(
وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) لما ذكر تعالى أنه أنزل التوراة فيها هدى ونور ، ولم يذكر من أنزلها عليه لاشتراك كلهم في أنها نزلت على
موسى ، فترك ذكره للمعرفة بذلك ، ثم ذكر
عيسى وأنه آتاه الإنجيل ، فذكره ليقروا أنه من جملة الأنبياء ، إذ
اليهود تنكر نبوته ، وإذا أنكرته أنكرت كتابه ، فنص تعالى عليه وعلى كتابه ; ثم ذكر إنزال القرآن على رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فذكر الكتاب ومن أنزله مقررا لنبوته وكتابه ، لأن الطائفتين ينكرون نبوته وكتابه . وجاء هنا ذكر المنزل إليه بكاف الخطاب ، لأنه أنص على المقصود ; وكثيرا ما جاء ذلك بلفظ الخطاب لأنه لا يلبس البتة . و ( بالحق ) : ملتبسا بالحق ومصاحبا له لا يفارقه ، لما كان متضمنا حقائق الأمور ، فكأنه نزل بها . ويحتمل أن يتعلق بأنزلنا ; أي : أنزلناه بأن حق ذلك ، لا أنه وجب على الله ، لكنه حق في نفسه . والألف واللام في الكتاب للعهد وهو القرآن بلا خلاف ; وانتصب مصدقا على الحال لما بين يديه ; أي : لما تقدمه من الكتاب . الألف واللام فيه للجنس ، لأنه عنى به جنس الكتب المنزلة ، ويحتمل أن تكون للعهد ، لأنه لم يرد به ما يقع عليه اسم الكتاب على الإطلاق ، وإنما أريد نوع معلوم منه ، وهو ما أنزل من السماء سوى القرآن . والفرق بينهما أنه في الأول يحتاج إلى تقدير الصفة ، وأنها حذفت ، والتقدير : من الكتاب الإلهي . وفي الثاني لا يحتاج إلى هذا التقدير ، لأن العهد في الاسم يتضمن الاسم به جميع الصفات التي للاسم ، فلا يحتاج إلى تقدير حذف .
ومهيمنا عليه ; أي : أمينا عليه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في رواية
التيمي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
وعكرمة ،
وعطاء ،
والضحاك ،
والحسن . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : القرآن أمين على ما قبله من الكتب ، فما أخبر أهل الكتاب عن كتابهم فإن كان في القرآن فصدقوا ، وإلا فكذبوا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس في رواية
أبي صالح : شاهدا . وبه قال
الحسن أيضا
وقتادة ،
والسدي ،
ومقاتل ، وقال
ابن زيد : مصدقا على ما أخبر من الكتب ، وهذا قريب من القول الأول . وقال
الخليل : المهيمن هو الرقيب الحافظ . ومنه قوله :
إن الكتاب مهيمن لنبينا والحق يعرفه ذوو الألباب
وحكاه
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج ، وبه فسر
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري قال : ومهيمنا رقيبا على سائر الكتب ، لأنه يشهد لها بالصحة والبيان . انتهى . وقال الشاعر :
مليك على عرش السماء مهيمن لعزته تعنو الوجوه وتسجد
فسر بالحافظ ، وهذا في صفات الله ; وأما في القرآن فمعناه أنه حافظ للدين والأحكام . وقال
الضحاك أيضا : معناه قاضيا . وقال
عكرمة أيضا : معناه دالا . وقال
ابن عطية : وقد ذكر أقوالا أنه شاهد ، وأنه مؤتمن ، وأنه مصدق ، وأنه أمين ، وأنه رقيب ، قال : ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ ، لأن المهيمن على
[ ص: 502 ] الشيء هو المعني بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحامله ، فلا يدخل فيه ما ليس منه ، والقرآن جعله الله مهيمنا على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها ، فيصحح الحقائق ويبطل التحريف . وقرأ
مجاهد وابن محيصن : ( ومهيمنا ) بفتح الميم الثانية ، جعله اسم مفعول ; أي : مؤمن عليه ; أي : حفظ من التبديل والتغيير . والفاعل المحذوف هو الله أو الحافظ في كل بلد ، لو حذف منه حرف أو حركة أو سكون لتنبه له وأنكر ذلك ورد ، ففي قراءة اسم الفاعل الضمير في عليه عائد على الكتاب الثاني . وفي قراءة اسم المفعول عائد على الكتاب الأول ، وفي كلا الحالين هو حال من الكتاب الأول لأنه معطوف على مصدقا والمعطوف على الحال حال . وروى
nindex.php?page=showalam&ids=16406ابن أبي نجيح عن
مجاهد قراءته بالفتح وقال : معناه
محمد مؤتمن على القرآن . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : فعلى هذا يكون ( مهيمنا ) حالا من الكاف في إليك . وطعن في هذا القول لوجود الواو في ( ومهيمنا ) ، لأنها عطف على مصدقا ، ومصدقا حال من الكتاب لا حال من الكاف ، إذ لو كان حالا منها لكان التركيب : لما بين يديك ، بكاف الخطاب ، وتأويله على أنه من الالتفات من الخطاب إلى الغيبة بعيد عن نظم القرآن ; وتقديره : وجعلناك يا
محمد مهيمنا عليه - أبعد . وأنكر
ثعلب قول
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد وابن قتيبة أن أصله مؤتمن .
(
فاحكم بينهم بما أنزل الله ) ظاهره أنه أمر أن يحكم بما أنزل الله ، وتقدم قول من قال : إنها ناسخة لقوله : (
أو أعرض عنهم ) وقول الجمهور : إن اخترت أن تحكم بينهم بما أنزل الله ، وهذا على قول من جعل الضمير في بينهم عائدا على
اليهود ، ويكون على قول الجمهور أمر ندب ، وإن كان الضمير للمتحاكمين عموما ، فالخطاب للوجوب ولا نسخ . (
ولا تتبع أهواءهم ) أي لا توافقهم في أغراضهم الفاسدة من التفريق في القصاص بين الشريف والوضيع ، وغير ذلك من أهوائهم التي هي راجعة لغير الدين والشرع .
(
عما جاءك من الحق ) الذي هو القرآن . وضمن : تتبع معنى تنحرف ، أو تنصرف ، فلذلك عدي بعن ; أي : لا تنحرف أو تتزحزح عما جاءك متبعا أهواءهم ، أو بسبب أهوائهم . وقال
أبو البقاء : عما جاءك في موضع الحال أي : عادلا عما جاءك . ولم يضمن تتبع معنى ما تعدى بعن ، وهذا ليس بجيد ؛ لأن عن حرف ناقص لا يصلح أن يكون حالا من الجنة ، كما لا يصلح أن يكون خبرا ، وإذا كان ناقصا فإنه يتعدى بكون مقيد لا بكون مطلق ، والكون المقيد لا يجوز حذفه . (
لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ) الظاهر أن المضاف إليه " كل " المحذوف هو : أمة ; أي : لكل أمة . والخطاب في منكم للناس ; أي : أيها الناس ،
لليهود شرعة ومنهاج ،
وللنصارى كذلك ، قاله :
علي ،
وقتادة والجمهور ، ويعنون في الأحكام . وأما المعتقد : فواحد لجميع العالم ; توحيد ، وإيمان بالرسل وكتبها وما تضمنته من المعاد ، والجزاء الأخروي . وقد ذكر تعالى جماعة من الأنبياء شرائعهم مختلفة ثم قال : (
أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ) والمعنى : في المعتقدات . وقال
ابن عطية : ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء ، لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم ، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال تنبيها
لمحمد ، صلى الله عليه وسلم ، أي : فاحفظ شرعك ومنهاجك لئلا تستزلك
اليهود وغيرهم في شيء منه . انتهى . فيكون المحذوف المضاف إليه لكل نبي ; أي : لكل نبي منكم أيها الأنبياء . والشرعة والمنهاج : لفظان لمعنى واحد ; أي : طريقا ، وكرر للتوكيد ; كما قال الشاعر :
وهـند أتـى مـن دونهـا النـأي والبعـد
وقال
ابن [ ص: 503 ] عباس والحسن وغيرهما : سبيلا وسنة . وقال
مجاهد : الشرعة والمنهاج دين
محمد ، صلى الله عليه وسلم ، فيكون المعنى : لكل منكم أيها الناس جعلنا هذا الدين الخالص فاتبعوه ، والمراد بذلك إنا أمرناكم باتباع دين
محمد إذ هو ناسخ للأديان كلها . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : الشرعة : ابتداء الطريق ، والمنهاج : الطريق المستمر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري : الشرعة : الطريق الذي ربما كان واضحا وغير واضح ، والمنهاج لا يكون إلا واضحا . وقيل : الشرعة : الدين ، والمنهاج : الدليل . وقيل الشرعة : النبي ، والمنهاج : الكتاب . قال
ابن عطية : والمنهاج بناء مبالغة من النهج ، ويحتمل أن يراد بالشرعة : الأحكام ، وبالمنهاج : المعتقد ; أي هو واحد في جميعكم ، وفي هذا الاحتمال بعد . انتهى . قيل : وفي هذا دليل على أنا غير متعبدين بشرائع من قبلنا . وقرأ
النخعي وابن وثاب : شرعة ; بفتح الشين ، والظاهر أن جعلنا بمعنى صيرنا ، ومفعولها الثاني هو لكل ، ومنكم متعلق بمحذوف ; تقديره : أعني منكم . قال
أبو البقاء : ولا يجوز أن يكون منكم صفة لكل ، لأن ذلك يوجب الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي الذي لا تشديد فيه للكلام ، ويوجب أيضا أن يفصل بين جعلنا وبين معمولها وهو شرعة . انتهى . فيكون في التركيب كقولك : من كل ضربت تميمي رجلا ، وهو لا يجوز .
(
ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ) أي ولو شاء الله أن يجعلكم أمة واحدة لجعلكموها أي جماعة متفقة على شريعة واحدة في الضلال . وقيل لجعلكم أمة واحدة على الحق . (
ولكن ليبلوكم فيما آتاكم ) أي : ولكن لم يشأ ذلك ليختبركم فيما آتاكم من الكتب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : من الشرائع المختلفة ، هل تعملون بها مذعنين معتقدين أنها مصالح قد اختلفت على حسب الأحوال والأوقات ، معترفين بأن الله تعالى لم يقصد باختلافها إلا ما اقتضته الحكمة ، أم تتبعون الشبه وتفرطون في العمل . انتهى . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج وغيره : ولكنه لم يشأ ، لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع ، فليس لهم إلا أن يجدوا في امتثال الأوامر . (
فاستبقوا الخيرات ) أي : ابتدروا الأعمال الصالحة ; قاله :
مقاتل . وهي التي عاقبتها أحسن الأشياء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والضحاك : الخيرات : الإيمان بالرسول .
(
إلى الله مرجعكم جميعا ) هو استئناف في معنى التعليل لأمره تعالى باستباق الخيرات ، كأنه يقول : يظهر ثمرة استباق الخيرات والمبادرة إليها في وقت الرجوع إلى الله تعالى ومجازاته . (
فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون ) أي : فيخبركم بأعمالكم ، وهي كناية عن المجازاة بالثواب والعقاب ، وهو إخبار إيقاع . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : قد بين ذلك في الدنيا بالدلالة والحجج ، وغدا يبينه بالمجازاة . انتهى . وبهذا التنبيه يظهر الفضل بين المحق والمبطل ، والمسبق والمقصر في العمل . ونبأ : هنا جاءت على وضعها الأصلي من تعديتها إلى واحد بنفسها ، وإلى آخر بحرف الجر ، ولم يضمنها معنى أعلم فيعديها إلى ثلاثة .