صفحة جزء
( يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك ) : قيل : معناه يتسترون بهذه الأقوال التي ليست بمحض كفر ، بل هي جهالة . ويحتمل أن يكون إخبارا عما يخفونه من الكفر الذي لا يقدرون أن يظهروا منه أكثر من هذه النزغات . وقيل : الذي أخفوه قولهم : لو كنا في بيوتنا ما قتلنا هاهنا . وقيل : الندم على حضورهم مع المسلمين بأحد .

( يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا ) قال الزبير بن العوام فيما أسند عنه الطبري : والله لكأني أسمع قول معتب بن قشير أخي بني عمرو بن عوف ، والنعاس يغشاني ما أسمعه إلا كالحلم حين قال : لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا . ومعتب هذا شهد بدرا ، ذكر ذلك ابن إسحاق وغيره ، وكان مغموصا عليه بالنفاق . والمعنى : ما قتل أشرافنا وخيارنا ، وهذا إطلاق اسم الكل على البعض مجازا .

وقوله : " يقولون " يجوز أن يكون هو الذي أخفوه ، فيكون ذلك تفسيرا بعد إبهام قوله : " ما لا يبدون لك " . ومعناه : يقولون في أنفسهم أو بعضهم لبعض .

وقوله : " من الأمر " فسر الأمر هنا بما فسر في قول عبد الله بن أبي ابن سلول : هل لنا من الأمر من شيء . فقيل : المعنى لو كان الأمر كما قال محمد : إن الأمر كله لله ولأوليائه وإنهم الغالبون - لما غلبنا قط ، ولما قتل من المسلمين من قتل في هذه المعركة ، وقيل : من الرأي والتدبير ، وقيل : من دين محمد ، أي لسنا على حق في اتباعه .

وجواب " لو " هو الجملة المنفية بما . وإذا نفيت بما فالفصيح أن لا تدخل عليه اللام .

قيل : وفي قصة أحد اضطراب . ففي أولها أن عبد الله بن أبي ومن معه من المنافقين رجعوا ولم يشهدوا أحدا ، فعلى هذا يكون قالوا هذا بالمدينة ، ولم يقتل أحد منهم ولا من أصحابهم بالمدينة ، وإنما قتلوا بأحد ، فكيف جاء قوله : " هاهنا " ، وحديث الزبير في سماعه معتبا يقول ذلك دليل على أن معتبا حضر أحدا ! فإن صح حديث الزبير فيكون قد تخلف عن عبد الله بعض المنافقين وحضر أحدا ، فيتجه قوله : " هاهنا " ، وإن لم يصح فيوجه قوله : " هاهنا " إلى أنه إشارة إلىأحد إشارة القريب الحاضر ؛ لقرب أحد من المدينة .

( قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ) : هذا النوع عند علماء البيان يسمى الاحتجاج النظري ، وهو أن يذكر المتكلم معنى يستدل عليه بضروب من المعقول نحو : ( لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا ) ( قل يحييها الذي أنشأها أول مرة ) ( أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر ) وبعضهم يسميه : المذهب الكلامي ، ومنه قول الشاعر :


جرى القضاء بما فيه فإن تلم فلا ملام على ما خط بالقلم

وكتب : بمعنى فرض ، أو قضى وحتم ، أو خط في اللوح ، أو كتب ذلك الملك عليهم وهم أجنة ، أقوال . ومعنى الآية : أنه لو تخلفتم في البيوت لخرج من حتم عليه القتل إلى مكان مصرعه فقتل فيه ، وهذا رد على قول معتب ، ودليل على أن كل امرئ له أجل واحد لا يتعداه . فإن قيل : فهو الأجل الذي سبق له في الأزل وإلا مات لذلك الأجل ، ولا فرق بين موته وخروج روحه بالقتل ، أو بأي أسباب المرض ، أو فجأه من غير مرض ، هو أجل واحد لكل امرئ وإن تعددت الأسباب . وقد تكلم الزمخشري هنا بألفاظ مسهبة على عادته . فقال : لو كنتم في بيوتكم يعني - من علم الله أنه يقتل ويصرع في هذه المصارع - وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، لم يكن بد من وجوده . فلو قعدتم في بيوتكم لبرز من بينكم الذين علم الله أنهم يقتلون إلى مضاجعهم وهي مصارعهم ؛ ليكون ما علم أنه يكون . والمعنى : أن الله كتب في اللوح قتل من يقتل من المؤمنين ، وكتب مع ذلك أنهم الغالبون ؛ لعلمه أن العاقبة في الغلبة لهم ، وأن دين الإسلام يظهر على الدين كله . وإنما ينكبون به في بعض الأوقات ؛ تمحيصا لهم ، وترغيبا في الشهادة ، وحرصهم على الشهادة مما يحرضهم على الجهاد فتحصل الغلبة . انتهى كلامه . وهو نوع من الخطابة ، والمعنى في الآية واضح جدا لا [ ص: 90 ] يحتاج إلى هذا التطويل .

وقرأ الجمهور : " لبرز " ثلاثيا مبنيا للفاعل . أي لصاروا في البراز من الأرض . وقرأ أبو حيوة : " لبرز " مبنيا للمفعول مشدد الراء ، عدى برز بالتضعيف . وقرأ الجمهور : " كتب " مبنيا للمفعول ، ورفع القتل . وقرئ : " كتب " مبنيا للفاعل ، ونصب القتل . وقرأ الحسن والزهري : " القتال " مرفوعا . وتحتمل هذه القراءة الاستغناء عن المنافقين ، أي لو تخلفتم أنتم لبرز المطيعون المؤمنون الذين فرض عليهم القتال ، وخرجوا طائعين إلى مواضع استشهادهم ، فاستغنى بهم عنكم .

( وليبتلي الله ما في صدوركم وليمحص ما في قلوبكم ) تقدم معنى الابتلاء والتمحيص . فقيل : المعنى إن الله فرض عليكم القتال ولم ينصركم يوم أحد ليختبر صبركم ، وليمحص عنكم سيئاتكم إن تبتم وأخلصتم . وقيل : ليعاملكم معاملة المختبر . وقيل : ليقع منكم مشاهدة علمه غيبا كقوله : ( فينظر كيف تعملون ) . وقيل : هو على حذف مضاف ، أي : وليبتلي أولياء الله ما في صدوركم ، فأضافه إليه تعالى تفخيما لشأنه . والواو قيل : زائدة . وقيل : للعطف على علة محذوفة ، أي : ليقضي الله أمره وليبتلي . وقال ابن بحر : عطف على " ليبتليكم " ، لما طال الكلام أعاده ثم عطف عليه ليمحص . وقيل : تتعلق اللام بفعل متأخر ، التقدير : وليبتلي وليمحص فعل هذه الأمور الواقعة . وكان متعلق الابتلاء ما انطوت عليه الصدور وهي القلوب كما قال : ( ولكن تعمى القلوب التي في الصدور ) ومتعلق التمحيص وهو التصفية والتطهير ما انطوت عليه القلوب من النيات والعقائد .

( والله عليم بذات الصدور ) : تقدم تفسير مثل هذه الجملة ، وجاء بها عقيب قوله : وليمحص ما في قلوبكم على معنى أنه عليم بما انطوت عليه الصدور ، وما أضمرته من العقائد ، فهو يمحص منها ما أراد تمحيصه .

التالي السابق


الخدمات العلمية