صفحة جزء
( إن الذين يكفرون بالله ورسله ) قال الحسن وقتادة والسدي ، وابن جريج : نزلت في اليهود والنصارى ، آمنت اليهود بموسى والتوراة ، وكفرت بعيسى ، ومحمد عليهما السلام ، وآمنت النصارى بعيسى والإنجيل ، وكفرت بمحمد والقرآن . وقيل نزلت في اليهود خاصة ، آمنوا بموسى وعزير والتوراة ، وكفروا بعيسى والإنجيل ، ومحمد والقرآن . ومناسبة هذه الآية لما قبلها : أنه لما بين ما عليه المنافقون من سوء الخليقة ومذموم الطريقة أخذ في الكلام على اليهود والنصارى ؛ جعل كفرهم ببعض الرسل كفرا بجميع الرسل ، وكفرهم بالرسل كفرا بالله تعالى .

( ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ) ; أي يفرقوا بين الإيمان بالله ورسله يقولون نؤمن بالله ، ولا نؤمن بفلان وفلان من الأنبياء .

( ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ) يعني من الأنبياء . وقيل هو تصديق اليهود بمحمد أنه نبي ؛ ولكن ليس إلى بني إسرائيل . ونحو هذا من تفرقاتهم التي كانت تعنتا ، وروغانا .

( ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا ) ; أي طريقا وسطا بين الكفر والإيمان ، ولا واسطة بينهما .

( أولئك هم الكافرون حقا ) أكد بقوله هم ، لئلا يتوهم أن ذلك الإيمان ينفعهم . وأكد بقوله : حقا ، وهو تأكيد لمضمون الجملة الخبرية ، كما تقول : هذا عبد الله حقا ; أي حق ذلك حقا . أو هو نعت لمصدر محذوف ; أي كفرا حقا ; أي ثابتا يقينا لا شك فيه . أو منصوب على الحال على مذهب سيبويه . وقد تقدم لذلك نظائر ، وقد طعن الواحدي في هذا التوجيه ، وقال : الكفر لا يكون حقا بوجه من الوجوه ، ولا يلزم ما قال إنه لا يراد بحقا الحق الذي هو مقابل للباطل ؛ وإنما المعنى أنه كفر ثابت متيقن ؛ وإنما كان التوكيد في ذلك ; لأن داعي الإيمان مشترك بين الأنبياء ، [ ص: 386 ] وهو ظهور المعجزات على أيديهم ؛ فكونهم فرقوا في الإيمان بينهم دليل على كفرهم بالجميع ; إذ ليس إيمانهم ببعض ناشئا عن النظر في الدليل ؛ وإنما هم على سبيل التشهي والتلاعب .

( وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا ) هذا وعيد لهم بالإهانة في العذاب .

( والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم ) هؤلاء هم المؤمنون أتباع محمد ، وتقدم الكلام على دخول ( بين ) على ( أحد ) في البقرة . في قوله : ( لا نفرق بين أحد من رسله ) فأغنى عن إعادته هنا .

( أولئك سوف نؤتيهم أجورهم ) صرح تعالى بوعد هؤلاء كما صرح بوعيد أولئك . وقرأ حفص : يؤتيهم بالياء ليعود على اسم الله قبله . وقرأ الباقون : بالنون على الالتفات ومقابله ( وأعتدنا ) . وقول أبي عبد الله الرازي : قراءة النون أولى من وجهين : أحدهما : أنه أنهم ، والآخر : أنه مشاكل لقوله : وأعتدنا ؛ ليس بجيد ، ولا أولوية في ذلك ; لأن القراءتين كلتاهما متواترة ، هكذا نزلت ، وهكذا أنزلت .

( وكان الله غفورا رحيما ) لما وعدهم تعالى بالثواب زادهم تبشيرا لتجاوز عن السيئات ، وبرحمته إياهم .

( يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء ) قال السدي : قالت اليهود : إن كنت صادقا فجئ بكتاب من السماء جملة ، كما جاء موسى بالكتاب . وقال محمد بن كعب القرظي : قالوا : ائت بألواح فيها كتابك ، كما أتى موسى بألواح فيها التوراة . وقال الحسن وقتادة : سألوه أن يأتي بكتاب خاص لليهود يأمرهم بالإيمان بمحمد . وقال ابن جريج : قالوا : لن نتابعك على ما تدعونا إليه ، حتى تأتينا بكتاب من عند الله إلى فلان وإلى فلان أنك رسول الله ؛ فعلى قول ابن جريج يقتضي أن سؤالهم كان على نحو سؤال عبد الله بن أمية الزهري ، وقيل كتابا نعاينه حتى ينزل ، وسمى من سائلي اليهود : كعب بن الأشرف ، وفنخاص بن عازوراء . وقيل السائلون هم اليهود والنصارى ، وسؤالهم إنما هو على سبيل التعنت . وقال الحسن : لو سألوه لكي يتبين الحق لأعطاهم ؛ فإن فيما أعطاكم كفاية .

( فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة ) قدروا قبل هذا كلاما محذوفا ؛ فجعله الزمخشري شرطا هذا جوابه ، وتقديره : إن استكبرت ما سألوه منك ؛ فقد سألوا موسى أكبر من ذلك . وقدره ابن عطية : فلا تبال يا محمد عن سؤالهم وتشطيطهم ؛ فإنها عادتهم ؛ فقد سألوا موسى . وأسند السؤال إليهم ، وإن كان إنما وقع من آبائهم من نقبائهم السبعين ; لأنهم راضون بفعل آبائهم ومذاهبهم ، ومشابهون لهم في التعنت . وقرأ الحسن : أكثر بالثاء المثلثة بدل الباء في قراءة الجمهور . ومعنى جهرة : عيانا رؤية [ ص: 387 ] منكشفة بينة . والجهرة من وصف الرؤية . واختلف في النقل عن ابن عباس فروي عنه : أن جهرة من صفة السؤال ؛ فقد سألوا موسى . أو حالا من ضمير سألوا أي سألوه مجاهرين . وروي عنه أن التقدير : فقالوا جهرة منه ، وتصريحا أرنا الله ؛ فيكون من صفة القول .

( فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ) أي تعنتهم ، وسؤالهم ما ليس لهم أن يسألوه . وقال الزمخشري : بظلمهم بسبب سؤالهم الرؤية ، ولو طلبوا أمرا جائزا لما سموا ظالمين ، ولما أخذتهم الصاعقة . كما سأل إبراهيم عليه السلام أن يريه إحياء الموتى فلم يسمه ظالما ، ولا رماه بالصاعقة للمشبهة ، ورميا بالصواعق ، انتهى . وهو على طريقة الاعتزال في استحالة رؤية الله عندهم . وأهل السنة يعتقدون أنهم لم يسألوا محالا عقلا ، لكنه ممتنع من جهة الشرع ; إذ قد أخبر تعالى على ألسنة أنبيائه ، أنه لا يرى في هذه الحياة الدنيا والرؤية في الآخرة ثابتة عن الرسول بالتواتر ، وهي جائزة عقلا ، وتقدم الكلام في البقرة على الصاعقة . وقرأ السلمي والنخعي : ( فأخذتهم الصعقة ) ، والجمهور ( الصاعقة ) .

( ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات ) ثم : للترتيب في الأخبار ، لا في نفس الأمر ، ثم قد كان من أمرهم أن اتخذوا العجل ; أي آباؤهم والذين صعقوا غير الذين اتخذوا العجل . والبينات : إجازة البحر والعصا ، وغرق فرعون ، وغير ذلك . وقال الحوفي : أعلم نبيه بعنادهم ، وإصرارهم ؛ فالمعنى : أنه لو نزل عليهم الذي سألوا لخالفوا أمر الله ، كما خالفوه من بعد إحياء الله لهم من صعقتهم ، وعبدوا العجل ، واتخذوه إلها .

( فعفونا عن ذلك ) ; أي عن اتخاذهم العجل إلها عن جميع ما تقدم من مخالفتهم . والأول أظهر ; لأنه قد صرح في قصة العجل بالتوبة . ويعني : بما امتحنهم به من القتل لأنفسهم ، ثم وقع العفو عن الباقين منهم .

( وآتينا موسى سلطانا مبينا ) ; أي حجة وتسلطا ، واستيلاء ظاهرا عليهم ، حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم حتى يتاب عليهم ؛ فأطاعوه واحتبوا بأفنيتهم والسيوف تتساقط عليهم ، فيا له من سلطان مبين .

( ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم ) تقدم ما المعني بالطور . وفي الشام جبل عرف بالطور ، ولزمه هذا الاسم ، وهو طور بسيناء . وليس هو المرفوع على بني إسرائيل ; لأن رفع الجبل كان فيما يلي التيه من جهة ديار مصر ، وهم ناهضون مع موسى عليه السلام ، وتقدمت قصة رفع الطور في البقرة . والباء في بميثاقهم للسبب ، وهو العهد الذي أخذه موسى عليهم بعد تصديقهم بالتوراة أن يعملوا بما فيها ؛ فنقضوا ميثاقهم ، وعبدوا العجل ، فرفع الله عليهم الطور . وفي كلام محذوف تقديره : بنقض ميثاقهم .

[ ص: 388 ] ( وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا ) تقدم تفسير هذه الجملة في البقرة .

( وقلنا لهم لا تعدوا في السبت ) تقدم ذكره عند اعتدائهم في قوله : ( ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت ) . وقرأ ورش لا تعدوا بفتح العين وتشديد الدال على أن الأصل تعتدوا ، فألقيت حركة التاء على العين ، وأدغمت التاء في الدال . وقرأ قالون : بإخفاء حركة العين وتشديد الدال ، والنص بالإسكان . وأصله أيضا لا تعتدوا . وقرأ الباقون من السبعة : لا تعدوا بإسكان العين ، وتخفيف الدال من عدا يعدو . وقال تعالى : ( إذ يعدون في السبت ) ، وقرأ الأعمش والأخفش : لا تعتدوا من اعتدى .

( وأخذنا منهم ميثاقا غليظا ) قيل هو الميثاق الأول في قوله : ( بميثاقهم ) ، ووصف بالغلظ للتأكيد ، وهو المأخوذ على لسان موسى وهارون أن يأخذوا التوراة بقوة ، ويعملوا بجميع ما فيها ، ويوصلوه إلى أبنائهم . وقيل : هذا الميثاق غير الأول ، وهو الميثاق الثاني الذي أخذ على أنبيائهم بالتصديق بمحمد والإيمان به ، وهو المذكور في قوله : ( وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب ) الآية .

( فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف ) قال ابن عطية فيما لخصناه من كلامه ، هذا إخبار عن أشياء واقعوها في الضد مما أخذوا به ، نقضوا الميثاق الذي رفع عليهم الطور بسببه ، وجعلوا بدل الإيمان الذي تضمنه الأمر بدخول الباب سجدا المتضمن التواضع الذي هو ثمرة الإيمان كفرهم بآيات الله ، وبذل الطاعة ، وامتثال موافقته في أن لا يعدوا في السبت انتهاك أعظم الحرم ، وهو قتل الأنبياء . وقابلوا أخذ الميثاق الغليظ بتجاهلهم ، وقولهم : قلوبنا غلف أي في حجب وغلف : فهي لا تفهم . وأضرب الله تعالى عن قولهم وكذبهم ، وأخبر تعالى أنه قد طبع عليها بسبب كفرهم ، انتهى . والميثاق المنقوض : أهو كتمانهم صفة الرسول ، وتكذيبه فيما جاء به ؟ أو تركهم العمل بما في كتابهم ؟ مع أنهم قبلوا والتزموا العمل بها قولان . وآيات الله التي كفروا بها أهي التي أنزلت عليهم في كتبهم ؟ أو جميع كتب الله المنزلة ؟ قولان . وتقدم شرح ( قلوبنا غلف ) في البقرة .

( بل طبع الله عليها بكفرهم ) أدغم لام ( بل ) في طاء ( طبع ) الكسائي وحمزة ، وأظهرها باقي السبعة . وقال الزجاج : بل طبع الله عليها بكفرهم خبر معناه الذم ، على أن قلوبهم بمنزلة المطبوع عليها التي لا تفهم أبدا ، ولا تطيع مرسلا . وقال الزمخشري : أرادوا بقولهم : قلوبنا غلف ; أي أن الله خلق قلوبنا غلفا ; أي في أكنة لا يتوصل إليها بشيء من الذكر والموعظة ، كما حكى الله عن المشركين : ( وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ) . وتكذيب المجبرة أخزاهم الله فقيل لهم : خذلها الله ، ومنعها الألطاف بسبب كفرهم ، فصارت كالمطبوع عليها ، لا إن تخلق غلفا قابلة الذكر ، ولا متمكنة من قبوله ، انتهى . وهو على مذهبه الاعتزالي . وأما أهل السنة فيقولون : إن الله طبع عليها حقيقة كما أخبر تعالى إذ لا خالق غيره . والباء في فبما نقضهم تتعلق بمحذوف قدره الزمخشري : فعلنا بهم ما فعلناه . وقدره ابن عطية : لعناهم ، وأذللناهم ، وحتمنا على الوافين منهم الخلود في جهنم . قال ابن عطية : وحذف جواب هذا الكلام بليغ متروك مع ذهن السامع ، انتهى . وتسمية ما يتعلق به المجرور بأنه جواب اصطلاح لم يعهد في علم النحو ، ولا تساعده اللغة ; لأنه ليس بجواب . وجوزوا أن يتعلق بقوله : ( حرمنا عليهم ) على أن قوله : ( فبظلم من الذين هادوا ) بدل من قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ؛ وقاله الزجاج ، وأبو بكر ، والزمخشري وغيرهم . وهذا فيه بعد لكثرة الفواصل بين البدل والمبدل منه ؛ ولأن المعطوف على السبب سبب ؛ فيلزم تأخر بعض أجزاء السبب الذي للتحريم في الوقت عن وقت التحريم ؛ فلا يمكن أن يكون جزء سبب أو مسببا إلا بتأويل بعيد ، وبيان ذلك أن " قولهم على مريم بهتانا عظيما " وقولهم " إنا قتلنا المسيح " متأخر في الزمان عن [ ص: 389 ] تحريم الطيبات عليهم ؛ فالأولى أن يكون التقدير : لعناهم ، وقد جاء مصرحا به في قوله : ( فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية ) .

( فلا يؤمنون إلا قليلا ) تقدم تفسير هذه الجملة فأغنى عن إعادته .

( وبكفرهم وقولهم على مريم بهتانا عظيما ) الظاهر في قوله : وبكفرهم وقولهم أنه معطوف على قوله : ( فبما نقضهم ) ، وما بعده . على أن الزمخشري أجاز أن يكون قوله : ( وبكفرهم وقولهم ) معطوفا على بكفرهم . وتكرار نسبة الكفر إليهم بحسب متعلقاته ; إذ كفروا بموسى ، ثم بعيسى ، ثم بمحمد عليه السلام ؛ فعطف بعض كفرهم على بعض . قال الزمخشري : أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ؛ كأنه قيل على بعض . قال الزمخشري : أو عطف مجموع المعطوف على مجموع المعطوف عليه ؛ كأنه قيل فيجمعهم بين نقض الميثاق والكفر بآيات الله وقتلهم الأنبياء ، وقولهم : ( قلوبنا غلف ) ، وجمعهم بين كفرهم ، وبهتهم مريم ، وافتخارهم بقتل عيسى عليه السلام عاقبناهم . أو بل طبع الله عليها ، وجمعهم بين كفرهم ، وكذا وكذا . وقال الزمخشري أيضا : فإن قلت : هلا زعمت أن المحذوف الذي تعلقت به الباء ما دل عليه قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم ؟ قلت : لم يصح هذا التقدير ; لأن قوله : بل طبع الله عليها بكفرهم ، رد وإنكار لقولهم : قلوبنا غلف ؛ فكان متعلقا به ، انتهى . وهو جواب حسن ، ويمتنع من وجه آخر ، وهو أن العطف ببل يكون للإضراب عن الحكم الأول ، وإثباته للثاني على جهة إبطال الأول ، أو الانتقال عاما في كتاب الله في الإخبار ؛ فلا يكون إلا للانتقال . ويستفاد من الجملة الثانية ما لا يستفاد من الجملة الأولى . والذي قدره الزمخشري لا يسوغ فيه هذا الذي قررناه ; لأن قوله : فبما نقضهم ميثاقهم ، وكفرهم بآيات الله ، وقولهم : قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم ؛ فأفادت الجملة الثانية ما أفادت الجملة الأولى ، وهو لا يجوز . لو قلت : مر زيد بعمرو ، بل مر زيد بعمرو لم يجز . وقد أجاز ذلك أبو البقاء ، وهو أن يكون التقدير : فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله ، وكذا طبع على قلوبهم . وقيل التقدير فبما نقضهم ميثاقهم لا يؤمنون إلا قليلا والفاء مقحمة . وما في قوله : فبما نقضهم كهي في قوله : ( فبما رحمة ) ، وتقدم الكلام فيها . والبهتان العظيم رميهم مريم عليها السلام بالزنا مع رؤيتهم الآية في كلام عيسى عليه السلام في المهد . قال ابن عطية : وإلا فلولا الآية لكانوا في قولهم جارين على حكم البشر في إنكار حمل من غير ذكر ، انتهى . ووصف بالعظم ; لأنهم تمادوا عليه بعد ظهور الآية ، وقيام المعجزة بالبراءة ، وقد جاءت تسمية الرمي بذلك بهتانا عظيما في قوله : ( سبحانك هذا بهتان عظيم ) .

( وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله ) الظاهر أن رسول الله من قولهم قالوا ذلك على سبيل الاستهزاء ؛ كقول فرعون : إن رسولكم الذي أرسل إليكم لمجنون ، وقوله : ( إنك لأنت الحليم الرشيد ) ، ويجوز أن يكون من كلام الله تعالى وضع الذكر الحسن مكان ذكرهم القبيح في الحكاية عنه رفعا لعيسى عليه السلام ، كما كانوا يذكرونه به . ذكر الوجهين الزمخشري ، ولم يذكر ابن عطية سوى الثاني ؛ قال : هو إخبار من الله تعالى بصفة عيسى عليه السلام ، وهي الرسالة على جهة إظهار ذنب هؤلاء المقرين بالقتل ، ولزمهم الذنب ، وهم لم يقتلوا عيسى ; لأنهم صلبوا ذلك الشخص على أنه عيسى ، وعلى أن عيسى كذاب ليس برسول ؛ ولكن لزمهم الذنب من حيث اعتقدوا أن قتلهم وقع في عيسى ؛ فكأنهم قتلوه ، وليس يدفع الذنب عنهم اعتقادهم أنه غير رسول .

( وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم ) هذا إخبار منه تعالى بأنهم ما قتلوا عيسى ، وما صلبوه .

واختلف الرواة في [ ص: 390 ] كيفية القتل والصلب ، ولم يثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك شيء غير ما دل عليه القرآن .

ومنتهى ما آل إليه أمر عيسى عليه السلام أنه طلبته اليهود فاختفى هو والحواريون في بيت ؛ فدلوا عليه وحضروا ليلا ، وهم ثلاثة عشر ، أو ثمانية عشر ؛ ففرقهم تلك الليلة ووجههم إلى الآفاق ، وبقي هو ورجل معه ؛ فرفع عيسى وألقي شبهه على الرجل فصلب . وقيل هو اليهودي الذي دل عليه . وقيل قال لأصحابه : أيكم يلقى عليه شبهي فيقتل ويخلص هؤلاء ، وهو رفيقي في الجنة ؟ فقال سرجس : أنا ، فألقي عليه شبه عيسى . وقيل ألقي شبهه على الجميع ، فلما أخرجوا نقص واحد من العدة ، فأخذوا واحدا ممن عليه الشبه فصلب . وروي أن الملك والمتناولين لم يخف عليهم أمر عيسى لما رأوه من نقصان العدة ، واختلاط الأمر ؛ فصلب ذلك الشخص ، وأبعد الناس عن خشبته أياما حتى تغير ، ولم تثبت له صفة ؛ وحينئذ دنا الناس منه ، ومضى الحواريون يتحدثون في الآفاق : إن عيسى صلب . وقيل لم يلق شبهه على أحد ؛ وإنما معنى : ( ولكن شبه لهم ) أي شبه عليهم الملك الممخرق ليستديم بما نقص واحد من العدة ، وكان بادر بصلب واحد ، وأبعد الناس عنه ، وقال : هذا عيسى ؛ وهذا القول هو الذي ينبغي أن يعتقد في قوله : ولكن شبه لهم ; أما أن يلقى شبهه على شخص ؛ فلم يصح ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيعتمد عليه .

وقد اختلف فيمن ألقي عليه الشبه اختلافا كثيرا . فقيل اليهودي الذي دل عليه . وقيل خليفة قيصر الذي كان محبوسا عنده . وقيل واحد من اليهود . وقيل دخل ليقتله . وقيل رقيب ، وكلته به اليهود . وقيل ألقي الشبه على كل الحواريين . وقيل ألقي الشبه على الوجه دون البدن ، وهذا الوثوق مما يدفع الوثوق بشيء من ذلك . ولهذا قال بعضهم : إن جاز أن يقال : إن الله تعالى يلقي شبه إنسان على إنسان آخر ؛ فهذا يفتح باب السفسطة . وقيل سبب اجتماع اليهود على قتله هو أن رهطا منهم سبوه ، وسبوا أمه فدعا عليهم : " اللهم أنت ربي ، وبكلمتك خلقتني ، اللهم العن من سبني ، وسب والدتي " فمسخ الله من سبهما قردة ، وخنازير ، فاجتمعت اليهود على قتله . و ( شبه ) مسند إلى الجار والمجرور ؛ كقوله : خيل إليه ، ولكن وقع لهم التشبيه . ويجوز أن يسند إلى ضمير المقتول الدال عليه : إنا قتلنا أي ولكن شبه لهم من قتلوه . ولا يجوز أن يكون ضمير المسيح ; لأن المسيح مشبه به لا مشبه .

( وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من علم إلا اتباع الظن ) اختلف فيه اليهود ؛ فقال بعضهم : لم يقتل ، ولم يصلب ؛ الوجه وجه عيسى والجسد جسد غيره . وقيل : أدخلوا عليه واحدا ليقتله ، فألقي الشبه عليه فصلب ، ونقص من العدد واحد . وكانوا علموا عدد الحواريين ؛ فقالوا : إن كان المصلوب صاحبنا فأين عيسى ؟ وإن كان عيسى فأين صاحبنا ؟ وقيل قال العوام : قتلنا عيسى ، وقال من عاين : رفعه إلى السماء ما قتل ، ولا صلب . قال ابن عطية : واليقين الذي صح فيه نقل الكافة عن حواسها هو أن شخصا صلب ، وهل هو عيسى أم لا ؟ فليس هو من علم الحواس ؛ فلذلك لم يقع في ذلك نقل كافة . والضمير في فيه عائد على القتل ؛ معناه : في قتله ، وهذا هو الظاهر الذي يدل عليه ما قبله ، وما بعده . وقيل الضمير في اختلفوا عائد على اليهود أيضا ، واختلافهم فيه قول بعضهم : إنه إله . وقول بعضهم : إنه ابن الله تعالى . وقيل اختلافهم فيه أن النسطورية قالوا : وقع الصلب على ناسوته دون لاهوته . وقيل وقع القتل والصلب عليهما . وقيل عائد على اليهود والنصارى ؛ فإن اليهود قالوا : هو ابن زنا . وقالت النصارى : هو ابن الله . وقيل اختلافهم من جهة أن النصارى قالوا : إن اليهود قتلته وصلبته واليهود الذين عاينوا رفعه قالوا : رفع إلى السماء . والجمهور على أن ( إلا اتباع الظن ) استثناء منقطع ; لأن اتباع الظن ليس من جنس العلم [ ص: 391 ] أي ولكن اتباع الظن لهم .

وقال الزمخشري : يعني ولكنهم يتبعون الظن ، وهذا تفسير معنى لا تفسير إعراب . وقال ابن عطية : هو استثناء متصل إذ الظن والعلم يضمهما أنهما من معتقدات اليقين . وقد يقول الظان على طريق التجوز : علمي في هذا الأمر أنه كذا ، وهو يعني ظنه ، انتهى . وليس كما ذكر ; لأن الظن ليس من معتقدات اليقين ; لأنه ترجيح أحد الجائزين ؛ وما كان ترجيحا فهو ينافي اليقين ؛ كما أن اليقين ينافي ترجيح أحد الجائزين . وعلى تقدير : أن الظن والعلم يضمهما ما ذكر ؛ فلا يكون أيضا استثناء متصلا ; لأنه لم يستثن الظن من العلم . فليست التلاوة ما لهم به من علم إلا الظن ؛ وإنما التلاوة إلا اتباع الظن ، والاتباع للظن لا يضمه والعلم جنس ما ذكر . وقال الزمخشري . فإن قلت : لم وصفوا بالشك ، والشك أن لا يترجح أحد الجائزين ؟ ثم وصفوا بالظن ، والظن أن يترجح أحدهما ؛ فكيف يكونون شاكين ظانين ؟ قلت : أريد أنهم شاكون ما لهم من علم قط ، ولكن لاحت لهم أمارة فظنوا ، انتهى . وهو جواب سؤاله ؛ ولكن يقال : لا يرد هذا السؤال ; لأن العرب تطلق الشك على ما لم يقع فيه القطع واليقين فيدخل فيه كل ما يتردد فيه ، إما على السواء بلا ترجيح ، أو بترجيح أحد الطرفين . وإذا كان كذلك اندفع السؤال .

( وما قتلوه يقينا ) قال ابن عباس ، والسدي وجماعة : الضمير في قتلوه عائد على الظن . تقول : قتلت هذا الأمر علما إذا قطعت به ، وجزمت الجزم الذي لا يخالجه شيء ؛ فالمعنى : وما صح ظنهم عندهم ، وما تحققوه يقينا ، ولا قطعوا الظن باليقين . وقال الفراء ، وابن قتيبة ; الضمير عائد على العلم ; أي ما قتلوا العلم يقينا . يقال : قتلت العلم والرأي يقينا وقتلته علما ; لأن القتل للشيء يكون عن قهر واستعلاء ؛ فكأنه قيل لم يكن علمهم بقتل المسيح علما أحيط به ؛ إنما كان ظنا . قال الزمخشري : وفيه تهكم ; لأن ( إذا ) نفي عنهم العلم نفيا كليا بحرف الاستغراق ثم قيل ، وما علموه علم يقين وإحاطة لم يكن إلا تهكما ، انتهى . والظاهر قول الجمهور : إن الضمير يعود على عيسى بجعل الضمائر كلها كشيء واحد ، فلا تختلف . والمعنى صحيح بليغ ، وانتصاب ( يقينا ) على أنه مصدر في موضع الحال من فاعل ( قتلوه ) ; أي متيقنين أنه عيسى كما ادعوا ذلك في قولهم : إنا قتلنا المسيح ؛ قاله السدي . أو نعت لمصدر محذوف ; أي قتلا يقينا جوزه الزمخشري . وقال الحسن : وما قتلوه حقا ، انتهى . فانتصابه على أنه مؤكد لمضمون الجملة المنفية كقولك : وما قتلوه حقا ; أي حق انتفاء قتله حقا . وما حكي عن ابن الأنباري أن في الكلام تقديما وتأخيرا وأن ( يقينا ) منصوب بـ ( رفعه الله إليه ) والمعنى : بل رفعه الله إليه يقينا ؛ فلعله لا يصح عنه . وقد نص الخليل على أن ذلك خطأ ; لأنه لا يعمل ما بعد ( بل ) في ما قبلها .

( بل رفعه الله إليه ) هذا إبطال لما ادعوه من قتله وصلبه ، وهو حي في السماء الثانية على ما صح عن الرسول في حديث المعراج . وهو هنالك مقيم حتى ينزله الله إلى الأرض لقتل الدجال ، وليملأها عدلا كما ملئت جورا ، ويحيا فيها أربعين سنة ثم يموت كما تموت البشر . وقال قتادة : رفع الله عيسى إليه فكساه الريش وألبسه النور ، وقطع عنه الطعام والشراب ؛ فصار مع الملائكة ؛ فهو معهم حول العرش ؛ فصار إنسيا ملكيا سماويا أرضيا .

والضمير في إليه عائد إلى الله تعالى على حذف التقدير إلى سمائه ، وقد جاء ( ورافعك إلي ) . وقيل إلى حيث لا حكم فيه إلا له . ولا يوجه الدعاء إلا نحوه ، وهو راجع إلى الأول . وقال أبو عبد الله الرازي : أعلم الله تعالى عقيب ذكره أنه وصل إلى عيسى أنواع من البلايا أنه رفعه إليه فدل أن رفعه إليه أعظم في إيصال الثواب من الجنة ، ومن كل ما فيها من اللذات الجسمانية ؛ وهذه الآية تفتح عليك باب معرفة السعادات الروحانية ، انتهى . وفيه نحو [ ص: 392 ] من كلام المتفلسفة .

( وكان الله عزيزا حكيما ) . قال أبو عبد الله الرازي : المراد من المعزة كمال القدرة ، ومن الحكمة كمال العلم ؛ فنبه بهذا على أن رفع عيسى عليه السلام من الدنيا إلى السماوات وإن كان كالمتعذر على البشر ، لكن لا تعذر فيه بالنسبة إلى قدرتي وحكمتي ، انتهى . وقال غيره : عزيزا أي قويا بالنقمة من اليهود ؛ فسلط عليهم بطرس الرومي فقتل منهم مقتلة عظيمة . حكيما حكم عليهم باللعنة والغضب . وقيل : عزيزا ؛ أي : لا يغالب ؛ لأن اليهود حاولت بعيسى عليه السلام أمرا وأراد الله خلافه . حكيما أي : واضع الأشياء مواضعها ؛ فمن حكمته تخليصه من اليهود ، ورفعه إلى السماء لما يريد وتقتضيه حكمته تعالى . وقال وهب بن منبه : أوحى الله تعالى إلى عيسى على رأس ثلاثين سنة ، ثم رفعه وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة ؛ فكانت نبوته ثلاث سنين . وقيل : بعث الله جبريل عليه السلام فأدخله خوخة فيها روزنة في سقفها ؛ فرفعه الله تعالى إلى السماء من تلك الروزنة .

( وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن به قبل موته ) . إن : هنا نافية ، والمخبر عنه محذوف قامت صفته مقامه ، التقدير : وما أحد من أهل الكتاب . كما حذف في قوله : ( وإن منكم إلا واردها ) والمعنى : وما من اليهود . وقوله : ( وما منا إلا له مقام معلوم ) أي : وما أحد منا إلا له مقام ، وما أحد منكم إلا واردها . قال الزجاج : وحذف ( أحد ) لأنه مطلوب في كل نفي يدخله الاستثناء نحو : ما قام إلا زيد ، معناه ما قام أحد إلا زيد . وقال الزمخشري : ( ليؤمنن به ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف ؛ تقديره : وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن به ، ونحوه : وما منا إلا له مقام معلوم ، وإن منكم إلا واردها . والمعنى : وما من اليهود أحد إلا ليؤمنن به ، انتهى .

وهو غلط فاحش إذ زعم أن ( ليؤمنن به ) جملة قسمية واقعة صفة لموصوف محذوف إلى آخره ، وصفة ( أحد ) المحذوف إنما هو الجار والمجرور وهو ( من أهل الكتاب ) ، والتقدير كما ذكرناه : وإن أحد من أهل الكتاب . وأما قوله : ليؤمنن به ؛ فليست صفة لموصوف ، ولا هي جملة قسمية كما زعم ؛ إنما هي جملة جواب القسم ، والقسم محذوف ، والقسم وجوابه في موضع رفع خبر المبتدأ الذي هو ( أحد ) المحذوف ؛ إذ لا ينتظم من أحد والمجرور إسناد ؛ لأنه لا يفيد ؛ وإنما ينتظم الإسناد بالجملة القسمية وجوابها ؛ فذلك هو محط الفائدة وكذلك أيضا الخبر هو ( إلا له مقام ) ، وكذلك إلا واردها ؛ إذ لا ينتظم مما قبل إلا تركيب إسنادي . والظاهر أن الضميرين في : به وموته عائدان على عيسى وهو سياق الكلام ، والمعنى : من أهل الكتاب الذين يكونون في زمان نزوله .

روي أنه ينزل من السماء في آخر الزمان ؛ فلا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا يؤمن به ؛ حتى تكون الملة واحدة وهي ملة الإسلام ؛ قاله : ابن عباس والحسن وأبو مالك . وقال ابن عباس أيضا وعكرمة والضحاك والحسن أيضا ومجاهد وغيرهم : الضمير في به لعيسى ، وفي موته لكتابي وقالوا : وليس يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى ويعلم أنه نبي ؛ ولكن عند المعاينة للموت فهو إيمان لا [ ص: 393 ] ينفعه كما لم ينفع فرعون إيمانه وقت المعاينة . وبدأ بما يشبه هذا لقول الزمخشري . قال : والمعنى ما من اليهود والنصارى أحد إلا ليؤمنن قبل موته بعيسى ، وبأنه عبد الله ورسوله ؟ يعني : إذا عاين قبل أن تزهق روحه حين لا ينفعه إيمانه لانقطاع وقت التكليف . ثم حكي عن شهر بن حوشب والحجاج حكاية فيها طول يمس بالتفسير منها : أن اليهودي إذا حضره الموت ضربت الملائكة دبره ووجهه وقالوا : يا عدو الله أتاك عيسى نبيا فكذبت به ؛ فيقول : آمنت أنه نبي . وتقول للنصراني : أتاك عيسى نبيا فزعمت أنه الله أو ابن الله ؛ فيقول : آمنت أنه عبد الله ورسوله حيث لا ينفعه إيمانه . وعن ابن عباس أنه فسره كذلك ؛ فقال له عكرمة : فإن أتاه رجل فضرب عنقه ؟ قال : لا تخرج نفسه حتى يحرك بها شفتيه . قال : وإن خرج فوق بيت أو احترق أو أكله سبع ؟ قال : يتكلم بها في الهوى ، ولا تخرج روحه حتى يؤمن به . ويدل عليه قراءة أبي : " إلا ليؤمنن به قبل موتهم " بضم النون على معنى : وإن منهم أحد إلا سيؤمنون به قبل موتهم ؛ لأن أحدا يصلح للجمع . فإن قلت : فما فائدة الإخبار بإيمانهم بعيسى قبل موتهم ؟ قلت : فائدته الوعيد ، وليكن علمهم بأنهم لا بد لهم من الإيمان به عن قريب عند المعاينة ، وأن ذلك لا ينفعهم بعثا لهم وتنبيها على معالجة الإيمان به في أوان الانتفاع به ، وليكون إلزاما للحجة لهم .

وكذلك قوله . ( ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا ) يشهد على اليهود بأنهم كذبوه ، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله ، انتهى كلامه . وقال أيضا : ويجوز أن يريد أنه لا يبقى أحد من جميع أهل الكتاب إلا ليؤمنن به ، على أن الله يحييهم في قبورهم في ذلك الزمان ويعلمهم نزوله وما نزل له ، ويؤمنون به حين لا ينفعهم إيمانهم ، انتهى . وقال عكرمة : الضمير في به لمحمد عليه الصلاة والسلام وفي موته للكتابي . قال : وليس يخرج يهودي ولا نصراني من الدنيا حتى يؤمن بمحمد ، ولو غرق أو سقط عليه جدار ؛ فإنه يؤمن في ذلك الوقت . وقيل : يعود في به على الله ، وفي موته على أحد المقدر . قال ابن زيد : إذا نزل عيسى عليه السلام لقتل الدجال لم يبق يهودي ولا نصراني إلا آمن بالله حين يرون قتل الدجال ، وتصير الأمم كلها واحدة على ملة الإسلام ، ويعزى هذا القول أيضا إلى ابن عباس والحسن وقتادة .

وقال العباس بن غزوان : وإن من أهل الكتاب بتشديد النون ، وهي قراءة عسرة التخريج ، ويوم القيامة يكون عليهم شهيدا أي : شهيدا على أهل الكتاب على اليهود بتكذيبهم إياه وطعنهم فيه ، وعلى النصارى بجعلهم إياه إلاها مع الله أو ابنا له ، والضمير في يكون لعيسى . وقال عكرمة : لمحمد صلى الله عليه وسلم . قيل : وتضمنت هذه الآيات أنواعا من الفصاحة والبديع ؛ فمنها التجنيس المغاير في : ( يخادعون ) و ( خادعهم ) ، و ( شكرتم ) و ( شاكرا ) . والمماثل في : ( وإذا قاموا ) . والتكرار في اسم الله ، وفي : ( هؤلاء ) و ( هؤلاء ) ، وفي : و ( يرون ) و ( يريدون ) ، وفي : ( الكافرين ) و ( الكافرين ) ، وفي : ( أهل الكتاب ) و ( كتابا ) ، وفي : ( بميثاقهم ) و ( ميثاقا ) . والطباق في : الكافرين والمؤمنين ، وفي : ( إن تبدوا ) أو ( تخفوه ) ، وفي : ( نؤمن ) و ( نكفر ) ، والاختصاص في : ( إلى الصلاة ) ، وفي : ( الدرك الأسفل ) ، وفي : ( الجهر بالسوء ) . والإشارة في مواضع الاستعارة في يخادعون الله وهو خادعهم استعار اسم الخداع للمجازاة وفي ( سبيلا ) ، وفي ( سلطانا ) لقيام الحجة و ( الدرك الأسفل ) لانخفاض طبقاتهم في النار ، و ( اعتصموا ) للالتجاء ، وفي : ( أن يفرقوا ) ، وفي : ( ولم يفرقوا ) وهو حقيقة في الأجسام استعير للمعاني ، وفي ( سلطانا ) استعير للحجة ، وفي : ( غلف ) و ( بل طبع الله ) . وزيادة الحرف لمعنى في ( فبما نقضهم ) .

وإسناد الفعل إلى غير فاعله في : فأخذتهم الصاعقة و جاءتهم البينات وإلى الراضي به وفي : وقتلهم الأنبياء ، وفي : وقولهم على مريم بهتانا ، وقولهم إنا قتلنا المسيح . وحسن النسق في : فبما نقضهم ميثاقهم ، والمعاطيف [ ص: 394 ] عليه حيث نسقت بالواو التي تدل على الجميع فقط . وبين هذه الأشياء أعصار متباعدة فشرك أوائلهم وأواخرهم لعمل أولئك ورضا هؤلاء . وإطلاق اسم كل على بعض وفي : كفرهم بآيات الله وهو القرآن والإنجيل ولم يكفروا بشيء من الكتب إلا بهما وفي قولهم إنا قتلنا ولم يقل ذلك إلا بعضهم . والتعريض في رسول الله إذا قلنا إنه من كلامهم . والتوجيه في غلف من احتمال المصدر جمع غلاف أو جمع أغلف . وعود الضمير على غير مذكور وهو في ليؤمنن به قبل موته على من جعلهما لغير عيسى . والنقل من صيغة فاعل إلى فعيل في شهيد . والحذف في مواضع .

التالي السابق


الخدمات العلمية