(
ولقد استهزئ برسل من قبلك فحاق بالذين سخروا منهم ما كانوا به يستهزئون ) . هذه تسلية لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، على ما كان يلقى من قومه ، وتأس بمن سبق من الرسل ، وهو نظير (
وإن يكذبوك فقد كذبت رسل من قبلك ) لأن ما كان مشتركا من ما لا يليق أهون على النفس مما يكون فيه الانفراد ، وفي التسلية والتأسي من التخفيف ما لا يخفى; وقالت
الخنساء :
ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي وما يبكون مثل أخي ولكن
أسلي النفس عنه بالتأسي
وقال بعض المولدين :
ولا بد من شكوى إلى ذي مروءة يواسيك أو يسليك أو يتوجع
ولما كان الكفار لا ينفعهم الاشتراك في العذاب ، ولا يتسلون بذلك ، نفى ذلك تعالى عنهم ، فقال : (
ولن [ ص: 80 ] ينفعكم اليوم إذ ظلمتم أنكم في العذاب مشتركون ) ، قيل : كان قوم يقولون : يجب أن يكون ملكا من الملائكة ، على سبيل الاستهزاء ، فيضيق قلب الرسول عند سماع ذلك ، فسلاه الله تعالى بإخباره أنه قد سبق للرسل قبلك استهزاء قومهم بهم; ليكون سببا للتخفيف عن القلب . وفي قوله تعالى : ( فحاق ) إلى آخره إخبار بما جرى للمستهزئين بالرسل قبلك ، ووعيد متيقن لمن استهزأ بالرسول ، عليه السلام ، وتثبيت للرسول على عدم اكتراثه بهم; لأن مآلهم إلى التلف ، والعقاب الشديد المرتب على الاستهزاء ، وأنه تعالى يكفيه شرهم وإذايتهم ، كما قال تعالى : (
إنا كفيناك المستهزئين ) . ومعنى ( سخروا ) استهزءوا ، إلا أن ( استهزأ ) تعدى بالباء ، وسخر بـ ( من ) ، كما قال : (
إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما تسخرون ) وبالباء تقول : سخرت به ، وتكرر الفعل هنا لخفة الثلاثي ، ولم يتكرر في (
ولقد استهزئ ) ، فكان يكون التركيب (
فحاق بالذين ) استهزءوا بهم لثقل ( استفعل ) . والظاهر في ( ما ) أن تكون بمعنى الذي ، وجوزوا أن تكون ( ما ) مصدرية . والظاهر أن الضمير في ( منهم ) عائد على الرسل; أي (
فحاق بالذين سخروا ) ، من الرسل ، وجوز
الحوفي وأبو البقاء أن يكون عائدا على غير الرسل . قال
الحوفي : في أمم الرسل ، وقال
أبو البقاء : على المستهزئين ، ويكون ( منهم ) حالا من ضمير الفاعل في ( سخروا ) . وما قالاه وجوزاه ليس بجيد ، أما قول
الحوفي فإن الضمير يعود على غير مذكور ، وهو خلاف الأصل ، وأما قول
أبي البقاء ، فهو أبعد; لأنه يصير المعنى (
فحاق بالذين سخروا ) كائنين من المستهزئين ، فلا حاجة لهذه الحال; لأنها مفهومة من قوله : ( سخروا ) . وقرأ
عاصم وأبو عمرو وحمزة ، بكسر دال (
ولقد استهزئ ) على أصل التقاء الساكنين . وقرأ باقي السبعة ، بالضم إتباعا ، ومراعاة لضم التاء ، إذ الحاجز بينهما ساكن ، وهو حاجز غير حصين .
(
قل سيروا في الأرض ثم انظروا كيف كان عاقبة المكذبين ) لما ذكر تعالى ما حل بالمكذبين المستهزئين ، وكان المخاطبون بذلك أمة أمية ، لم تدرس الكتب ، ولم تجالس العلماء ، فلها أن تظافر في الإخبار بهلاك من أهلك بذنوبهم ، أمروا بالسير في الأرض ، والنظر فيما حل بالمكذبين; ليعتبروا بذلك ، وتتظافر مع الإخبار الصادق الحس ، فللرؤية من مزيد الاعتبار ، ما لا يكون ، كما قال بعض العصريين :
لطائف معنى في العيان ولم تكن لتدرك إلا بالتزاور واللقا
والظاهر أن السير المأمور به ، هو الانتقال من مكان إلى مكان ، وأن النظر المأمور به ، هو نظر العين ، وأن الأرض هي ما قرب من بلادهم من ديار الهالكين بذنوبهم ، كأرض عاد ومدين ومدائن قوم لوط وثمود . وقال قوم : السير والنظر هنا ، ليسا حسيين ، بل هما جولان الفكر والعقل في أحوال من مضى من الأمم التي كذبت رسلها ، ولذلك قال
الحسن : سيروا في الأرض لقراءة القرآن أي : اقرءوا القرآن وانظروا ما آل إليه أمر المكذبين ، واستعارة السير (
في الأرض ) لقراءة القرآن فيه بعد . وقال قوم : (
الأرض ) هنا عام; لأن في كل قطر منها آثارا لهالكين ، وعبرا للناظرين ، وجاء هنا خاصة (
ثم انظروا ) بحرف المهلة ، وفيما سوى ذلك بالفاء التي هي للتعقيب . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : في الفرق جعل
[ ص: 81 ] النظر متسببا عن السير فكان السير سببا للنظر ، ثم قال : فكأنه قيل : ( سيروا ) لأجل النظر ، ولا تسيروا سير الغافلين ، وهنا معناه إباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع ، وإيجاب النظر في آثار الهالكين ، ونبه على ذلك بـ ( ثم ) لتباعد ما بين الواجب والمباح انتهى . وما ذكره أولا متناقض; لأنه جعل النظر متسببا عن السير ، فكان السير سببا للنظر ، ثم قال : فكأنما قيل : ( سيروا ) لأجل النظر ، فجعل السير معلولا بالنظر ، فالنظر سبب له ، فتناقضا ، ودعوى أن الفاء تكون سببية ، لا دليل عليها ، وإنما معناها التعقيب فقط ، وأما مثل ضربت زيدا فبكى ، وزنى
ماعز فرجم ، فالتسبيب فهم من مضمون الجملة; لأن الفاء موضوعة له ، وإنما يفيد تعقيب الضرب بالبكاء ، وتعقيب الزنا بالرجم فقط ، وعلى تسليم أن الفاء تفيد التسبيب ، فلم كان السير هنا سير إباحة ، وفي غيره سير واجب ؟ فيحتاج ذلك إلى فرق بين هذا الموضع ، وبين تلك المواضع .