(
قال ياويلتا أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي ) استقصر إدراكه وعقله في جهله ما يصنع بأخيه حتى يعلم - وهو ذو العقل ، المركب فيه الفكر والرؤية والتدبير - من طائر لا يعقل . ومعنى هذا الاستفهام : الإنكار على نفسه ، والنعي ; أي : لا أعجز عن كوني مثل هذا الغراب ، وفي ذلك هضم لنفسه واستصغار لها بقوله : مثل هذا الغراب . وأصل النداء أن يكون لمن يعقل ، ثم قد ينادى ما لا يعقل على سبيل المجاز ، كقولهم : يا عجبا ويا حسرة ! والمراد بذلك التعجب . كأنه قال : انظروا لهذا العجب ولهذه الحسرة ، فالمعنى : تنبهوا لهذه الهلكة . وتأويله هذا أوانك فاحضري . وقرأ الجمهور :
ياويلتا ، بألف بعد التاء ، وهي بدل من ياء المتكلم ، وأصله ( يا ويلتي ) بالياء ، وهي قراءة
الحسن . وأمال
حمزة nindex.php?page=showalam&ids=15080والكسائي وأبو عمرو ألف ويلتى . وقرأ الجمهور :
أعجزت ، بفتح
[ ص: 467 ] الجيم . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
والحسن ،
وفياض ،
وطلحة ،
وسليمان بكسرها وهي لغة شاذة ، وإنما مشهور الكسر في قولهم : عجزت المرأة إذا كبرت عجيزتها . وقرأ الجمهور :
فأواري ، بنصب الياء ، عطفا على قوله :
أن أكون . كأنه قال : أعجزت أن أواري سوءة أخي . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : فأواري ، بالنصب ، على جواب الاستفهام . انتهى . وهذا خطأ فاحش ، لأن الفاء الواقعة جوابا للاستفهام تنعقد من الجملة الاستفهامية ، والجواب شرط وجزاء ، وهنا تقول : أتزورني فأكرمك ; والمعنى : إن تزرني أكرمك . وقال تعالى : (
فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا ) أي : إن يكن لنا شفعاء يشفعوا . ولو قلت هنا : إن أعجز أن أكون مثل هذا الغراب أوار سوءة أخي - لم يصح ، لأن المواراة لا تترتب على عجزه عن كونه مثل الغراب . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=16258طلحة بن مصرف ،
والفياض بن غزوان :
فأواري ، بسكون الياء ، فالأولى أن يكون على القطع ; أي : فأنا أواري سوءة أخي ، فيكون أواري مرفوعا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وقرئ بالسكون على : فأنا أواري ، أو على التسكين في موضع النصب للتخفيف . انتهى . يعني : أنه حذف الحركة وهي الفتحة تخفيفا ، استثقلها على حرف العلة . وقال
ابن عطية : هي لغة لتوالي الحركات . انتهى . ولا ينبغي أن يخرج على النصب ، لأن نصب مثل هذا هو بظهور الفتحة ، ولا تستثقل الفتحة فتحذف تخفيفا ; كما أشار إليه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، ولا ذلك لغة كما زعم
ابن عطية ، ولا يصلح التعليل بتوالي الحركات ، لأنه لم يتوال فيه الحركات . وهذا عند النحويين ، أعني النصب ، بحذف الفتحة ، لا يجوز إلا في الضرورة ، فلا تحمل القراءة عليها إذا وجد حملها على وجه صحيح ، وقد وجد وهو الاستئناف ; أي : فأنا أواري . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : ( سوة أخي ) ، بحذف الهمزة ، ونقل حركتها إلى الواو . ولا يجوز قلب الواو ألفا ; لتحركها وانفتاح ما قبلها ، لأن الحركة عارضة كهي في سمول وجعول . وقرأ
أبو حفص : ( سوة ) بقلب الهمزة واوا ، وأدغم الواو فيه ، كما قالوا في شيء شي ، وفي سيئة : سية ; قال الشاعر :
وإن رأوا سية طاروا بها فرحا مني وما علموا من صالح دفنوا
(
فأصبح من النادمين ) قبل هذه جملة محذوفة ، تقديرها : فوارى سوءة أخيه . والظاهر أن ندمه كان على قتل أخيه لما لحقه من عصيان وإسخاط أبويه ، وتبشيره أنه من أصحاب النار . وهذا يدل على أنه كان عاصيا لا كافرا . قيل : ولم ينفعه ندمه ، لأن كون الندم توبة خاص بهذه الأمة . وقيل : من النادمين على حمله . وقيل : من النادمين : خوف الفضيحة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : من النادمين على قتله لما تعب من حمله ، وتحيره في أمره ، وتبين له من عجزه وتلمذته للغراب ، واسوداد لونه ، وسخط أبيه ، ولم يندم ندم التائبين . انتهى . وقد اختلف العلماء في
قابيل ، أكان كافرا أم عاصيا ؟ وفي الحديث :
إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلا فخذوا من خيرها ودعوا شرها وحكى المفسرون عجائب مما جرى بقتل
هابيل من رجفان الأرض سبعة أيام ، وشرب الأرض دمه ، وإيسال الشجر ، وتغير الأطعمة ، وحموضة الفواكه ، ومرارة الماء ، واغبرار الأرض ، وهرب
قابيل بأخته ، إقليميا ، إلى
عدن من أرض
اليمن ، وعبادته النار ، وانهماك أولاده في اتخاذ آلات اللهو وشرب الخمر والزنا والفواحش حتى أغرقهم الله بالطوفان ; والله أعلم بصحة ذلك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وروي أن
آدم مكث بعد قتله مائة سنة لا يضحك ، وأنه رثاه بشعر ، وهو كذب بحت ، وما الشعر إلا منحول ملحون . وقد صح أن الأنبياء معصومون من الشعر . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=17188ميمون بن مهران عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أنه قال : من قال إن
آدم قال شعرا فهو كذب ، ورمى
آدم بما لا يليق بالنبوة ، لأن
محمدا والأنبياء ، عليهم السلام ، كلهم في النفي عن الشعر سواء . قال الله تعالى : (
وما علمناه الشعر وما ينبغي له ) ولكنه كان ينوح عليه ، وهو أول شهيد كان على
[ ص: 468 ] وجه الأرض ويصف حزنه عليه نثرا من الكلام شبه المرثية ، فتناسخته القرون وحفظوا كلامه ، فلما وصل إلى
يعرب بن قحطان وهو أول من خط بالعربية فنظمه ; فقال :
تغيرت البلاد ومن عليها فوجه الأرض مغبر قبيح
وذكر بعد هذا البيت ستة أبيات ، وأن إبليس أجابه في الوزن والقافية بخمسة أبيات . وقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الشعر : إنه ملحون ، يسير فيه إلى بيت وهو الثاني :
تغير كل ذي لون وطعم وقل بشاشة الوجه المليح
يرويه بشاشة الوجه المليح على الإقواء ، ويروى بنصب بشاشة من غير تنوين ورفع الوجه المليح . وليس بلحن ، قد خرجوه على حذف التنوين من بشاشة ، ونصبه على التمييز ، وحذف التنوين لالتقاء الألف واللام قد جاء في كلامهم ؛ قرئ : (
أحد الله الصمد ) وروي ، ولا ذاكر الله ، بحذف التنوين .