(
ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه حتى إذا فشلتم وتنازعتم في الأمر وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ) : هذا جواب لمن رجع إلى
المدينة من المؤمنين ، قالوا : وعدنا الله النصر والإمداد بالملائكة ، فمن أي وجه أتينا ، فنزلت إعلاما أنه تعالى صدقهم الوعد ونصرهم على أعدائهم أولا ، وكان الإمداد مشروطا بالصبر والتقوى . واتفق من بعضهم من المخالفة ما نص الله في كتابه ، وجاءت المخاطبة بجمع ضمير المؤمنين في هذه الآيات ، وإن كان لم يصدر ما يعاتب عليه من جميعهم ، وذلك على طريقة العرب في نسبة ما يقع من بعضهم للجميع على سبيل التجوز ، وفي ذلك إبقاء على من فعل ، وستر إذ لم يعين ، وزجر لمن لم يفعل أن يفعل .
وصدق الوعد : هو أنهم هزموا المشركين أولا ، وكان
nindex.php?page=showalam&ids=8لعلي بن أبي طالب nindex.php?page=showalam&ids=135وحمزة بن عبد المطلب والزبير وأبي دجانة وعاصم بن أبي الأفلح بلاء عظيم في ذلك اليوم ، وهو مذكور في السير . وكان المشركون في ثلاثة آلاف ، ومعهم مائتا فرس . والمسلمون في سبعمائة رجل . وتعدت " صدق " هنا إلى اثنين ، ويجوز أن تتعدى إلى الثاني بحرف جر ، تقول : صدقت زيدا الحديث ، وصدقت زيدا في الحديث ، ذكرها بعض النحويين في باب ما يتعدى إلى اثنين . ويجوز أن يتعدى إلى الثاني بحرف الجر ، فيكون من باب استغفر ، واختار . والعامل في " إذ " : "
صدقكم " .
ومعنى تحسونهم : تقتلونهم . وكانوا قتلوا من المشركين اثنين وعشرين رجلا . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16531عبيد بن عمير "
تحسونهم " رباعيا من الإحساس ، أي تذهبون حسهم بالقتل . وتمني القتل بوقت الفشل وهو : الجبن ، والضعف .
والتنازع : وهو التجاذب في الأمر ، وهذا التنازع صدر من الرماة ، كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد رتب الرماة على فم الوادي وقال : " اثبتوا مكانكم ، وإن رأيتمونا هزمناهم ، فإنا لا نزال غالبين ما ثبتم مكانكم " . ووعدهم
[ ص: 79 ] بالنصر إن انتهوا إلى أمره . فلما انهزم المشركون قال بعض الرماة : قد انهزموا فما موقفنا هنا ؟ الغنيمة الغنيمة ، الحقوا بالمسلمين . وقال بعضهم : بل نثبت مكاننا كما أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وقيل : التنازع هو ما صدر من المسلمين من الاختلاف حين صيح أن
محمدا قد قتل .
والعصيان : هو ذهاب من ذهب من الرماة من مكانه طلبا للنهب والغنيمة ، وكان
خالد حين رأى قلة الرماة صاح في خيله وحمل على من بقي من الرماة فقتلهم ، وحمل على عسكر المسلمين ، فتراجع المشركون ، فأصيب من المسلمين يومئذ سبعون رجلا .
"
من بعد ما أراكم ما تحبون " : وهو ظفر المؤمنين وغلبتهم . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15الزبير بن العوام : لقد رأيتني أنظر إلى خدم
هند وصواحبها مشمرات هوارب ما دون أخذهن قليل ولا كثير ؛ إذ مالت الرماة إلى العسكر يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل ، فأتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ : ألا إن
محمدا قد قتل ، فانكفأنا وانكفأ القوم علينا .
و " إذا " في قوله : "
إذا فشلتم " ، قيل : بمعنى إذ ، وحتى حرف جر ولا جواب لها إذ ذاك ، ويتعلق بتحسونهم أي : تقتلونهم إلى هذا الوقت . وقيل : حتى حرف ابتداء دخلت على الجملة الشرطية ، كما تدخل على جمل الابتداء . والجواب ملفوظ به وهو قوله : وتنازعتم على زيادة الواو ، قاله
الفراء وغيره ، وثم صرفكم على زيادة ثم ، وهذان القولان واللذان قبلهما ضعاف . والصحيح : أنه محذوف ؛ لدلالة المعنى عليه ، فقدره
ابن عطية : انهزمتم .
nindex.php?page=showalam&ids=14423والزمخشري : منعكم نصره ، وغيرهما : امتحنتم . والتقادير متقاربة . وحذف جواب الشرط لفهم المعنى جائز ؛ لقوله تعالى : (
فإن استطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية ) تقديره : فافعل . ويظهر أن الجواب المحذوف غير ما قدروه وهو : انقسمتم إلى قسمين . ويدل عليه ما بعده ، وهو نظير : (
فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد ) التقدير : انقسموا قسمين : فمنهم مقتصد لا يقال : كيف يقال : انقسموا فيمن فشل وتنازع وعصى ؛ لأن هذه الأفعال لم تصدر من كلهم ، بل من بعضهم كما ذكرناه في أول الكلام على هذه الآية .
وقال
أبو بكر الرازي : دلت هذه الآية على تقدم وعد الله تعالى للمؤمنين بالنصر على عدوهم ما لم يعصوا بتنازعهم وفشلهم ، وكان كما أخبر به هزموهم وقتلوا ، ودل ذلك على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - النبي بأن الإخبار بالغيوب من خصائص الربوبية وصفات الألوهية لا يطلع عليها إلا من أطلعه الله عليها ، ولا ينتهي علمها إلينا إلا على لسان رسول يخبر بها عن الله تعالى . (
منكم من يريد الدنيا ومنكم من يريد الآخرة ) قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وجمهور المفسرين : الدنيا الغنيمة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ، ما شعرنا أن أحدا من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد الدنيا حتى كان يوم
أحد ، والذين أرادوا الآخرة هم الذين ثبتوا في مركزهم مع أميرهم
nindex.php?page=showalam&ids=4700عبد الله بن جبير في نفر دون العشرة قتلوا جميعا ، وكان الرماة خمسين ، ذهب منهم نيف على أربعين للنهب وعصوا الأمر . وممن أراد الآخرة من ثبت بعد تخلخل المسلمين ، فقاتل حتى قتل ،
كأنس بن النضر وغيره ممن لم يضطرب في قتاله ولا في دينه . وهاتان الجملتان اعتراض بين المعطوف عليه والمعطوف .