(
فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل الله لكم عليهم سبيلا ) إذا كان المستثنون كفارا ؛ فالاعتزال حقيقة لا يتهيأ إلا في حالة المواجهة في الحرب كأنه يقول : إذا اعتزلوكم بانفرادهم عن قومهم الذين يقاتلونكم فلا تقتلوهم . وقيل أراد بالاعتزال هنا المهادنة . وسميت اعتزالا ; لأنها سبب الاعتزال عن القتال . والسلم هنا الانقياد ؛ قاله
الحسن ، أو الصلح ؛ قاله الربيع
ومقاتل ، أو الإسلام قاله
الحسن أيضا . وأما على من قال : إن المستثنين مؤمنون ، فالمعنى أنهم إذ قد اعتزلوكم ، وأظهروا الإسلام فاتركوهم ؛ فعلى هذا تكون في الذين أسلموا ولم يستحكم إيمانهم والمعنى : سبيلا إلى قتلهم ومقاتلتهم . وقرأ الجحدري : السلم بسكون اللام . وقرأ
الحسن : بكسر السين وسكون اللام .
(
ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها ) لما ذكر صفة المحقين في المتاركة المجدين في إلقاء السلم نبه على طائفة أخرى مخادعة يريدون الإقامة في مواضعهم مع أهليهم يقولون لهم : نحن معكم وعلى دينكم ، ويقولون للمسلمين كذلك إذا وجدوا . قيل كانت
أسد وغطفان بهذه الصفة فنزلت فيهم ؛ قاله
مقاتل . وقيل نزلت في
نعيم بن مسعود الأشجعي كان ينقل بين النبي صلى الله عليه وسلم الأخبار ؛ قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي . وقيل في قوم يجيئون من
مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم رياء ، ويظهرون الإسلام ، ثم يرجعون إلى
قريش يكفرون ؛
[ ص: 319 ] ففضحهم الله تعالى ، وأعلم أنهم ليسوا على صفة من تقدم ؛ قاله
مجاهد . وقيل إنهم من أهل تهامة ؛ قاله
قتادة . وقيل إنهم من المنافقين قاله
الحسن .
والظاهر من قوله : ستجدون آخرين أنهم قوم غير المستثنين في قوله : (
إلا الذين يصلون ) . وذهب قوم : إلى أنها بمنزلة الآية الأولى والقوم الذين نزلت فيهم هم الذين نزلت فيهم الأولى . وجاءت مؤكدة لمعنى الأولى مقررة لها . والسين في (
ستجدون ) ليست للاستقبال قالوا : إنما هي دالة على استمرارهم على ذلك الفعل في الزمن المستقبل ; كقوله : (
سيقول السفهاء ) ، وما نزلت إلا بعد قوله : (
ما ولاهم عن قبلتهم ) فدخلت السين إشعارا بالاستمرار ، انتهى . ولا تحرير في قولهم : إن السين ليست للاستقبال ، وإنما تشعر بالاستمرار ؛ بل السين للاستقبال ، لكن ليس في ابتداء الفعل ؛ لكن في استمراره أن يأمنوكم ; أي يأمنوا أذاكم ، ويأمنوا أذى قومهم . والفتنة هنا : المحنة في إظهار الكفر . ومعنى أركسوا فيها رجعوا أقبح رجوع وأشنعه ، وكانوا شرا فيها من كل عدو . وحكي أنهم كانوا يرجعون إلى قومهم ، فيقال لأحدهم : قل ربي الخنفساء ، وربي القردة ، وربي العقرب ، ونحوه فيقولها . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17340ابن وثاب nindex.php?page=showalam&ids=13726والأعمش : ردوا بكسر الراء ، لما أدغم نقل الكسرة إلى الراء . وقرأ
عبد الله : ركسوا بضم الراء من غير ألف مخففا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13042ابن جني عنه : بشد الكاف .
(
فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم ) أمر تعالى بقتل هؤلاء في أي مكان ظفر بهم ، على تقدير انتفاء الاعتزال وإلقاء السلم ، وكف الأيدي . ومفهوم الشرط يدل على أنه إذا وجهوا الاعتزال . وإلقاء السلم وكف الأيدي لم يؤخذوا ولم يقتلوا .
قال
ابن عطية : وهذه الآية حض على قتل هؤلاء المخادعين إذا لم يرجعوا عن حالهم إلى حال الآخرين المعتزلين الملقين للسلم . وتأمل فصاحة الكلام في أن ساقه في الصيغة المتقدمة قبل هذه سياق إيجاب الاعتزال ، وإيجاب إلقاء السلم ونفي المقاتلة ; إذ كانوا محقين في ذلك معتقدين له . وسياقه في هذه الصيغة المتأخرة سياق نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ; إذ كانوا مبطلين فيه مخادعين والحكم سواء على السياقين ؛ لأن الذين لم يجعل عليهم سبيلا لو لم يعتزلوا ؛ لكان حكمهم حكم هؤلاء الذين جعل عليهم السلطان المبين . وكذلك هؤلاء الذين عليهم السلطان إذا لم يعتزلوا ، لو اعتزلوا كان حكمهم حكم الذين لا سبيل عليهم ، ولكنهم بهذه العبارة تحت القتل إن لم يعتزلوا ، انتهى كلامه . وهو حسن . ولما كان أمر الفرقة الأولى أخف رتب تعالى انتفاء جعل السبيل عليهم على تقدير سببين : وجود الاعتزال وإلقاء السلم . ولما كان أمر هذه الفرقة المخادعة أشد ؛ رتب أخذهم وقتلهم على وجود ثلاثة أشياء : نفي الاعتزال ، ونفي إلقاء السلم ، ونفي كف الأذى . كل ذلك على سبيل التوكيد في حقهم والتشديد .