(
يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) هذا نداء بالصفة الشريفة التي هي أشرف أوصاف الجنس الإنساني ،
[ ص: 529 ] وأمر بتبليغ ما أنزل إليه ، صلى الله عليه وسلم ، وهو قد بلغ ما أنزل إليه ، فهو أمر بالديمومة . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : جميع ما أنزل إليك ، وأي شيء أنزل غير مراقب في تبليغه أحدا ، ولا خائف أن ينالك مكروه . وقال
ابن عطية : أمر من الله لرسوله بالتبليغ على الاستيفاء والكمال ، لأنه قد قال : بلغ ، فإنما أمر في هذه الآية أن لا يتوقف على شيء مخافة أحد ، وذلك أن رسالته ، عليه السلام ، تضمنت الطعن على أنواع الكفرة وفساد أحوالهم ، فكان يلقى منهم عنتا ، وربما خافهم أحيانا قبل نزول هذه الآية . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس عنه ، عليه السلام ، : "
لما بعثني الله برسالته ضقت بها ذرعا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية " . وقيل : هو أمر بتبليغ خاص ; أي : ما أنزل إليك من الرجم والقصاص الذي غيره
اليهود في التوراة
والنصارى في الإنجيل . وقيل : أمر بتبليغ أمر
nindex.php?page=showalam&ids=15953زينب بنت جحش ونكاحها . وقيل : بتبليغ الجهاد والحث عليه ، وأن لا يتركه لأجل أحد . وقيل : أمر بتبليغ معائب آلهتهم ، إذ كان قد سكت عند نزول قوله : (
ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله ) الآية - عن عيبها ، وكل واحد من هذا التبليغ الخاص قيل إنها نزلت بسببه ، والذي يظهر أنه تعالى أمنه من مكر
اليهود والنصارى ، وأمره بتبليغ ما أنزل إليه في أمرهم وغيره من غير مبالاة بأحد ، لأن الكلام قبل هذه الآية وبعدها هو معهم ، فيبعد أن تكون هذه الآية أجنبية عما قبلها وعما بعدها .
(
وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) أي : وإن لم تفعل بتبليغ ما أنزل إليك ، وظاهر هذا الجواب لا ينافي الشرط ، إذ صار المعنى : وإن لم تفعل لم تفعل ، والجواب لا بد أن يغاير الشرط حتى يترتب عليه . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : فيه وجهان : أحدهما : أنه إذا لم يمتثل أمر الله في تبليغ الرسالة وكتمها كلها كأنه لم يبعث رسولا ، كان أمرا شنيعا . وقيل : إن لم تبلغ منها أدنى شيء وإن كلمة واحدة فأنت كمن ركب الأمر الشنيع الذي هو كتمان كلها ، كما عظم قتل النفس بقوله : (
فكأنما قتل الناس جميعا ) والثاني : أن يراد فإن لم تفعل ذلك ما يوجبه كتمان الوحي كله من العقاب ، فوضع السبب موضع المسبب ، ويعضده قوله ، عليه السلام ، : ( فأوحى الله إلي إن لم تبلغ رسالاتي لأعذبنك ) . وقال
ابن عطية أي : إن تركت شيئا فكأنك قد تركت الكل ، وصار ما بلغت غير معتد به . فمعنى : وإن لم تفعل ، وإن لم تستوف . ونحو هذا قول الشاعر :
سئلت فلم تبخل ولم تعط نائلا فسيان لا ذم عليك ولا حمد
أي إن لم تعط ما يعد نائلا وألا تتكاذب . . . . . . البيت . وقال
أبو عبد الله الرازي : أجاب الجمهور بإن لم تبلغ واحدا منها كنت كمن لم يبلغ شيئا . وهذا ضعيف ، لأن من أتى بالبعض وترك البعض . فإن قيل : إنه ترك الكل كان كاذبا ، ولو قيل : إن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل ، فهذا هو المحال الممتنع ، فسقط هذا الجواب . انتهى . وما ضعف به جواب الجمهور لا يضعف به ، لأنه قال : فإن قيل إنه ترك الكل - كان كاذبا ، ولم يقولوا ذلك إنما قالوا : إن بعضها ليس أولى بالأداء من بعض ، فإن لم تؤد بعضها فكأنك أغفلت أداءها جميعا . كما أن من لم يؤمن ببعضها كان كمن لا يؤمن بكلها لأداء كل منها بما يدلي به غيرها ، وكونها لذلك في حكم شيء واحد ، والشيء الواحد لا يكون مبلغا غير مبلغ مؤمنا به غير مؤمن ، فصار ذلك التبليغ للبعض غير معتد به ، وأما ما ذكر من أن مقدار الجرم في ترك البعض مثل الجرم في ترك الكل محال ممتنع ، فلا استحالة فيه . ولله تعالى أن يرتب على الذنب اليسير العذاب العظيم ، وله تعالى أن يعفو عن الذنب العظيم ، ويؤاخذ بالذنب الحقير : (
لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) وقد ظهر ذلك في ترتيب العقوبات في الأحكام الشرعية ، رتب على من أخذ شيئا بالاختفاء والتستر ، قطع اليد مع رد ما أخذه أو قيمته ، ورتب على من أخذ شيئا بالقهر والغلبة والغصب رد ذلك الشيء أو قيمته إن فقد دون
[ ص: 530 ] قطع اليد . وقال
أبو عبد الله الرازي : والأصح عندي أن يقال : إن هذا خرج على قانون قوله : أنا
أبو النجم وشعري شعري ، ومعناه : أن شعري بلغ في الكمال والفصاحة والمتانة بحيث متى قيل فيه إنه شعري فقد انتهى مدحه إلى الغاية التي لا يمكن أن يزاد عليها ، وهذا الكلام مفيد المبالغة التامة من هذا الوجه ، فكذا ههنا . قال : فإن لم تبلغ رسالته فما بلغت رسالته ; يعني : أنه لا يمكن أن يصف البليغ بترك التهديد بأعظم من أنه ترك التعظيم ، فكان ذلك تنبيها على التهديد والوعيد . وقرأ
نافع وابن عامر وأبو بكر : رسالاته ; على الجمع . وقرأ باقي السبعة على التوحيد .
(
والله يعصمك من الناس ) أي : لا تبال في التبليغ ، فإن الله يعصمك فليس لهم تسليط على قتلك لا بمؤامرة ولا باغتيال ، ولا باستيلاء عليك بأخذ وأسر . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14980محمد بن كعب : نزلت بسبب الأعرابي الذي اخترط سيف النبي ، صلى الله عليه وسلم ، ليقتله . انتهى ، وهو
غورث بن الحارث ، وذلك في غزوة ذات الرقاع .
وروى المفسرون أن
أبا طالب كان يرسل رجالا من
بني هاشم يحرسونه حتى نزل قوله : (
والله يعصمك من الناس ) ; فقال : إن الله قد عصمني من الجن والإنس ، فلا أحتاج إلى من يحرسني . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج : كان يهاب
قريشا فلما نزلت استلقى وقال : من شاء فليخذلني ، مرتين أو ثلاثا . وروى
أبو أمامة nindex.php?page=hadith&LINKID=10374341حديث " ركانة " " 0000 من ولد هاشم مشركا أفتك الناس وأشدهم ، تصارع هو والرسول ، فصرعه الرسول ، صلى الله عليه وسلم ، ثلاثا ودعاه إلى الإسلام ، فسأله آية ، فدعا الشجرة فأقبلت إليه . وقد انشقت نصفين ، ثم سأله ردها إلى موضعها فالتأمت وعادت ، فالتمسه أبو بكر وعمر فدلا عليه أنه خرج إلى واد أضم حيث ركانة ، فسارا نحوه واجتمعا به ، وذكرا أنهما خافا الفتك من ركانة ، فأخبرهما خبره معه وضحك ، وقرأ والله يعصمك من الناس . وهذا وما قبله يدل على أن ذلك نزل
بمكة أو في ذات الرقاع ، والصحيح أنها
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374342نزلت بالمدينة والرسول بها مقيم شهرا ، وحرسه سعد وحذيفة ، فنام حتى غط ، فنزلت ، فأخرج إليهما رأسه من قبة آدم وقال : ( انصرفوا أيها الناس فقد عصمني الله لا أبالي من نصرني ومن خذلني ) وأصل هذا الحديث في صحيح
مسلم : وأما شج جبينه وكسر رباعيته يوم
أحد فقيل : الآية نزلت بعد
أحد ، فأما إن كانت قبله فلم تتضمن العصمة هذا الابتلاء ونحوه من أذى الكفار بالقول ، بل تضمنت العصمة من القتل والأسر ، وأما مثل هذه فيها الابتلاء الذي فيه رفع الدرجات واحتمال كل الأذى دون النفس في ذات الله ، وابتلاء الأنبياء أشد ، وما أعظم تكليفهم . وأتى بلفظ يعصمك لأن المضارع يدل على الديمومة والاستمرار ، والناس : عام يراد به الكفار ; يدل عليه ما بعده . وتضمنت هذه الجملة الإخبار بمغيب ووجد على ما أخبر به ، فلم يصل إليه أحد بقتل ولا أسر مع قصد الأعداء له مغالبة واغتيالا . وفيه دليل على صحة نبوته ، إذ لا يمكن أن يكون إخباره بذلك إلا من عند الله تعالى ، وكذا جميع ما أخبر به .
(
إن الله لا يهدي القوم الكافرين ) أي : إنما عليك البلاغ لا الهداية ، فمن قضيت عليه بالكفر والموافاة عليه لا يهتدي أبدا ، فيكون خاصا . قال
ابن عطية : أما على العموم على أن لا هداية في الكفر ، ولا يهدي الله الكافر في سبيل كفره . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ومعناه أنه لا يمكنهم مما يريدون إنزاله ، بل من الهلاك . انتهى . وهو قول بعضهم لا يعينهم على بلوغ غرضهم منك . وقيل : المعنى لا يهديهم إلى الجنة . والظاهر من الهداية إذا أطلقت ما فسرناها به أولا .