صفحة جزء
( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان ) تقدم الكلام في تفسير نظير هذه الجملة ، ومعنى ( عقدتم ) وثقتم بالقصد والنية ، وقرأ الحرميان وأبو عمر ، بتشديد القاف ، وقرأ الأخوان وأبو بكر ، بتخفيفها ، وابن ذكوان ، بألف بين العين والقاف ، وقرأ الأعمش بما عقدت الأيمان ، جعل الفعل للأيمان ، فالتشديد إما للتكثير بالنسبة إلى الجمع ، وإما لكونه بمعنى المجرد ، نحو قدر وقدر ، والتخفيف هو الأصل ، وبالألف بمعنى المجرد ، نحو جاوزت الشيء وجزته وقاطعته وقطعته; أي هجرته . وقال أبو علي الفارسي : عاقدتم يحتمل أمرين : أحدهما; أن يكون كطارقت النعل وعاقبت اللص انتهى . وليس مثله; لأنك لا تقول طرقت النعل ولا عقبت اللص ، بغير ألف ، وهذا تقول فيه : عاقدت اليمين ، وعقدت اليمين; وقال الحطيئة :


قوم إذا عاقدوا عقدا لجارهم

فجعله بمعنى المجرد ، وهو الظاهر كما ذكرناه .

قال أبو علي : والآخر أن يراد به فاعلت التي تقتضي فاعلين ، كأن المعنى بما عاقدتم عليه الأيمان ، عداه بعلى لما كان بمعنى عاهد . قال : ( بما عاهد عليه الله ) كما عدى ( ناديتم إلى الصلاة ) ، ( بإلى ) ، وبابها أن تقول : ناديت زيدا ( وناديناه من جانب الطور الأيمن ) لما كانت بمعنى دعوت إلى كذا . قال ( ممن دعا إلى الله ) ، ثم اتسع فحذف الجار ، ونقل الفعل إلى المفعول ، ثم المضمر العائد من الصلة إلى الموصول ، إذ صار بما عاقدتموه الأيمان ، كما حذف من قوله ( فاصدع بما تؤمر ) انتهى . وجعل عاقد لاقتسام الفاعلية والمفعولية لفظا ، والاشتراك فيهما معنى بعيد ، إذ يصير المعنى : أن اليمين عاقدته كما عاقدها إذ نسب ذلك إليه ، وهو عقدها; هو على سبيل الحقيقة ، ونسبة ذلك إلى اليمين; هو على سبيل المجاز; لأنها لم تعقده ، بل هو الذي عقدها . وأما تقديره : بما عاقدتم عليه وحذف حرف الجر ، ثم الضمير على التدريج الذي ذكره; فهو أيضا بعيد ، وليس تنظيره ذلك بقوله ( فاصدع بما تؤمر ) بسديد; لأن أمر يتعدى بحرف الجر تارة ، وبنفسه تارة إلى المفعول الثاني ، وإن كان أصله الحذف تقول : أمرت زيدا الخير ، وأمرته بالخير; ولأنه لا يتعين في ( فاصدع بما [ ص: 10 ] تؤمر ) أن تكون ما موصولة بمعنى الذي ، بل يظهر أنها مصدرية ، فلا يحتاج إلى عائد ، وكذلك هنا ، الأولى أن تكون ما مصدرية ، ويقوي ذلك ويحسنه المقابلة بعقد اليمين للمصدر الذي هو ( باللغو في أيمانكم ) لأن اللغو مصدر ، فالأولى مقابلته بالمصدر لا بالموصول . وقال الزمخشري : والمعنى : ولكن يؤاخذكم بما عقدتم إذا حنثتم ، فحذف وقت المؤاخذة; لأنه كان معلوما عندهم ، أو بنكث ما عقدتم ، فحذف المضاف انتهى . واليمين المنعقدة بالله ، أو بأسمائه ، أو صفاته .

وقال الإمام أحمد : إذا حلف بالنبي - صلى الله عليه وسلم - انعقدت يمينه; لأنه حلف بما لم يتم الإيمان إلا به ، وفي بعض الصفات تفصيل . وخلاف ذكر في الفقه . ( فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم ) . الكفارة الفعلة التي من شأنها أن تكفر الخطيئة; أي تسترها ، والضمير في ( فكفارته ) عائد على ما إن كانت موصولة اسمية ، وهو على حذف مضاف ، كما تقدم ، وإن كانت مصدرية عاد الضمير على ما يفهم من المعنى ، وهو إثم الحنث ، وإن لم يجر له ذكر صريح ، لكن يقتضيه المعنى . ومساكين أعم من أن يكونوا ذكورا أو إناثا أو من الصنفين . والظاهر تعدد الأشخاص . فلو أطعم مسكينا واحدا لكفارة عشرة أيام لم يجزه ، وبه قال مالك والشافعي . وقال أبو حنيفة : يجزئ . وتعرضت الآية لجنس ما يطعم منه ، وهو من أوسط ما تطعمون ، ولم تتعرض لمقدار ما يطعم كل واحد ، هذا الظاهر . وقد رأى مالك وجماعة; أن هذا التوسط هو في القدر ، وبه قال عمر وعلي وابن عباس ومجاهد ، ورأى جماعة أنه في الصنف ، وبه قال ابن عمر والأسود وعبيدة والحسن وابن سيرين . وقال ابن عطية : الوجه أن يطعم بلفظ الوسط القدر والصنف . انتهى .

وروي عن زيد بن ثابت وابن عباس والحسن وعطاء وابن المسيب : مد لكل مسكين بمد الرسول ، وبه قال مالك والشافعي ، وروي عن عمر وعلي وعائشة : نصف صاع من بر ، أو صاع من تمر ، وبه قال أبو حنيفة . والظاهر أنه لا يجزئ إلا الإطعام بما فيه كفاية وقتا واحدا يسد به الجوعة ، فإن غداهم وعشاهم أجزأه ، وبه قال علي ومحمد بن كعب والقاسم وسالم والشعبي وإبراهيم وقتادة والأوزاعي والثوري وأبو حنيفة ومالك . وقال ابن جبير والحكم والشافعي : من شرط صحة الكفارة : تمليك الطعام للفقراء ، فإن غداهم وعشاهم لم يجزه . والظاهر أنه لا يشترط الإدام . وقال ابن عمر : أوسط ما يطعم الخبز والتمر ، والخبز والزبيب ، وخير ما نطعم أهلينا : الخبز واللحم ، وعن غيره الخبز والسمن ، وأحسنه التمر مع الخبز ، وروي عن ابن مسعود مثله . وقال ابن حبيب : لا يجزئ الخبز قفارا ، ولكن بإدام زيت أو لبن أو لحم ونحوه . والظاهر أن المراعى ما يطعم أهليه الذين يختصون به; أي من أوسط ما يطعم كل شخص شخص أهله . وقيل : المراعى عيش البلد ، فالمعنى من أوسط ما تطعمون أيها الناس أهليكم في الجملة ، من مدينة أو صقع ، و ( من أوسط ) في موضع مفعول ثان لإطعام ، والأول هو ( عشرة مساكين ) أي طعاما من أوسط ، والعائد على ما من تطعمون في موضع محذوف; أي ( تطعمونه ) ، وقرأ الجمهور ( أهليكم ) ، وجمع أهل ، بالواو والنون ، شاذ في القياس . قرأ جعفر الصادق ( أهاليكم ) جمع [ ص: 11 ] تكسير ، وبسكون الياء . قال ابن جني : أهال بمنزلة ليال ، واحدها أهلة وليلة ، والعرب تقول : أهل وأهلة ، ومنه قوله :


وأهلة ود قد سريت بودهم

وقال الزمخشري : والأهالي : اسم جمع لأهل كالليالي في جمع ليلة ، والأراضي في جمع أرض ، وأما تسكين الياء في أهاليكم ، فهو كثير في الضرورة ، وقيل : في السعة; كما قال زهير :


يطيع العوالي ركبت كل لهذم

شبهت الياء بالألف ، فقدرت فيها جميع الحركات . ( أو كسوتهم ) هذا معطوف على قوله ( إطعام ) . والظاهر أن كسوة هي مصدر ، وإن كان يستعمل للثوب الذي يستر ، ولما لم يذكر مقدار ما يطعم ، لم يذكر مقدار الكسوة ، وظاهر مطلق الكسوة ، وأجمعوا على أن القلنسوة بانفرادها لا تجزئ . وقال بعضهم : الكسوة في الكفارة إزار وقميص ورداء ، وروي عن ابن عمر أو ثوبان لكل مسكين ، قاله أبو موسى الأشعري وابن سيرين والحسن . وراعى قوم الزي والكسوة المتعارفة فقال بعضهم : لا يجزئ الثوب الواحد إلا إذا كان جامعا لما قد يتزين به كالكساء والملحفة . وقال النخعي : ليس القميص والدرع والخمار ثوبا جامعا . وقال الحسن والحكم : تجزئ عمامة يلف بها رأسه . وقال مجاهد : يجزئ كل شيء إلا التبان . وقال عطاء وابن عباس وأبو جعفر ومنصور : الكسوة ثوب قميص أو رداء أو إزار وقال ابن عباس : تجزئ العباءة أو الشملة . وقال طاوس والحسن : ثوب لكل مسكين ، وعن ابن عمر : إزار وقميص ، أو كساء ، وهل يجزئ إعطاء كساوي عشرة أنفس لشخص واحد في عشرة أيام ؟ فيه خلاف كالإطعام . وقرأ النخعي وابن المسيب وابن عبد الرحمن ( كسوتهم ) بضم الكاف ، وقرأ ابن جبير وابن السميقع ( أو كأسوتهم ) بكاف الجر على أسوة . قال الزمخشري : المعنى : أو مثل ما تطعمون أهليكم إسرافا كان ، أو تقتيرا لا تنقصونهم عن مقدار نفقتهم ، ولكن تساوون بينهم وبينهم ، فإن قلت ما محل الكاف قلت الرفع ، قيل : إن قوله : ( أو كسوتهم ) عطف على محل ( من أوسط ) فدل على أنه ليس قوله : ( من أوسط ) في موضع مفعول ثان بالمصدر ، بل انقضى عنده الكلام في قوله : ( إطعام عشرة مساكين ) ثم أضمر مبتدأ أخبر عنه بالجار والمجرور ، يبينه ما قبله ، تقديره : طعامهم من أوسط . وعلى ما ذكرناه من أن ( من أوسط ) في موضع نصب ، تكون الكاف في ( كأسوتهم ) في موضع نصب; لأنه معطوف على محل ( من أوسط ) وهو عندنا منصوب ، وإذا فسرت ( كأسوتهم ) في الطعام بقيت الآية عارية من ذكر الكسوة . وأجمع العلماء على أن الحانث مخير بين الإطعام والكسوة والعتق ، وهي مخالفة لسواد المصحف وقال بعضهم : ( أو كأسوتهم ) في الكسوة . والظاهر أنه لا يجزئ إخراج قيمة الطعام والكسوة ، به قال الشافعي . وقال أبو حنيفة يجزئ . والظاهر أنه لم يقيد المساكين بوصف ، فيجوز صرف ذلك إلى الذمي والعبد ، وبه قال أبو حنيفة . وقال غيره لا يجزئ . واتفقوا على أنه لا يجزئ دفع ذلك إلى المرتد .

( أو تحرير رقبة ) تسمية الإنسان رقبة تسمية الكل بالجزء ، وخص بذلك لأن الرقبة غالبا محل للتوثق والاستمساك ، فهو موضع الملك ، وكذلك أطلق عليه رأس ، والتحرير يكون بالإخراج عن الرق وعن الأسر وعن المشقة وعن التعب; وقال الفرزدق :


أبني غدانة إنني حررتكم     فوهبتكم لعطية بن جعال

أي حررتكم من الهجا . والظاهر حصول الكفارة بتحرير ما يصدر عليه رقبة من غير اعتبار شيء آخر فيجزئ عتق الكفار ، وبه قال داود وجماعة من أهل الظاهر . وقال أبو حنيفة يجزئ الكافر ومن به نقص يسير من ذوي العاهات ، واختار الطبري إجزاء الكافرة . وقال مالك : لا يجزئ كافر ولا أعمى ولا أبرص ولا مجنون . وقال ابن شهاب وجماعة ، وفرق النخعي فأجاز عتق من يعمل أشغاله [ ص: 12 ] ويخدم ومنع عتق من لا يعمل كالأعمى والمقعد وأشل اليدين . ( فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) أي فمن لم يجد أحد هذه الثلاثة من الإطعام والكسوة والعتق ، فلو كان ماله في غير بلده ووجد من يسلفه ، لم ينتقل إلى الصوم ، أو لم يجد من يسلفه ، فقيل لا يلزمه انتظار ماله من بلده ، ويصوم ، وهو الظاهر; لأنه غير واجد الآن ، وقيل : ينتظر . والظاهر أنه إذا كان عنده فضل عن قوته وقوت من تلزمه نفقتهم يومه وليلته وعن كسوتهم بقدر ما يطعم أو يكسو ، فهو واجد . وبه قال أحمد وإسحاق والشافعي ومالك . وقال مالك : إلا أن يخاف الجوع أو يكون في بلد لا يعطف عليه فيه . وقال ابن جبير : إن لم يكن له إلا ثلاثة دراهم أطعم . وقال قتادة : إذا لم يكن إلا قدر ما يكفر به صام . وقال الحسن : إذا كان له درهمان ، أطعم . وقال أبو حنيفة إذا لم يكن عنده نصاب ، فهو غير واجد . وقال آخرون جائز لمن لم يكن عنده فضل على رأس ماله الذي يتصرف به في معاشه أو يصوم . والظاهر أنه لا يشترط التتابع ، وبه قال مالك ، والشافعي في أحد قوليه . وقال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وطاوس وأبو حنيفة : يشترط . وقرأ أبي ، وعبد الله ، والنخعي ( أيام متتابعات ) واتفقوا على أن العتق أفضل ثم الكسوة ثم الإطعام ، وبدأ الله بالأيسر فالأيسر على الحال ، وهذه الكفارة التي نص الله عليها لازمة للحر المسلم ، وإذا حنث العبد ، فقال سفيان وأبو حنيفة والشافعي : ليس عليه إلا الصوم لا يجزئه غيره . وحكى ابن نافع عن مالك : لا يكفر بالعتق; لأنه لا يكون له ولاء ، ولكن يكفر بالصدقة إن أذن له سيده ، والصوم أصوب . وحكى ابن القاسم عنه أنه قال : إن أطعم أو كسى بإذن السيد فما هو بالبين ، وفي قلبي منه شيء ، ولو حلف بصدقة ماله فقال الشعبي وعطاء وطاوس : لا شيء عليه . وقال الشافعي وإسحاق وأبو ثور : عليه كفارة يمين . وقال أبو حنيفة : مقدار نصاب . وقال بعضهم : مقدار زكاته . وقال مالك : ثلث ماله . ولو حلف بالمشي إلى مكة فقال ابن المسيب والقاسم : لا شيء عليه . وقال الشافعي وأحمد وأبو ثور : كفارة يمين . وقال أبو حنيفة : يلزمه الوفاء به فإن عجز عن المشي لزمه أن يحج راكبا ، ولو حلف بالعتق ، فقال عطاء : يتصدق بشيء ، وروي عن ابن عمر وابن عباس وعائشة : عليه كفارة يمين ، لا العتق . وقال الجمهور : يلزمه العتق ، ومن قال الطلاق لازم له فقال المهدوي : أجمع كل من يعتمد على قوله إن الطلاق لازم لمن حلف به وحنث . ( ذلك كفارة أيمانكم إذا حلفتم ) أي ذلك المذكور ، واستدل بها الشافعي على جواز التكفير بعد اليمين . وقيل : الحنث ، وفيها تنبيه على أن الكفارة لا تكون إلا بعد الحنث ، فهم يقدرون محذوفا; أي إذا حلفتم وحنثتم . ( واحفظوا أيمانكم كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون ) قال الزمخشري : أي بروا فيها ولا تحنثوا ، أراد الأيمان التي الحنث فيها معصية; لأن الأيمان اسم جنس يجوز إطلاقه على بعض الجنس وعلى كله ، وقيل : احفظوها بأن تكفروها ، وقيل : احفظوها كيف حلفتم بها ، ولا تنسوها تهاونا بها . ( كذلك ) أي مثل ذلك البيان ( يبين الله لكم آياته ) أعلام شريعته وأحكامه . ( لعلكم تشكرون ) نعمته فيما يعلمكم ، ويسهل عليكم المخرج منه .

التالي السابق


الخدمات العلمية