[ ص: 122 ] (
والذين كذبوا بآياتنا صم وبكم في الظلمات ) . قال
النقاش : نزلت في
بني عبد الدار ، ثم انسحبت على سواهم انتهى . ومناسبة هذه لما قبلها; أنه لما تقدم قوله : (
إنما يستجيب الذين يسمعون ) أخبر أن المكذبين بالآيات صم ، لا يسمعون من ينبههم ، فلا يستجيب أحد منهم ، ولما كان قوله : (
وما من دابة ) الآية منبها على عظيم قدرة الله تعالى ، ولطيف صنعه ، وبديع خلقه ، ذكر أن المكذب بآياته ، هو أصم عن سماع الحق ، أبكم عن النطق به . والآيات هنا القرآن ، أو ما ظهر على يدي الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المعجزات ، أو الدلائل والحجج ، ثلاثة أقوال ، والإخبار عنهم بقوله : (
صم وبكم في الظلمات ) الظاهر أنه استعارة عن عدم الانتفاع الذهني بهذه الحواس ، لا أنهم (
صم وبكم في الظلمات ) حقيقة ، وجاء قوله : (
في الظلمات ) كناية عن عمى البصيرة ، فهو ينظر ، كقوله : (
صم بكم عمي ) لكن قوله : (
في الظلمات ) أبلغ من قوله : ( عمي ) إذ جعلت ظرفا لهم ، وجمعت لاختلاف جهات الكفر ، كما قيل : في قوله : (
وجعل الظلمات والنور ) ، على أحد الأقوال ، وفي قوله : (
يخرجونهم من النور إلى الظلمات ) . وقال
الجبائي : الإخبار عنهم بأنهم (
صم وبكم في الظلمات ) حقيقة ، وذلك يوم القيامة يجعلهم صما وبكما في الظلمات ، يضلهم بذلك عن الجنة ، ويصيرهم إلى النار . ويعضد هذا التأويل قوله تعالى : (
ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم ) الآية . وقال
الكعبي : ( صم وبكم ) محمول على الشتم والإهانة على أنهم كانوا كذلك في الحقيقة انتهى . والظلمات ظلمات الكفر ، أو حجب تضرب على القلب فيظلم ، وتحول بينه وبين نور الإيمان ، أو ظلمات يوم القيامة ، ومنه قيل : ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا ، أو الشدائد; لأن العرب كانت تعبر عن الشدة بالظلمة ، يقولون : يوم مظلم ، إذا لقوا فيه شدة ، ومنه قوله :
بني أسد هل تعلمون بلاءنا إذا كان يوم ذو كواكب مظلم
أربعة أقوال ، رابعها قاله
الليث . (
من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) مفعول ( يشأ ) محذوف ، تقديره : من يشأ الله إضلاله ( يضلله ) ، ومن يشأ هدايته ( يجعله ) . ولا يجوز في ( من ) فيهما أن يكون مفعولا بـ ( يشأ ) ; للتعاند الحاصل بين المشيئتين ، فإن قلت ، يكون مفعولا بـ ( يشأ ) على حذف مضاف
[ ص: 123 ] تقديره : إضلال من يشاء الله ، وهداية من يشاء الله ، فحذف وأقيم ( من ) مقامه ، ودل فعل الجواب على هذا المفعول ، فالجواب : أن ذلك لا يجوز ، لأن
أبا الحسن الأخفش حكى عن العرب; أن اسم الشرط غير الظرف ، والمضاف إلى اسم الشرط لا بد أن يكون في الجواب ضمير يعود على اسم الشرط ، أو المضاف إليه . والضمير في ( يضلله ) إما أن يكون عائدا على إضلال المحذوف ، أو على ( من ) ، لا جائز أن يعود على إضلال ، فيكون كقوله : (
يغشاه موج من فوقه ) ، إذ الهاء تعود على ( ذي ) المحذوفة من قوله : أو كظلمات ، إذ التقدير : أو كذي ظلمات; لأنه يصير التقدير : إضلال من يشأ الله يضلله أي يضلل الإضلال ، وهذا لا يصح ، ولا جائز أن يعود على ( من ) الشرطية; لأنه إذ ذاك تخلو الجملة الجزائية من ضمير يعود على المضاف إلى اسم الشرط ، وذلك لا يجوز . فإن قلت : يكون التقدير : من يشأ الله بالإضلال ، فيكون على هذا مفعولا مقدما; لأن شاء بمعنى أراد ، ويقال أراده الله بكذا; قال الشاعر :
أرادت عرارا بالهوان ومن يرد عرارا لعمري بالهوان فقد ظلم
فالجواب : أنه لا يحفظ من كلام العرب تعدية ( شاء ) بالباء ، لا يحفظ شاء الله بكذا ، ولا يلزم من كون الشيء في معنى الشيء أن يعدى تعديته ، بل قد يختلف تعدية اللفظ الواحد باختلاف متعلقه ، ألا ترى أنك تقول : دخلت الدار ، ودخلت في غمار الناس ؟ ولا يجوز دخلت غمار الناس ، فإذا كان هذا واردا في الفعل الواحد; فلأن يكون في الفعلين أحرى ، وإذا تقرر هذا ، فإعراب ( من ) ، يحتمل وجهين : أحدهما; وهو الأولى أن يكون مبتدأ جملة الشرط خبره ، والثاني أن يكون مفعولا بفعل محذوف متأخر عنه ، يفسره فعل الشرط ، من حيث المعنى ، وتكون المسألة من باب الاشتغال ، التقدير : من يشق الله يشأ إضلاله ، ومن يسعد يشأ هدايته (
يجعله على صراط مستقيم ) ، وظاهر الآية يدل على مذهب أهل السنة في أن الله تعالى هو الهادي ، وهو المضل ، وأن ذلك معذوق بمشيئته ، لا يسأل عما يفعل . وقد تأولت المعتزلة هذه الآية ، كما تأولوا غيرها ، فقالوا : معنى ( يضلله ) يخذله ويخبله ، وضلاله لم يلطف به; لأنه ليس من أهل اللطف ، ومعنى (
يجعله على صراط مستقيم ) يلطف به; لأن اللطف يجري عليه ، وهذا على قول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري . وقال غيره : يضلله عن طريق الجنة ، و (
يجعله على صراط مستقيم ) هو الصراط الذي يسلكه المؤمنون إلى الجنة . قالوا : وقد ثبت بالدليل أنه تعالى لا يشاء هذا الضلال ، إلا لمن يستحق العقوبة ، كما لا يشاء الهدى إلا للمؤمنين .