النسبة إليه إلا للمتمسكين بطاعته انتهى
[ ص: 507 ] كلامه . وفيه دسيسة الاعتزال ، وهو أنه لا يكون مؤمنا عالما إلا بالعمل ، وأن العمل شرط في صحة الإيمان .