(
ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ) نزلت في قصة
عائشة رضي الله عنها حين فقدت العقد بسبب فقد الماء
[ ص: 434 ] ومشروعية التيمم ، وكان الوضوء متعذرا عندهم ، وإنما جيء به للاستطراد منه إلى التيمم ، وذلك في غزوة المريسيع وهي غزوة
بني المصطلق ، وفيها كان هبوب الريح ، وقول
عبد الله بن أبي ابن سلول :
لئن رجعنا إلى المدينة ، وحديث الإفك . وقال
علقمة بن الفغو وهو من
الصحابة : إنها نزلت رخصة للرسول لأنه كان لا يعمل عملا إلا على وضوء ، ولا يكلم أحدا ولا يرد سلاما على غير ذلك ، فأعلمه الله أن الوضوء إنما هو عند القيام إلى الصلاة فقط دون سائر الأعمال .
ومناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما افتتح بالأمر بإيفاء العهود ، وذكر تحليلا وتحريما في المطعم والمنكح واستقصى ذلك ، وكان المطعم آكد من المنكح وقدمه عليه ، وكان النوعان من لذات الدنيا الجسمية ومهماتها للإنسان وهي معاملات دنيوية بين الناس بعضهم من بعض ، استطرد منها إلى المعاملات الأخروية التي هي بين العبد وربه ، سبحانه وتعالى ، ولما كان أفضل الطاعات بعد الإيمان الصلاة ، والصلاة لا تمكن إلا بالطهارة ، بدأ بالطهارة وشرائط الوضوء ، وذكر البدل عنه عند تعذر الماء . ولما كانت محاولة الصلاة في الأغلب إنما هي بقيام ، جاءت العبارة : إذا قمتم ; أي : إذا أردتم القيام إلى فعل الصلاة . وعبر عن إرادة القيام بالقيام ، إذ القيام متسبب عن الإرادة ، كما عبروا عن القدرة على الفعل بالفعل في قولهم : الأعمى لا يبصر ; أي : لا يقدر على الإبصار ، وقوله : (
نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين ) أي : قادرين على الإعادة . وقوله : (
فإذا قرأت القرآن فاستعذ ) أي : إذا أردت قراءة القرآن لما كان الفعل متسببا عن القدرة والإرادة أقيم المسبب مقام السبب .
وقيل معنى
قمتم إلى الصلاة : قصدتموها ، لأن من توجه إلى شيء وقام إليه كان قاصدا له ، فعبر عن القصد له بالقيام إليه . وظاهر الآية يدل على أن الوضوء واجب على كل من قام إلى الصلاة متطهرا كان أو محدثا . وقال به جماعة منهم
داود . وروي فعل ذلك عن علي
وعكرمة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين : كان الخلفاء يتوضئون لكل صلاة . وذهب الجمهور : إلى أنه لا بد في الآية من محذوف وتقديره : إذا قمتم إلى الصلاة محدثين ، لأنه لا يجب الوضوء إلا على المحدث ، ويدل على هذا المحذوف مقابلته بقوله : (
وإن كنتم جنبا فاطهروا ) وكأنه قيل : إن كنتم محدثين الحدث الأصغر فاغسلوا هذه الأعضاء ، وامسحوا هذين العضوين ، وإن كنتم محدثين الحدث الأكبر فاغسلوا جميع الجسد . وقال قوم ، منهم
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم : إذا قمتم من المضاجع يعنون النوم . وقالوا : في الكلام تقديم وتأخير ; أي : إذا قمتم إلى الصلاة من النوم
أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء ; أي : الملامسة الصغرى
فاغسلوا وجوهكم . وهذا التأويل ينزه حمل كتاب الله عليه ، وإنما ذكروا ذلك طلبا لأن يعم الإحداث بالذكر .
وقال قوم : الخطاب خاص وإن كان بلفظ العموم ، وهو رخصة للرسول ، صلى الله عليه وسلم ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374316أمر بالوضوء عند كل صلاة فشق عليه ذلك ، فأمر بالسواك ، فرفع عنه الوضوء إلا من حدث . وقال قوم : الأمر بالوضوء لكل صلاة على سبيل الندب ، وكان كثير من
الصحابة يفعله طلبا للفضل ، منهم :
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر . وقال قوم : الوضوء عند كل صلاة كان فرضا ونسخ . وقيل : فرضا على الرسول خاصة ، فنسخ
[ ص: 435 ] عنه عام الفتح . وقيل : فرضا على الأمة فنسخ عنه وعنهم . ولا يجوز أن يكون فاغسلوا : أمرا للمحدثين على الوجوب وللمتطهرين على الندب ، لأن تناول الكلام لمعنيين مختلفين من باب الإلغاز والتعمية قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري .
فاغسلوا وجوهكم ، الوجه : ما قابل الناظر وحده طولا منابت الشعر فوق الجبهة مع آخر الذقن . والظاهر أن اللحية ليست داخلة في غسل الوجه ، لأنها ليست منه . وكذلك الأذنان عرضا من الأذن إلى الأذن . ومن رأى أن الغسل هو إيصال الماء مع إمرار شيء على المغسول أوجب الدلك ، وهو مذهب
مالك ، والجمهور لا يوجبونه . والظاهر أن المضمضة والاستنشاق ليس مأمورا بهما في الآية في غسل الوجه ، ويرون ذلك سنة . وقال
مجاهد : الاستنشاق شطر الوضوء . وقال
عطاء ،
nindex.php?page=showalam&ids=12300والزهري ،
وقتادة ،
nindex.php?page=showalam&ids=15741وحماد بن أبي سليمان ،
nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى ،
وإسحاق : من
ترك المضمضة والاستنشاق في الوضوء أعاد الصلاة . وقال
أحمد : يعيد من ترك الاستنشاق ، ولا يعيد من ترك المضمضة ; والإجماع على أنه لا يلزم غسل داخل العينين ، إلا ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر أنه كان ينضح الماء في عينيه .
وأيديكم إلى المرافق ; اليد في اللغة من أطراف الأصابع إلى المنكب ، وقد غيا الغسل إليها . واختلفوا في دخولها في الغسل ، فذهب الجمهور إلى وجوب دخولها ، وذهب
زفر ،
وداود إلى أنه لا يجب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : " إلى " تفيد معنى الغاية مطلقا ، ودخولها في الحكم وخروجها أمر يدور مع الدليل . ثم ذكر مثلا مما دخل وخرج ثم قال : وقوله : (
إلى المرافق وإلى الكعبين ) لا دليل فيه على أحد الأمرين . انتهى كلامه . وذكر أصحابنا أنه إذا لم يقترن بما بعد " إلى " قرينة دخول أو خروج فإن في ذلك خلافا . منهم من ذهب إلى أنه داخل ، ومنهم من ذهب إلى أنه غير داخل ، وهو الصحيح وعليه أكثر المحققين وذلك أنه إذا اقترنت به قرينة فإن الأكثر في كلامهم أن يكون غير داخل ، فإذا عري من القرينة فيجب حمله على الأكثر . وأيضا فإذا قلت : اشتريت المكان إلى الشجرة فما بعد ( إلى ) هو داخل الموضع الذي انتهى إليه المكان المشترى ، فلا يمكن أن تكون الشجرة من المكان المشترى ، لأن الشيء لا ينتهي ما بقي منه شيء إلا أن يتجوز ، فيجعل ما قرب من الانتهاء انتهاء . فإذا لم يتصور أن يكون داخلا إلا بمجاز ، وجب أن يحمل على أنه غير داخل ، لأنه لا يحمل على المجاز ما أمكنت الحقيقة إلا أن يكون ثم قرينة مرجحة المجاز على الحقيقة . فقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : عند انتفاء قرينة الدخول أو الخروج ، لا دليل فيه على أحد الأمرين - مخالف لنقل أصحابنا ، إذ ذكروا أن النحويين على مذهبين : أحدهما : الدخول ، والآخر : الخروج . وهو الذي صححوه . وعلى ما ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري يتوقف ، ويكون من المجمل حتى يتضح ما يحمل عليه من خارج عن الكلام . وعلى ما ذكره أصحابنا يكون من المبين ، فلا يتوقف على شيء من خارج في بيانه . وقال
ابن عطية : تحرير العبارة في هذا المعنى أن يقال : إذا كان ما بعد ( إلى ) ليس مما قبلها فالحد أول المذكور بعدها ، فإذا كان ما بعدها من جملة ما قبلها فالاحتياط يعطي أن الحد آخر المذكور بعدها ، ولذلك يترجح دخول المرفقين في الغسل . فالروايتان محفوظتان عن
مالك . روى
أشهب عنه : أنهما غير داخلتين ،
[ ص: 436 ] وروى غيره أنهما داخلتان . انتهى . وهذا التقسيم ذكره
عبد الدائم القيرواني فقال : إن لم يكن ما بعدها من جنس ما قبلها دخل في الحكم .
والظاهر أن الوضوء شرط في صحة الصلاة من هذه الآية ، لأنه أمر بالوضوء للصلاة ، فالآتي بها دونه تارك للمأمور ، وتارك المأمور يستحق العقاب . وأيضا فقد بين أنه متى عدم الوضوء انتقل إلى التيمم ، فدل على اشتراطه عند القدرة عليه . والظاهر أن أول
فروض الوضوء هو غسل الوجه ، وبه قال
أبو حنيفة . وقال الجمهور : النية أولها . وقال
أحمد وإسحاق : تجب
التسمية في أول الوضوء ، فإن تركها عمدا بطل وضوءه . وقال بعضهم : يجب
ترك الكلام على الوضوء ، والجمهور على أنه يستحب . والظاهر أن الواجب في هذه المأمور بها هو مرة واحدة . والظاهر وجوب تعميم الوجه بالغسل بدأت بغسل أي موضع منه . والظاهر وجوب غسل البياض الذي بين العذار والأذن ، وبه قال :
أبو حنيفة ،
ومحمد ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي . وقال
أبو يوسف ; وغيره : لا يجب . والظاهر أن ما تحت اللحية الخفيفة لا يجب غسله ، وبه قال
أبو حنيفة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : يجب ، وإن ما استرسل من الشعر تحت الذقن لا يجب غسله . وبه قال
أبو حنيفة . وقال
مالك والمزني : يجب . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي القولان . والظاهر أن قوله : وأيديكم ، لا ترتيب في غسل اليدين ، ولا في الرجلين ، بل تقديم اليمنى على اليسرى فيهما مندوب إليه من السنة . وقال
أحمد : هو واجب . والظاهر أن التغيية بـ ( إلى ) تقتضي أن يكون انتهاء الغسل إلى ما بعدها ، ولا يجوز الابتداء من المرفق حتى يسيل الماء إلى الكف ، وبه قال بعض الفقهاء . وقال الجمهور : لا يخل ذلك بصحة الوضوء . والسنة أن يصب الماء من الكف بحيث يسيل منه إلى المرفق .
(
وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ) هذا أمر بالمسح بالرأس ، واختلفوا في مدلول باء الجر هنا فقيل : إنها للإلصاق . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : المراد إلصاق المسح بالرأس ، وما مسح بعضه ومستوفيه بالمسح كلاهما ملصق المسح برأسه . انتهى . وليس كما ذكر ، ليس ما مسح بعضه يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه ، إنما يطلق عليه أنه ملصق المسح ببعضه . وأما أن يطلق عليه أنه ملصق المسح برأسه حقيقة فلا ، إنما يطلق عليه ذلك على سبيل المجاز ، وتسمية لبعض بكل . وقيل : الباء للتبعيض ، وكونها للتبعيض ينكره أكثر النحاة حتى قال بعضهم : وقال من لا خبرة له بالعربية : الباء في مثل هذا للتبعيض ، وليس بشيء يعرفه أهل العلم . وقيل : الباء زائدة مؤكدة ، مثلها في قوله (
ومن يرد فيه بإلحاد ) (
وهزي إليك بجذع النخلة ) (
ولا تلقوا بأيديكم ) أي : إلحادا ، وجذع ، وأيديكم . وقال
الفراء : تقول
[ ص: 437 ] العرب هزه وهز به ، وخذ الخطام وبالخطام ، وحز رأسه وبرأسه ، ومده ومد به . وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : خشنت صدره وبصدره ، ومسحت رأسه وبرأسه في معنى واحد ، وهذا نص في المسألة .
وعلى هذه المفهومات ظهر الاختلاف بين العلماء في مسح الرأس ، فروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر : أنه مسح اليافوخ فقط ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=119سلمة بن الأكوع أنه كان يمسح مقدم رأسه ، وعن
إبراهيم nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي : أي نواحي رأسك مسحت أجزأك ، وعن الحسن : إن لم تصب المرأة إلا شعرة واحدة أجزأها . وأما فقهاء الأمصار فالمشهور من مذهب
مالك : وجوب التعميم . والمشهور من مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : وجوب أدنى ما ينطلق عليه اسم المسح ، ومشهور
أبي حنيفة nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : أن الأفضل استيعاب الجميع . ومن غريب ما نقل عمن استدل على أن بعض الرأس يكفي أن قوله تعالى :
وامسحوا برؤسكم ، كقولك : مسحت بالمنديل يدي ، فكما أنه لا يدل هذا على تعميم جميع اليد بجزء من أجزاء المنديل فكذلك الآية ، فتكون الرأس والرجل آلتين لمسح تلك اليد ، ويكون الفرض إذ ذاك ليس مسح الرأس والأرجل ، بل الفرض مسح تلك اليد بالرأس والرجل ، ويكون في اليد فرضان ، أحدهما : غسل جميعها إلى المرفق ، والآخر : مسح بللها بالرأس والأرجل . وعلى من ذهب إلى التبعيض يلزم أن يكون التبعيض في قوله في قصة التيمم : (
فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) أن يقتصر على مسح بعض الوجه وبعض اليد ، ولا قائل به . وعلى من جعل الباء آلة يلزم أيضا ذلك ، ويلزم أن يكون المأمور به في التيمم هو مسح الصعيد بجزء من الوجه واليد .
والظاهر أن الأمر بالغسل والمسح يقع الامتثال فيه بمرة واحدة ، وتثليث المغسول سنة . وقال
أبو حنيفة ومالك : ليس بسنة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : بتثليث المسح . وروي عن
أنس ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
وعطاء مثله . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16972ابن سيرين : يمسح مرتين . والظاهر من الآية : أنه كيفما مسح أجزأه . واختلفوا في الأفضل ابتداء بالمقدم إلى القفا ، ثم إلى الوسط ، ثلاثة أقوال ، الثابت منها في السنة الصحيحة الأول ، وهو قول
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي ،
وأحمد ، وجماعة من
الصحابة والتابعين . والثاني منها قول
nindex.php?page=showalam&ids=14117الحسن بن حي . والثالث : عن
nindex.php?page=showalam&ids=12ابن عمر . والظاهر أن رد اليدين على شعر الرأس ليس بفرض ، فتحقق المسح بدون الرد . وقال بعضهم : هو فرض . والظاهر أن المسح على العمامة لا يجزئ ، لأنه ليس مسحا للرأس . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
وأحمد : يجزئ ، وأن المسح يجزئ ولو بأصبع واحدة . وقال
أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : لا يجزئ بأقل من ثلاث أصابع . والظاهر أنه لو غسل رأسه لم يجزه ، لأن الغسل ليس هو المأمور به وهو قول
أبي العباس بن القاضي من الشافعية ، ويقتضيه مذهب الظاهرية . وقال
ابن العربي : لا نعلم خلافا في أن الغسل يجزيه من المسح إلا ما روى لنا
الشاشي في الدرس عن
ابن القاضي أنه لا يجزئه .
وقرأ
ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وأبو بكر ، وهي قراءة
أنس ،
وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11958والباقر ،
وقتادة ،
وعلقمة ،
والضحاك : ( وأرجلكم ) بالخفض ; والظاهر من هذه القراءة اندراج الأرجل في المسح مع الرأس . وروي وجوب مسح الرجلين عن :
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
وأنس ،
وعكرمة ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=11958وأبي جعفر الباقر ، وهو مذهب
الإمامية من
الشيعة . وقال جمهور الفقهاء : فرضهما الغسل . وقال
داود : يجب الجمع بين المسح والغسل ، وهو قول
الناصر للحق من أئمة
الزيدية . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري ،
nindex.php?page=showalam&ids=16935وابن جرير الطبري : يخير بين المسح والغسل ; ومن أوجب الغسل تأول أن الجر هو خفض على الجواز ، وهو تأويل ضعيف جدا ، ولم يرد إلا في النعت ، حيث لا يلبس على خلاف فيه قد قرر في علم العربية ، أو تأول على أن الأرجل مجرورة بفعل محذوف يتعدى بالباء ; أي : وافعلوا بأرجلكم الغسل ، وحذف الفعل وحرف الجر ، وهذا تأويل في غاية الضعف . أو تأول على أن الأرجل
[ ص: 438 ] من بين الأعضاء الثلاثة المغسولة مظنة الإسراف المذموم المنهي عنه ، فعطف على الرابع الممسوح لا ليمسح ، ولكن لينبه على وجوب الاقتصاد في صب الماء عليها . وقيل : إلى الكعبين ، فجيء بالغاية إماطة لظن ظان يحسبها ممسوحة ، لأن المسح لم يضرب له غاية . انتهى هذا التأويل . وهو كما ترى في غاية التلفيق وتعمية في الأحكام . وروي عن
أبي زيد : أن العرب تسمي الغسل الخفيف مسحا ، ويقولون : تمسحت للصلاة بمعنى : غسلت أعضائي .
وقرأ
نافع ،
nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي ،
وابن عامر ،
وحفص : وأرجلكم بالنصب . واختلفوا في تخريج هذه القراءة ، فقيل : هو معطوف على قوله :
وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وأرجلكم إلى الكعبين ، وفيه الفصل بين المتعاطفين بجملة ليست باعتراض ، بل هي منشئة حكما . وقال
أبو البقاء : هذا جائز بلا خلاف . وقال
الأستاذ أبو الحسن بن عصفور ، وقد ذكر الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه ، قال : وأقبح ما يكون ذلك بالجمل ، فدل قوله هذا على أنه ينزه كتاب الله عن هذا التخريج . وهذا تخريج من يرى أن فرض الرجلين هو الغسل ، وأما من يرى المسح فيجعله معطوفا على موضع برءوسكم ، ويجعل قراءة النصب كقراءة الجر دالة على المسح . وقرأ
الحسن : ( وأرجلكم ) بالرفع ، وهو مبتدأ محذوف الخبر ; أي : اغسلوها إلى الكعبين على تأويل من يغسل ، أو ممسوحة إلى الكعبين على تأويل من يمسح . وتقدم مدلول الكعب . قال
ابن عطية : قول الجمهور هما حد الوضوء بإجماع فيما علمت ، ولا أعلم أحدا جعل حد الوضوء إلى العظم الذي في وجه القدم . وقال غيره : قالت
الإمامية وكل من ذهب إلى وجوب مسح الكعب : هو الذي في وجه القدم ، فيكون المسح مغيا به . وقال
ابن عطية : روى
أشهب عن
مالك : الكعبان هما العظمان الملتصقان بالساق المحاذيان للعقب ، وليس الكعب بالظاهر الذي في وجه القدم ، ويظهر ذلك من الآية في قوله في الأيدي
إلى المرافق إذ في كل يد مرفق . ولو كان كذلك في الأرجل لقيل إلى الكعوب ، فلما كان في كل رجل كعبان خصتا بالذكر . انتهى . ولا دليل في قوله في الآية على أن موالاة أفعال الوضوء ليست بشرط في صحته لقبول الآية التقسيم في قولك : متواليا وغير متوال ، وهو مشهور مذهب
أبي حنيفة ومالك ، وروي عن
مالك nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي في القديم : أنها شرط . وعلى أن الترتيب في الأفعال ليس بشرط ، لعطفها بالواو ، وهو مذهب
مالك وأبي حنيفة ، ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : أنه شرط ، واستيفاء حجج هذه المسائل مذكورة في الفقه ، ولم تتعرض الآية للنص على الأذنين ، فمذهب
أبي حنيفة وأصحابه
nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري ،
nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي ،
ومالك فيما روى عنه
أشهب وابن القاسم : أنهما من الرأس فيمسحان . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : هما من الوجه فيغسلان معه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي : من الوجه هما عضو قائم بنفسه ، ليسا من الوجه ولا من الرأس ، ويمسحان بماء جديد . وقيل : ما أقبل منهما من الوجه وما أدبر من الرأس ، وعلى هذه الأقوال تبنى فرضية المسح أو الغسل وسنية ذلك .
(
وإن كنتم جنبا فاطهروا ) لما ذكر تعالى الطهارة الصغرى ذكر الطهارة الكبرى ، وتقدم مدلول الجنب في (
ولا جنبا إلا عابري سبيل ) والظاهر أن الجنب مأمور بالاغتسال . وقال
عمر ،
nindex.php?page=showalam&ids=10وابن مسعود : لا يتيمم الجنب البتة ، بل يدع الصلاة حتى يجد الماء ، والجمهور على خلاف ذلك ، وأنه يتيمم ، وقد رجعا إلى ما عليه الجمهور . والظاهر أن الغسل والمسح والتطهر إنما تكون بالماء لقوله : (
فلم تجدوا ماء ) أي : للوضوء والغسل
فتيمموا صعيدا طيبا فدل على أنه لا واسطة بين الماء والصعيد ، وهو قول الجمهور . وذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي والأصم : إلى أنه يجوز الوضوء والغسل بجميع المائعات الطاهرة . والظاهر أن الجنب لا يجب عليه غير التطهير من غير وضوء . ولا ترتيب في الأعضاء المغسولة ، ولا دلك ، ولا مضمضة ، ولا استنشاق ، بل الواجب تعميم جسده بوصول الماء
[ ص: 439 ] إليه . وقال
داود nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور : يجب تقديم الوضوء على الغسل . وقال
إسحاق : تجب البداءة بأعلى البدن . وقال
مالك : يجب الدلك ، وروى عنه
محمد بن مروان الظاهري : أنه يجزئه الانغماس في الماء دون تدلك . وقال
أبو حنيفة ،
وزفر ،
وأبو يوسف ،
ومحمد ،
والليث ،
وأحمد : تجب المضمضة والاستنشاق فيه ، وزاد
أحمد الوضوء . وقال
النخعي : إذا كان شعره مفتولا جدا يمنع من وصول الماء إلى جلدة الرأس لا يجب نقضه .
وقرأ الجمهور : فاطهروا ، بتشديد الطاء والهاء المفتوحتين ، وأصله : تطهروا ، فأدغم التاء في الطاء ، واجتلبت همزة الوصل . وقرئ : ( فأطهروا ) بسكون الطاء والهاء مكسورة من ( أطهر ) رباعيا ; أي : فأطهروا أبدانكم ، والهمزة فيه للتعدية .
(
وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا فامسحوا بوجوهكم وأيديكم منه ) تقدم تفسير هذه الجملة الشرطية وجوابها في النساء ، إلا أن في هذه الجملة زيادة ( منه ) وهي مرادة في تلك التي في النساء . وفي لفظة " منه " دلالة على إيصال شيء من الصعيد إلى الوجه واليدين ، فلا يجوز التيمم بما لا يعلق باليد كالحجر والخشب والرمل العاري عن أن يعلق شيء منه باليد فيصل إلى الوجه ، وهذا مذهب
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي . وقال
أبو حنيفة ،
ومالك : إذا ضرب الأرض ولم يعلق بيده شيء من الغبار ومسح بها أجزأه . وظاهر الأمر بالتيمم للصعيد ، والأمر بالمسح ، أنه لو يممه غيره ، أو وقف في مهب ريح فسفت على وجهه ويديه وأمر يده عليه ، أو لم يمر ، أو ضرب ثوبا فارتفع منه غبار إلى وجهه ويديه ، أن ذلك لا يجزئه . وفي كل من المسائل الثلاث خلاف .
(
ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ) أي : من تضييق ، بل رخص لكم في تيمم الصعيد عند فقد الماء . والإرادة صفة ذات ، وجاءت بلفظ المضارع مراعاة للحوادث التي تظهر عنها ، فإنها تجيء مؤتنقة من نفي الحرج ووجود التطهير وإتمام النعمة . وتقدم الكلام على مثل اللام في ( ليجعل ) في قوله : (
يريد الله ليبين لكم ) فأغنى عن إعادته . ومن زعم أن مفعول يريد محذوف تتعلق به اللام ، جعل زيادة ( من ) في الواجب للنفي الذي في صدر الكلام ، وإن لم يكن النفي واقعا على فعل الحرج ، ويجري مجرى هذه الجملة ما جاء في الحديث "
دين الله يسر " ، "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374318وبعثت بالحنيفية السمحة " وجاء لفظ الدين بالعموم ، والمقصود به الذي ذكر بقرب وهو التيمم .
(
ولكن يريد ليطهركم ) أي : بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء . وفي الحديث :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374319 " التراب طهور المسلم ولو إلى عشر حجج " . وقال الجمهور : المقصود بهذا التطهير إزالة النجاسة الحكمية الناشئة عن خروج الحدث . وقيل : المعنى ليطهركم من أدناس الخطايا بالوضوء والتيمم ، كما جاء في مسلم : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374320إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء ) إلى آخر الحديث . وقيل : المعنى ليطهركم عن التمرد عن الطاعة . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=15990ابن المسيب : ( ليطهركم ) بإسكان الطاء وتخفيف الهاء .
(
وليتم نعمته عليكم ) أي : وليتم برخصه إنعامه عليكم بعزائمه . وقيل : الكلام متعلق بما دل عليه أول السورة من إباحة الطيبات من المطاعم والمناكح ، ثم قال بعد كيفية الوضوء : ويتم نعمته عليكم ; أي : النعمة المذكورة ثانيا وهي : نعمة الدين . وقيل : تبيين الشرائع وأحكامها ، فيكون مؤكدا لقوله : (
وأتممت عليكم نعمتي ) وقيل : بغفران ذنوبهم . وفي الخبر : (
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374321تمام النعمة بدخول الجنة والنجاة من النار ) . (
لعلكم تشكرون ) أي : تشكرونه على تيسير دينه وتطهيركم وإتمام النعمة عليكم .