( فجعلناها ) : الضمير عائد على القرية أو على الأمة ، أو على الحالة ، أو على المسخة ، أو على الحيتان ، أو على العقوبة . والذي يظهر أن الضمير عائد على المصدر المفهوم من : كونوا ، أي فجعلنا كينونتهم قردة خاسئين . ( نكالا ) : أي عبرة ، وهو مفعول ثان لجعل .
(
لما بين يديها وما خلفها ) : أي من القرى ، والضمير للقرية ، قاله
عكرمة عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو لمن بعدهم من الأمم ، ( وما خلفها ) : أي الذين كانوا معهم باقين ، رواه الضحاك عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . أو ما بين يديها : أي ما دونها ، و ( ما خلفها ) يعني : لمن يأتي بعدهم من الأمم . والضمير للأمة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي . أو ما بين يديها من ذنوب القوم ، وما خلفها للحيتان التي أصابوا ، قاله
قتادة . أو ( لما بين يديها ) : ما مضى من خطاياهم التي أهلكوا بها ، قاله
مجاهد . أو لما بين يديها ممن شاهدها ، وما خلفها ممن لم يشاهدها ، قاله
قطرب . أو ما بين يديها من ذنوب القوم ، وما خلفها لمن يذنب بعدها مثل تلك الذنوب . أو ( لما بين يديها ) : من حضرها من الناجين ، و ( ما خلفها ) ممن يجيء بعدها . أو لما بين يديها من
[ ص: 247 ] عقوبة الآخرة ، و ( ما خلفها ) في دنياهم ، فيذكرون بها إلى قيام الساعة . أو ( لما بين يديها ) : لما حولها من القرى ، و ( ما خلفها ) : وما يحدث بعدها من القرى التي لم تكن ; لأن مسختهم ذكرت في كتب الأولين ، فاعتبروا بها ، واعتبر بها من بلغتهم من الآخرين . أو في الآية تقديم وتأخير ، أي فجعلناها وما خلفها مما أعد لهم في الآخرة من العذاب ، نكالا وجزاء ، لا لما بين يديها ، أي لما تقدم من ذنوبهم لاعتدائهم في السبت . فهذه أحد عشر قولا . قال بعضهم : والأقرب للصواب قول من قال : ( ما بين يديها ) : من يأتي من الأمم بعدها . و ( ما خلفها ) : من بقي منهم ومن غيرهم لم تنلهم العقوبة ، ومن قال الضمير عائد على القرية ، فالمراد أهلها .
(
وموعظة للمتقين ) : خص المتقين لأنهم الذين ينتفعون بالعظة والتذكير ، قال تعالى : (
فإن الذكرى تنفع المؤمنين ) ، (
إنما أنت منذر من يخشاها ) . وقيل : أراد نكالا لبني إسرائيل ، وموعظة للمتقين من أمة
محمد ، صلى الله عليه وسلم ، قيل : المتقون أمة
محمد ، صلى الله عليه وسلم ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي عن أشياخه . وقيل : اللفظ عام في كل متق من كل أمة ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . وقيل : الذين نهوا ونجوا .
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة التسوية بين مؤمني
اليهود والنصارى والصابئين ، ومؤمني غيرهم في كينونة الأجر لهم ، وأن ذلك عند من يراهم ، وأن إيمانهم في الدنيا أنتج لهم الأمن في الآخرة ، فلا خوف مما يستقبل ، ولا حزن على ما فات إذ من استقر له أجره عند ربه فقد بلغ الغاية القصوى من الكرامة ، وقد أدخل هذه الآية بين قصص بني إسرائيل ليبين أن الفوز إنما هو لمن أطاع . وصارت هذه الآية بين آيتي عقاب : إحداهما تتضمن ضرب الذلة والمسكنة على بني إسرائيل ، والأخرى تتضمن ما عوقبوا به من نتق الجبل فوقهم ، وأخذ الميثاق ، ثم توليهم بعد ذلك ، فأعلمت هذه الآية بحسنى عاقبة من آمن ، حتى من هذا الجنس الذي عوقب بهاتين العقوبتين ، ترغيبا في الإيمان ، وتيسيرا للدخول في أشرف الأديان ، وتبيينا أن الإسلام يجب ما قبله ، وأن طاعة الله تجلب إحسانه وفضله .
وتضمن قوله (
وإذ أخذنا ميثاقكم ) التذكير بالميثاق الذي أخذ عليهم ، وأنه كان يجب الوفاء به ، وأنه رفع الطور فوقهم لأن يتوبوا ويرجعوا ، وأنهم مع مشاهدتهم هذا الخارق العظيم تولوا وأعرضوا عن قبول الحق ، وأنه لولا أن تداركهم بفضله ورحمته لخسروا ، ثم أخذ يذكرهم ما هو في طي علمهم من عقوبة العاصين ، ومآل اعتداء المعتدين ، وأنه باستمرار العصيان والاعتداء في إباحة ما حظره الرحمن ، يعاقب بخروج العاصي من طور الإنسانية إلى طور القردية ، فبينا هو يفرح بجعله من ذوي الألباب ، ويمرح ملتذا بدلال الخطاب ، نسخ اسمه من ديوان الكمال ، ونسخ شكله إلى أقبح مثال ، هذا مع أعد له في الآخرة من النكال ، والعقوبات على الجرائم جارية على المقدار ، ناشئة عن إرادة الملك القهار ، ليست مما تدرك بالقياس ، فيخوض في تعيينها ألباب الناس ، ومثل هذه العقوبة تكون تنبيها للغافل ، عظة للعاقل .