(
اليوم أحل لكم الطيبات ) فائدة إعادة ذكر إحلال الطيبات التنبيه بإتمام النعمة فيما يتعلق بالدنيا ، ومنها إحلال الطيبات كما نبه بقوله : (
اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ) على إتمام النعمة في كل ما يتعلق بالدين . ومن زعم أن اليوم واحد قال : كرره ثلاث مرات تأكيدا ، والظاهر أنها أوقات مختلفة . وقد قيل في الثلاثة : إنها أوقات أريد بها مجرد الوقت ، لا وقت معين . والظاهر أن الطيبات هنا هي الطيبات المذكورة قبل .
(
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) طعامهم هنا هي الذبائح ، كذا قال معظم أهل التفسير . قالوا : لأن ما كان من نوع البر والخبز والفاكهة وما لا يحتاج فيه إلى ذكاة لا يختلف في حلها باختلاف حال أحد ، لأنها لا تحرم بوجه سواء كان المباشر لها كتابيا ، أو مجوسيا ، أم غير ذلك . وأنها لا يبقى لتخصيصها بأهل الكتاب فائدة ، ولأن ما قبل هذا في بيان الصيد والذبائح فحمل هذه الآية على الذبائح أولى . وذهب قوم إلى أن المراد بقوله : وطعام ، جميع مطاعمهم . ويعزى إلى قوم ومنهم بعض أئمة
الزيدية ، حمل الطعام هنا على ما لا يحتاج فيه إلى الذكاة كالخبز والفاكهة ، وبه قالت
الإمامية . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15194الشريف المرتضى :
نكاح الكتابية حرام ، وذبائحهم وطعامهم وطعام من يقطع بكفره ، وإذا حملنا الطعام على ما قاله الجمهور من الذبائح فقد اختلفوا فيما هو حرام عليهم ، أيحل لنا أم يحرم ؟ فذهب الجمهور إلى أن تذكية الذمي مؤثرة في كل الذبيحة ما حرم عليهم منها وما حل ، فيجوز لنا أكله . وذهب قوم إلى أنه لا تعمل الذكاة فيما حرم عليهم ، فلا يحل لنا أكله كالشحوم المحضة ، وهذا هو الظاهر لقوله :
وطعام الذين أوتوا الكتاب ، وهذا المحرم عليهم ليس من طعامهم . وهذا الخلاف موجود في مذهب
مالك .
والظاهر حل طعامهم سواء سموا عليه اسم الله ، أم اسم غيره ، وبه قال
عطاء ،
والقاسم بن بحصرة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
وربيعة ،
ومكحول ،
والليث ، وذهب إلى أن الكتابي إذا لم يذكر اسم الله على الذبيحة وذكر غير الله لم تؤكل وبه قال
nindex.php?page=showalam&ids=4أبو الدرداء ،
nindex.php?page=showalam&ids=63وعبادة بن الصامت ، وجماعة من
الصحابة . وبه قال :
أبو حنيفة ،
وأبو يوسف ،
ومحمد ،
وزفر ،
ومالك . وكره
النخعي nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري أكل ما ذبح وأهل به لغير الله . وظاهر قوله : "
أوتوا الكتاب " أنه مختص ببني إسرائيل والنصارى الذين نزل عليهم التوراة والإنجيل ، دون من دخل في دينهم من العرب أو العجم ، فلا تحل ذبائحهم لنا ، كنصارى
بني تغلب وغيرهم . وقد نهى عن ذبائحهم
علي ، رضي الله عنه ، وقال : لم يتمسكوا من النصرانية إلا بشرب الخمر . وذهب الجمهور ،
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
والحسن ،
وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15990وابن المسيب ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
وعطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=13283وابن شهاب ،
والحكم ،
وقتادة ،
وحماد ،
ومالك ،
وأبو حنيفة وأصحابه : أنه لا فرق بين بني إسرائيل والنصارى ومن تهود أو تنصر من العرب أو العجم في حل أكل ذبيحتهم . والظاهر أن
ذبيحة المجوسي لا تحل لنا لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وما روي عن
مالك أنه قال : هم أهل كتاب وبعث إليهم رسول يقال :
زرادشت ، لا يصح . وقد أجاز قوم أكل ذبيحتهم مستدلين بقوله : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374315سنوا بهم سنة أهل الكتاب ) . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب : إذا كان المسلم مريضا فأمر المجوسي أن يذكر الله ويذبح فلا بأس . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11956أبو ثور : وإن أمر بذلك في الصحة فلا بأس . والظاهر أن ذبيحة الصابئ لا يجوز لنا أكلها ، لأنهم ليسوا من الذين أوتوا الكتاب . وخالف
أبو حنيفة فقال : حكمهم حكم أهل الكتاب . وقال صاحباه : هم صنفان ، صنف يقرءون الزبور ويعبدون الملائكة ، وصنف لا يقرءون كتابا ويعبدون النجوم ، فهؤلاء ليسوا من أهل الكتاب .
(
وطعامكم حل لهم ) أي : ذبائحكم
[ ص: 432 ] وهذه رخصة للمسلمين لا لأهل الكتاب . لما كان الأمر يقتضي أن شيئا شرعت لنا فيه التذكية ، ينبغي لنا أن نحميه منهم ، فرخص لنا في ذلك رفعا للمشقة بحسب التجاوز ، فلا علينا بأس أن نطعمهم ، ولو كان حراما عليهم طعام المؤمنين لما ساغ للمؤمنين إطعامهم . وصار المعنى : أنه أحل لكم أكل طعامهم ، وأحل لكم أن تطعموهم من طعامكم ، والحل الحلال ويقال في الإتباع هذا حل بل .
(
والمحصنات من المؤمنات ) هذا معطوف على قوله :
وطعام الذين أوتوا الكتاب ; والمعنى : وأحل لكم نكاح المحصنات من المؤمنات (
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ) والإحصان يكون بالإسلام وبالتزويج ، ويمتنعان هنا ، وبالحرية وبالعفة . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=2عمر بن الخطاب ،
ومجاهد ،
ومالك ، وجماعة : الإحصان هنا الحرية ، فلا يجوز نكاح الأمة الكتابية . وقال جماعة ، منهم
مجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
وأبو ميسرة ،
وسفيان ، الإحصان هنا العفة ، فيجوز نكاح الأمة الكتابية . ومنع بعض العلماء من نكاح غير العفيفة بهذا المفهوم الثاني . قال
الحسن : إذا اطلع الإنسان من امرأته على فاحشة فليفارقها . وعن
مجاهد : يحرم البغايا من المؤمنات ومن أهل الكتاب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي إحصان اليهودية والنصرانية أن لا تزني وأن تغتسل من الجنابة . وقال
عطاء : رخص في التزويج بالكتابية ، لأنه كان في المسلمات قلة ، فأما الآن ففيهن الكثرة ، فزالت الحاجة إليهن والرخصة في تزويجهن ، ولا خلاف بين السلف وفقهاء الأمصار في إباحة نكاح الحرائر الكتابيات ، واتفق على ذلك
الصحابة إلا شيئا روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أنه سأله رجل عن ذلك فقال : اقرأ آية التحليل - يشير إلى هذه الآية - وآية التحريم ، يشير إلى (
ولا تنكحوا المشركات ) وقد تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله :
ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن .
وتزوج
nindex.php?page=showalam&ids=7عثمان بن عفان ، رضي الله عنه ،
نايلة بنت الفرافصة الكلبية على نسائه ، وتزوج
طلحة بن عبد الله يهودية من
الشام ، وتزوج
حذيفة يهودية .
( فإن قلت ) : يكون ثم محذوف ; أي : والمحصنات اللاتي كن كتابيات فأسلمن ، ويكون قد وصفهن بأنهن من الذين أوتوا الكتاب باعتبار ما كن عليه كما قال : (
وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله ) . وقال : (
من أهل الكتاب أمة قائمة ) ثم قال بعد (
يؤمنون بالله واليوم الآخر ) ( قلت ) : إطلاق لفظ أهل الكتاب ينصرف إلى اليهود والنصارى دون المسلمين ودون سائر الكفار ، ولا يطلق على مسلم أنه من أهل الكتاب ، كما لا يطلق عليه يهودي ولا نصراني . فأما الآيتان فأطلق الاسم مقيدا بذكر الإيمان فيهما ، ولا يوجد مطلقا في القرآن بغير تقييد إلا والمراد بهم اليهود والنصارى . وأيضا فإنه قال :
والمحصنات من المؤمنات ، فانتظم ذلك سائر المؤمنات ممن كن مشركات أو كتابيات ، فوجب أن يحمل قوله :
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، على الكتابيات اللاتي لم يسلمن وإلا زالت فائدته ، إذ قد اندرجن في قوله :
والمحصنات من المؤمنات . وأيضا فمعلوم من قوله تعالى : (
وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم ) أنه لم يرد به طعام المؤمنين الذين كانوا من أهل الكتاب ، بل المراد اليهود والنصارى ، فكذلك هذه الآية .
( فإن قيل ) : يتعلق في تحريم الكتابيات بقوله تعالى : (
ولا تمسكوا بعصم الكوافر ) ( قيل ) : هذا في الحربية إذا خرج زوجها مسلما ، أو الحربي تخرج امرأته مسلمة ، ألا ترى إلى قوله : (
واسألوا ما أنفقتم وليسألوا ما أنفقوا ) ولو سلمنا العموم لكان مخصوصا بقوله :
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ، والظاهر جواز
نكاح الحربية الكتابية لاندراجها في عموم :
والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم . وخص
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس هذا العموم بالذمية ، فأجاز نكاح الذمية دون الحربية ، وتلا قوله تعالى : (
قاتلوا الذين لا يؤمنون ) إلى قوله (
وهم صاغرون ) ولم يفرق غيره من
الصحابة من الحربيات والذميات . وأما نصارى
بني تغلب فمنع نكاح نسائهن
علي وإبراهيم [ ص: 433 ] nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد ، وأجازه
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس .
(
إذا آتيتموهن أجورهن ) أي : مهورهن . وانتزع العلماء من هذا أنه لا ينبغي أن يدخل زوج بزوجته إلا بعد أن يبذل لها من المهر ما يستحلها به ، ومن جوز أن يدخل دون بذل ذلك رأى أنه محكم الالتزام في حكم المؤتى . وفي ظاهر قوله :
إذا آتيتموهن أجورهن ، دلالة على أن إماء الكتابيات لسن مندرجات في قوله :
والمحصنات ، فيقوي أن يراد به الحرائر ، إذ الإماء لا يعطون أجورهن ، وإنما يعطى السيد . إلا أن يجوز فنجعل إعطاء السيد إعطاء لهن . وفيه دلالة أيضا على أن أقل الصداق لا يتقدر ، إذ سماه أجرا ، والأجر في الإجارات لا يتقدر .
(
محصنين غير مسافحين ولا متخذي أخدان ) تقدم تفسير نظيره في النساء . (
ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين ) سبب نزولها فيما رواه
أبو صالح عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أنه تعالى لما أرخص في نكاح الكتابيات قلن بينهن : لولا أن الله رضي ديننا وقبل عملنا لم يبح للمؤمنين تزويجنا ، فنزلت . وقال
مقاتل : فيما أحصن المسلمون من نكاح نساء أهل الكتاب يقول : ليس إحصان المسلمين إياهن بالذي يخرجهن من الكفر . انتهى .
ولما ذكر فرائض وأحكاما يلزم القيام بها ، أنزل ما يقتضي الوعيد على مخالفتها ليحصل تأكيد الزجر عن تضييعها . وقال
القفال ما معناه : لما حصلت لهم في الدنيا فضيلة مناكحة نسائهم ، وأكل ذبائحهم ، حصل لهم من الفرق في الآخرة بأن من كفر حبط عمله . انتهى . والكفر بالإيمان لا يتصور . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
ومجاهد : أي ومن يكفر بالله . وحسن هذا المجاز أنه تعالى رب الإيمان وخالقه . وقال
الكلبي : ومن يكفر بشهادة أن لا إله إلا الله ، جعل كلمة التوحيد إيمانا . وقال
قتادة : إن ناسا من المسلمين قالوا : كيف نتزوج نساءهم مع كونهم على غير ديننا فأنزل الله تعالى :
ومن يكفر بالإيمان ; أي : بالمنزل في القرآن ، فسمي القرآن إيمانا لأنه المشتمل على بيان كل ما لا بد منه في الإيمان . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : معناه من أحل ما حرم الله ، أو حرم ما أحل الله فهو كافر . وقال
أبو سليمان الدمشقي : من جحد ما أنزله الله من شرائع الإسلام وعرفه من الحلال والحرام . وتبعه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في هذا التفسير فقال : ومن يكفر بالإيمان ; أي : بشرائع الإسلام ، وما أحل الله وحرم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي : سمعت
الحسن بن أبي بكر النيسابوري يقول : إنما أباح الله الكتابيات لأن بعض المسلمين قد يعجبه حسنهن ، فحذر ناكحهن من الميل إلى دينهن بقوله :
ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله . وقرأ
ابن السميقع : حبط ، بفتح الباء ،
وهو في الآخرة من الخاسرين . حبوط عمله وخسرانه في الآخرة مشروط بالموافاة على الكفر .