صفحة جزء
( وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين ) : لما ذكر ما كانوا عليه من الجلد والصبر وعدم الوهن والاستكانة للعدو ، وذلك كله من الأفعال النفسانية التي يظهر أثرها على الجوارح ، ذكر ما كانوا عليه من الإنابة والاستغفار والالتجاء إلى الله تعالى بالدعاء ، وحصر قولهم في ذلك القول ، فلم يكن لهم ملجأ ولا مفزع إلا إلى الله تعالى ، ولا قول إلا هذا القول ، لا ما كنتم عليه يوم أحد من الاضطراب واختلاف الأقوال ، فمن قائل : نأخذ أمانا من أبي سفيان ، ومن قائل : نرجع إلى ديننا ، ومن قائل ما قال حين فر . وهؤلاء قد فجعوا بموت نبيهم أو ربييهم ، لم يهنوا ، بل صبروا وقالوا هذا القول ، وهم ربيون أحبار ؛ هضما لأنفسهم ، وإشعارا أن ما نزل من بلايا الدنيا إنما هو بذنوب من البشر ، كما كان في قصة أحد بعصيان من عصى .

وقرأ الجمهور " قولهم " بالنصب على أنه خبر كان و " أن قالوا " في موضع الاسم ، جعلوا ما كان أعرف الاسم ؛ لأن إن وصلتها تتنزل منزلة الضمير . و " قولهم " : مضاف للضمير ، يتنزل منزلة العلم . وقرأت طائفة منهم حماد بن سلمة عن ابن كثير ، وأبو بكر عن عاصم فيما ذكره المهدوي برفع " قولهم " ، جعلوه اسم كان ، والخبر " أن قالوا " ، والوجهان فصيحان ، وإن كان الأول أكثر . وقد قرئ : " ثم لم تكن فتنتهم " بالوجهين في السبعة ، وقدم طلب الاستغفار على طلب تثبيت الأقدام والنصرة ؛ ليكون طلبهم ذلك إلى الله عن زكاة وطهارة ، فيكون طلبهم التثبيت بتقديم الاستغفار حريا بالإجابة ، وذنوبنا وإسرافنا متقاربان من حيث المعنى ، فجاء ذلك على سبيل التأكيد .

وقيل : الذنوب ما دون الكبائر ، والإسراف الكبائر . وقال أبو عبيدة : الذنوب هي الخطايا ، وإسرافنا أي تفريطنا . وقال الضحاك : الذنوب عام ، والإسراف في الأمر الكبائر خاصة .

والأقدام هنا قيل : حقيقة ، دعوا بتثبيت الأقدام في مواطئ الحرب ولقاء العدو كي لا تزل . وقيل : المعنى : شجع قلوبنا على لقاء العدو . وقيل : ثبت قلوبنا على دينك . والأحسن حمله على الحقيقة ؛ لأنه من مظانها . وثبوت القدم في الحرب لا يكون إلا من ثبوت صاحبها في الدين . وكثيرا ما جاءت هذه اللفظة دائرة في الحرب ومع النصرة كقوله : " أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا " ( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم ) وقيل : اغفر لنا ذنوبنا في المخالفة ، وإسرافنا في الهزيمة ، وثبت أقدامنا بالمصابرة ، وانصرنا على القوم الكافرين بالمجاهدة .

قال ابن فورك : في هذا الدعاء رد على القدرية ؛ لقولهم : إن الله لا يخلق أفعال العبد ، ولو كان ذلك لم يسغ أن يدعى فيما لم يفعله ، وفي هذا دليل على مشروعية الدعاء عند لقاء العدو ، وأن يدعو بهذا الدعاء المعين . وقد جاء في القرآن أدعية [ ص: 76 ] أعقب الله بالإجابة فيها .

التالي السابق


الخدمات العلمية