أريت إن جاءت به أملودا
بل قد زعم الفراء أنها لغة أكثر العرب ، قال الفراء : للعرب في أرأيت لغتان ومعنيان : أحدهما : أن تسأل الرجل ، أرأيت زيدا ؟ أي بعينك ، فهذه مهموزة ، وثانيهما : أن تقول : أرأيت ، وأنت تقول : أخبرني فيها هنا ، تترك الهمزة إن شئت ، وهو أكثر كلام العرب ، تومئ إلى ترك الهمزة; للفرق بين المعنيين انتهى . وإذا كانت بمعنى أخبرني ، جاز أن تختلف التاء باختلاف المخاطب ، وجاز أن تتصل بها الكاف مشعرة باختلاف المخاطب ، وتبقى التاء مفتوحة ، كحالها للواحد المذكر . ومذهب البصريين أن التاء هي الفاعل ، وما لحقها حرف يدل على اختلاف المخاطب ، وأغنى اختلافه عن اختلاف التاء . ومذهب أن الفاعل هو التاء ، وأن أداة الخطاب اللاحقة في موضع المفعول الأول . ومذهب الكسائي الفراء أن التاء هي حرف خطاب [ ص: 126 ] كهي في أنت ، وأن أداة الخطاب بعده هي في موضع الفاعل ، استعيرت ضمائر النصب للرفع ، والكلام على هذه المذاهب إبدالا وتصحيحا مذكور في علم النحو ، وكون أرأيت وأرأيتك بمعنى أخبرني ، نص عليه سيبويه والأخفش والفراء والفارسي وابن كيسان وغيرهم . وذلك تفسير معنى ، لا تفسير إعراب ، قالوا : فتقول العرب : أرأيت زيدا ما صنع ! فالمفعول الأول ملتزم فيه النصب ، ولا يجوز فيه الرفع على اعتبار تعليق أرأيت ، وهو جائز في علمت ورأيت الباقية على معنى علمت المجردة من معنى أخبرني; لأن أخبرني لا تعلق ، فكذلك ما كان بمعناها ، والجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني . قال : وتقول أرأيتك زيدا أبو من هو ؟ وأرأيتك عمرا أعندك هو أم عند فلان ؟ لا يحسن فيه إلا النصب في زيد ، ألا ترى أنك لو قلت : أرأيت أبو من أنت ؟ ، وأرأيت أزيد ثم أم فلان لم يحسن; لأن فيه معنى أخبرني عن زيد . ثم قال سيبويه : وصار الاستفهام في موضع المفعول الثاني . وقد اعترض كثير من النحاة على سيبويه وخالفوه ، وقالوا : كثيرا ما تعلق ( أرأيت ) ، وفي القرآن من ذلك كثير ، منه ( سيبويه قل أرأيتكم إن أتاكم عذاب الله أو أتتكم الساعة أغير الله تدعون ) ، ( أرأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى ) ، ( أرأيت إن كذب وتولى ألم يعلم ) . وقال الشاعر :أرأيت إن جاءت به أملودا مرجلا ويلبس البرودا
أقائلن أحضروا الشهودا
أرأيت إن جاءت به أملودا
وأيضا فمجيء الجمل الاستفهامية مصدرة بهمزة الاستفهام ، دليل على أنها ليست جواب الشرط ، إذ لا يصح وقوعها جوابا للشرط . وقال : فإن قلت : إن علقت الشرطية ، يعني بقوله : ( الزمخشري أغير الله ) ، فما تصنع بقوله : ( فيكشف ما تدعون إليه ) مع قوله : [ ص: 128 ] ( أو أتتكم الساعة ) ! وقوارع الساعة لا تكشف عن المشركين ، قلت : قد اشترط في الكشف المشيئة ، وهو قوله : إن شاء إيذانا بأنه إن فعل ، كان له وجه من الحكمة ، إلا أنه لا يفعل لوجه آخر من الحكمة أرجح منه انتهى . وهذا مبني على أنه يجوز أن يتعلق الشرط بقوله : ( أغير الله ) ، وقد استدل للفاعل أن ذلك لا يجوز . وتلخص في جواب الشرط أقوال : أحدها; أنه مذكور ، وهو ( أرأيتكم ) ، المتقدم ، والآخر أنه مذكور ، وهو ( أغير الله تدعون ) . والثالث : أنه محذوف ، تقديره : من تدعون . والرابع : أنه محذوف ، تقديره : دعوتم الله ، هذا ما وجدناه منقولا . والذي نذهب إليه غير هذه الأقوال ، وهو أن يكون محذوفا لدلالة ( أرأيتكم ) عليه ، وتقديره : ( إن أتاكم عذاب الله ) ، فأخبروني عنه ، أتدعون غير الله لكشفه ؟ كما تقول : أخبرني عن زيد إن جاءك ما تصنع به ؟ التقدير : إن جاءك فأخبرني ، فحذف الجواب لدلالة أخبرني عليه ، ونظير ذلك أنت ظالم إن فعلت ، التقدير : فأنت ظالم ، فحذف فأنت ظالم ، وهو جواب الشرط لدلالة ما قبله عليه ، وهذا التقدير الذي قدرناه هو الذي تقتضيه قواعد العربية . و ( غير الله ) عنى به الأصنام التي كانوا يعبدونها ، وتقديم المفعول هنا بعد الهمزة ، يدل على الإنكار عليهم دعاء الأصنام ، إذ لا ينكر الدعاء ، إنما ينكر أن الأصنام تدعى ، كما تقول : أزيدا تضرب ؟ لا تنكر الضرب ، ولكن تنكر أن يكون محله زيدا . قال : بكتهم بقوله : ( الزمخشري أغير الله تدعون ) بمعنى أتخصون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضر ، أم تدعون الله دونها ؟ انتهى . وقدره بمعنى أتخصون; لأن عنده تقديم المفعول مؤذن بالتخصيص والحصر ، وقد تكلمنا فيما سبق في ذلك ، وأنه لا يدل على الحصر والتخصيص . وهذه الآية عند علماء البيان من باب استدراج المخاطب ، وهو أن يلين الخطاب ، ويمزجه بنوع من التلطف والتعطف ، حتى يوقع المخاطب في أمر يعترف به ، فتقوم الحجة عليه . والله تعالى خاطب هؤلاء الكفار بلين من القول ، وذكر لهم أمرا لا ينازعون فيه ، وهو أنهم كانوا إذا مسهم الضر ، دعوا الله لا غيره . وجواب ( إن كنتم صادقين ) محذوف ، تقديره : إن كنتم صادقين في دعواكم أن غير الله إله ، فهل تدعونه لكشف ما يحل بكم من العذاب ؟ ( بل إياه تدعون فيكشف ما تدعون إليه إن شاء وتنسون ما تشركون ) . ( إياه ) ضمير نصب منفصل ، وتقدم الكلام عليه في قوله : ( إياك نعبد ) مستوفى . وقال ابن عطية : هنا ( إياه ) اسم مضمر أجري مجرى المظهرات في أنه يضاف أبدا انتهى . وهذا مخالف لمذهب ; لأن مذهب سيبويه أن ما اتصل بإيا من دليل تكلم أو خطاب أو غيبة ، وهو حرف لا اسم ، أضيف إليه إيا; لأن المضمر عنده لا يضاف; لأنه أعرف المعارف ، فلو أضيف لزم من ذلك تنكره حتى يضاف ، ويصير إذ ذاك معرفة بالإضافة ، لا يكون مضمرا ، وهذا فاسد . ومجيئه هنا مقدما على فعله دليل على الاعتناء بذكر المفعول ، وعند سيبويه أن تقديمه دليل على الحصر والاختصاص; ولذلك قال : بل تخصونه بالدعاء دون الآلهة . والاختصاص عندنا والحصر فهم من سياق الكلام ، لا من تقديم المفعول على العامل . و ( بل ) هنا للإضراب والانتقال من شيء إلى شيء من غير إبطال; لما تضمنه الكلام السابق من معنى النفي; لأن معنى الجملة السابقة النفي ، وتقديرها : ما تدعون أصنامكم لكشف العذاب . وهذا كلام حق لا يمكن فيه الإضراب ، يعني الإبطال . و ( ما ) من قوله : ( الزمخشري ما تدعون ) الأظهر أنها موصولة; أي فيكشف الذي تدعون . قال ابن عطية : ويصح أن تكون ظرفية انتهى . ويكون مفعول ( يكشف ) محذوفا; أي فيكشف العذاب مدة دعائكم; أي ما دمتم داعيه ، وهذا فيه حذف المفعول ، وخروج عن الظاهر لغير حاجة ، ويضعفه وصل ( ما ) الظرفية بالمضارع ، وهو قليل جدا ، إنما بابها أن توصل بالماضي ، تقول : ألا أكلمك ما طلعت الشمس ، ولذلك علة أما ذكرت في علم النحو قال ابن [ ص: 129 ] عطية : ويصح أن تكون مصدرية على حذف في الكلام . وقال : وهو مثل واسأل القرية انتهى . ويكون تقدير المحذوف ، فيكشف موجب دعائكم ، وهو العذاب ، وهذه دعوى محذوف غير متعين ، وهو خلاف الظاهر . والضمير في ( إليه ) عائد على ( ما ) الموصولة; أي إلى كشفه ، ودعا بالنسبة إلى متعلق الدعاء ، يتعدى بـ ( إلى ) ، قال الله تعالى : ( الزجاج وإذا دعوا إلى الله ) الآية; وقال الشاعر :وإن دعوت إلى جلى ومكرمة يوما سراة كرام الناس فادعينا
وإن أدع للجلى أكن من حماتها
وقال آخر :دعوت لما نابني مسورا
وقال ابن عطية : والضمير في ( إليه ) يحتمل أن يعود إلى الله بتقدير فيكشف ما تدعون فيه إلى الله انتهى . وهذا ليس بجيد; لأن دعا بالنسبة إلى مجيب الدعاء ، إنما يتعدى لمفعول به دون حرف جر ، قال تعالى : ( ادعوني أستجب لكم ) ، ( أجيب دعوة الداع إذا دعان ) . ومن كلام العرب : دعوت الله سميعا ولا تقول بهذا المعنى دعوت إلى الله ، إلا أنه يمكن أن يصحح كلامه بدعوى التضمين ، ضمن يدعون معنى يلجأون ، كأنه قيل : فيكشف ما يلجأون فيه بالدعاء إلى الله ، لكن التضمين ليس بقياس ، ولا يصار إليه إلا عند الضرورة ، ولا ضرورة هنا تدعو إليه . وعلق تعالى الكشف بمشيئته ، فإن شاء أن يتفضل بالكشف ، فعل ، وإن لم يشأ ، لم يفعل ، لا يجب عليه شيء . قال : إن شاء : إن أراد أن يتفضل عليكم ، ولم تكن مفسدة انتهى . وفي قوله : ولم تكن مفسدة دسيسة الاعتزال ، وظاهر قوله : ( الزمخشري وتنسون ما تشركون ) النسيان حقيقة ، والذهول والغفلة عن الأصنام; لأن الشخص إذا دهمه ما لا طاقة له بدفعه ، تجرد خاطره من كل شيء ، إلا من الله الكاشف لذاك الداهم ، فيكاد يصير الملجأ إلى التعلق بالله والذهول عن من سواه ، فلا يذكر غير الله القادر على كشف ما دهم . وقال : ( الزمخشري وتنسون ما تشركون ) وتكرهون آلهتكم ، وهذا فيه بعد . وقال ابن عطية : تتركونهم ، وتقدم قوله هذا ، وسبقه إليه ، فقال : تتركونهم لعلمكم أنهم في الحقيقة لا يضرون ولا ينفعون . وقال الزجاج النحاس : هو مثل قوله : ( ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ) . وقيل : يعرضون إعراض الناسي لليأس من النجاة من قبله . و ( ما ) موصولة; أي وتنسون الذي تشركون . وقيل : ( ما ) مصدرية; أي وتنسون إشراككم ، ومعنى هذه الجمل ، بل لا ملجأ لكم إلا الله تعالى ، وأصنامكم مطرحة منسية ، قاله ابن عطية .