(
وهو الذي أنشأ جنات معروشات وغير معروشات والنخل والزرع مختلفا أكله والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ) مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى لما أخبر عنهم أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله ، أخذ يذكر تعالى ما امتن به عليهم من الرزق الذي تصرفوا فيه بغير إذنه تعالى افتراء منهم عليه واختلافا ، فذكر
[ ص: 236 ] نوعي الرزق النباتي والحيواني ، فبدأ بالنباتي كما بدأ به في الآية المشبهة لهذا ، واستطرد منه إلى الحيواني ، إذ كانوا قد حرموا أشياء من النوعين ، و (
معروشات ) اسم مفعول ، يقال : عرشت الكرم إذا جعلت له دعائم وسمكا ينعطف عليه القضبان . وهل المعروشات ما غرسه الناس وعرشوه وغيرها ما نبت في الصحاري والبراري ؟ وهو قول
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو كل شجر ذي ساق كالنخل والكرم وكل ما نجم غير ذي ساق كالزرع ، أو ما يثمر وما لا يثمر ، أو الكرم قسمت إلى ما عرش فارتفع وإلى ما كان منها منبسطا على الأرض ؟ قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو ما حوله حائط وما لا حائط حوله وما انبسط على وجه الأرض وانتشر كالكرم والقرع والبطيخ ، وما قام على ساق كالنخل والزرع والأشجار ؟ قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ، أو الكرم الذي عرش عنبه ، وسائر الشجر الذي لا يعرش ، أو ما يرتفع بعض أغصانه على بعض وما لا يحتاج إلى ذلك ، أو ما عادته أن يعرش كالكرم وما يجري مجراه وما لا يعرش كالنخل وما أشبهه ؟ تسعة أقوال ، والظاهر أن المعروش ما جعل له عرش كرما كان أو غيره ، وغير المعروش ما لم يجعل له ذلك ، ولما كانت هذه الآية واردة في معنى ذكر المنة والإحسان قدم ما حاجة العرب إليه أشد وما هو أكثر فيه ، كما قال تعالى : (
بواد غير ذي زرع ) وهو غالب قوتهم ، فقال : (
والنخل والزرع ) ، ولما كانت تلك الآية جاءت عقب إنكار الكفار التوحيد وجعلهم معه آلهة ، استطرد من ذلك إلى المعاد الأخروي ، واستدل عليه بقوله : (
وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء ) ، فاندرج فيه ( النخل والزرع ) ، كان الابتداء في التقسيم بذكر الزرع لصغر حبه ، وهو أدل على التوحيد والقدرة التامة ، وأبلغ في الاعتبار ، وأسرع في الانتفاع من ما هو فوقه في الجرم ، والظاهر دخول ( والنخل ) وما بعده في قوله : (
جنات معروشات وغير معروشات ) ، فاندرج في (
جنات ) ، وخص بالذكر وجرد تعظيما لمنفعته والامتنان به ، ومن خص الجنات بقسمها بالكرم قال : ذكر النخل وما بعده ذكر أنواع أخبر تعالى بأنه أنشأها ، واختلاف أكله وهو المأكول ، هو بأن كل نوع من أنواع النخل والزرع طعما ولونا وحجما ورائحة يخالف به النوع الآخر ، والمعنى مختلفا أكل ثمره ، وانتصب مختلفا على أنه حال مقدرة ; لأنه لم يكن وقت الإنشاء مختلفا . وقيل : هي حال مقارنة ، وذلك بتقدير حذف مضاف قبله ، تقديره : وثمر النخل وحب الزرع ، والضمير في (
أكله ) عائد على ( النخل والزرع ) ، وأفرد لدخوله في حكمه بالعطفية ، قال معناه
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وليس بجيد لأن العطف بالواو لا يجوز إفراد ضمير المتعاطفين . وقال
الحوفي : والهاء في (
أكله ) عائدة على ما تقدم من ذكر هذه الأشياء المنشآت . انتهى . وعلى هذا لا يكون ذو الحال ( النخل والزرع ) فقط بل جميع ما أنشأ لاشتراكها كلها في اختلاف المأكول ، ولو كان كما زعم لكان التركيب : مختلفا أكلها ، إلا إن أخذ ذلك على حذف مضاف ، أي : ثمر جنات ، وروعي هذا المحذوف فقيل : (
أكله ) بالإفراد على مراعاته ، فيكون ذلك نحو قوله : (
أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج ) أو كذي ظلمات ، ولذلك أعاد الضمير في (
يغشاه ) عليه ، والظاهر عوده على أقرب مذكور وهو (
الزرع ) ، ويكون قد حذفت حال ( النخل ) لدلالة هذه الحال عليها ، التقدير : والنخل مختلفا أكله والزرع مختلفا أكله ، كما تأول بعضهم في قولهم : زيد وعمرو قائم ، أي : زيد قائم وعمرو قائم ، ويحتمل أن يكون الحال مختصة بالزرع لأن أنواعه مختلفة الشكل جدا كالقمح والشعير والذرة والقطينة والسلت والعدس والجلبان والأرز وغير ذلك ، بخلاف النخل فإن الثمر لا يختلف شكله إلا بالصغر والكبر ، وتقدم الكلام على قوله : (
والزيتون والرمان متشابها وغير متشابه ) ، فأغنى عن إعادته .
(
كلوا من ثمره إذا أثمر ) لما كان مجيء تلك الآية في معرض الاستدلال بها على الصانع وقدرته ، والحشر وإعادة الأرواح إلى الأجساد بعد العدم ،
[ ص: 237 ] وإبراز الجسد وتكوينه من العظم الرميم ، وهو عجب الذنب ، قال : " انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه " إشارة إلى الإيجاد أولا وإلى غايته ، وهنا لما كان معرض الغاية الامتنان وإظهار الإحسان بما خلق لنا قال : (
كلوا من ثمره ) ، فحصل بمجموعهما الحياة الأبدية السرمدية والحياة الدنيوية السريعة الانقضاء ، وتقدم النظر - وهو الفكر - على الأكل لهذا السبب ، وهذا أمر بإباحة الأكل ، ويستدل به على أن الأصل في المنافع الإباحة والإطلاق ، وقيده بقوله : (
إذا أثمر ) وإن كان من المعلوم أنه إذا لم يثمر فلا أكل ، تنبيها على أنه لا ينتظر به محل إدراكه واستوائه ، بل متى أمكن الأكل منه فعل .
(
وآتوا حقه يوم حصاده ) والذي يظهر عود الضمير على ما عاد عليه من ثمره ، وهو جميع ما تقدم ذكره مما يمكن أن يؤكل إذا أثمر . وقيل : يعود على ( النخل ) ; لأنه ليس في الآية ما يجب أن يؤتى حقه عند جذاذه إلا النخل . وقيل : يعود على (
والزيتون والرمان ) لأنهما أقرب مذكور . وأفرد الضمير للوجوه التي ذكرناها في قوله (
مختلفا أكله ) ، (
وآتوا ) أمر على الوجوب ، وتقدم الأمر بالأكل على الأمر بالصدقة ; لأن تقديم منفعة الإنسان بما يملكه في خاصة نفسه مترجحة على منفعة غيره ، كما قال تعالى : (
ولا تنس نصيبك من الدنيا وأحسن كما أحسن الله إليك ) ، وابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، إنما الصدقة عن ظهر غنى ، والحق هنا مجمل ، واختلف فيه أهو الزكاة أم غيرها ؟ فقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=9وأنس بن مالك والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16248وطاوس nindex.php?page=showalam&ids=11867وجابر بن زيد nindex.php?page=showalam&ids=15990وابن المسيب وقتادة nindex.php?page=showalam&ids=12691ومحمد بن الحنفية nindex.php?page=showalam&ids=16446وابن طاوس والضحاك nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم وابنه
nindex.php?page=showalam&ids=16867ومالك بن أنس : هو الزكاة ، واعترض هذا القول بأن السورة مكية ، وهذه الآية على قول الجمهور غير مستثناة . وحكى
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج أن هذه الآية قيل فيها إنها نزلت
بالمدينة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11958محمد بن علي بن الحسين وهو الباقر ،
وعطاء وحماد ومجاهد وإبراهيم nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير nindex.php?page=showalam&ids=14980ومحمد بن كعب nindex.php?page=showalam&ids=14354والربيع بن أنس nindex.php?page=showalam&ids=17354ويزيد بن الأصم والحكم : هو حق غير الزكاة . وقال
مجاهد : إذا حضر المساكين فاطرح لهم عند الجذاذ وعند التكديس وعند الدرس وعند التصفية ، وعنه أيضا : كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه من مس . وعن
إبراهيم : هو الضغث يطرحه للمساكين ، ولفظ ما يسقط منك من السنبل لا يمنعهم منه . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس nindex.php?page=showalam&ids=12691وابن الحنفية وإبراهيم والحسن nindex.php?page=showalam&ids=16574وعطية العوفي والسدي : أنها منسوخة نسخها العشر ونصف العشر . قال
سفيان : قلت
للسدي : نسخها عن من قال عن العلماء . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12940أبو جعفر النحاس ما ملخصه هل أريد بها الزكاة ، أو نسخت بالزكاة المفروضة ، أو بالعشر ونصف العشر ، أو هي محكمة يراد بها غير الزكاة ، أو ذلك على الندب ؟ خمسة أقوال . وإذا كان معنيا به الزكاة فالظاهر إخراجه من كل ما سبق ذكره ، فيعم جميع ما أخرجته الأرض ، وبه قال
أبو حنيفة وزفر ، إلا الحطب والقصب والحشيش . وقال
أبو يوسف ومحمد : لا شيء فيما أخرجته الأرض إلا ما كان له ثمرة باقية . وقال
مالك :
الزكاة في الثمار والحبوب ، فمن الثمار العنب والزيتون ، ومن الحب القمح والشعير والسلت والذرة والدخن والحمص والعدس واللوبيا والجلبان والأرز وما أشبه ذلك إذا كان خمسة أوسق . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور : يجب في يابس مقتات مدخر لا في زيتون لأنه إدام . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى nindex.php?page=showalam&ids=14117والحسن بن صالح nindex.php?page=showalam&ids=16418وابن المبارك nindex.php?page=showalam&ids=17294ويحيى بن آدم : لا يجب إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب . وعن
أحمد أقوال ، أظهرها كمذهب
أبي حنيفة إذا كان يوثق فأوجبها في اللوز لأنه مكيل ولم يوجبها في الجوز لأنه معدود . وروي عن جماعة من السلف منهم
nindex.php?page=showalam&ids=16705عمرو بن دينار : لا صدقة في الخضر . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : كان يأخذ من دساتيج الكراث العشر
بالبصرة . وعن
إبراهيم : في كل ما أخرجت الأرض حتى في كل عشر دساتيج من بقل واحد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري والحسن : يزكى اثنان الخضر والفواكه إذا أينعت
[ ص: 238 ] وبلغ ثمنها مائتي درهم ، وقاله
nindex.php?page=showalam&ids=13760الأوزاعي في ثمن الفواكه . وأما مقدار ما يجب فيه الزكاة ، فقال
أبو حنيفة : في قليل ما تخرجه الأرض وكثيره . وقال
مالك والليث nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى وأبو يوسف ومحمد nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : لا يخرج حتى يبلغ خمسة أوسق إذا كان مكيلا ، فإن كان غير مكيل ، فعن
أبي يوسف ومحمد اختلاف فيما يعتبر ، وذكروا هنا فروعا ، قالوا : لا زكاة عند أصحاب
مالك في الجوز واللوز والحلوز وما أشبهها وإن كان مدخرا ، كما لا زكاة عندهم في الإجاص والتفاح والكمثرى والمشمش ونحوه مما ييبس ولا يدخر ، وعد
مالك التين في الفواكه . وقال
ابن حبيب : فيه الزكاة ، وإليه ذهب جماعة من أتباع
مالك ،
nindex.php?page=showalam&ids=12429إسماعيل بن إسحاق nindex.php?page=showalam&ids=13658وأبو بكر الأبهري وغيرهم . وقال
مالك : لا زكاة في الزيتون . وقال هو
nindex.php?page=showalam&ids=13790والشافعي : ولا في الرمان . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري nindex.php?page=showalam&ids=13760والأوزاعي nindex.php?page=showalam&ids=16004والثوري والليث : تجب الزكاة في الزيتون . وعن
مالك : لا يخرص الزيتون ولكن يؤخذ العشر من زيته إذا بلغ مكيله خمسة أوسق .
وأبو حنيفة في هذه كلها على أصله . وما خصصوه به من عموم الآية يحتاج إلى دليل ، والأدلة مذكورة في كتب الفقهاء . والظاهر أن (
يوم حصاده ) معمول لقوله (
وآتوا ) ، والمعنى : واقصدوا الإيتاء واهتموا به وقت الحصاد فلا يؤخر عن وقت إمكان الإيتاء فيه . ويجوز أن يكون معمولا لقوله : (
حقه ) ، أي : (
وآتوا ) ما استحق (
يوم حصاده ) ، فيكون الاستحقاق بإيتاء يوم الحصاد والأداء بعد التصفية ; ولذلك قال بعضهم : في الكلام محذوف ، تقديره : وآتوا حقه يوم حصاده إلى تصفيته ، قال : فيكون الحصاد سببا للوجوب الموسع ، والتصفية سبب للأداء ، والظاهر وجوب إخراج الحق منه كله ، ما أكل صاحبه وأهله منه وما تركوه ، وبه قال
أبو حنيفة ومالك . وقال جماعة : لا يدخل ما أكل هو وأهله منه في الحق ، والظاهر أنه أمر بأن يؤتى حقه يوم حصاده ، فلا يخرص عليه . قال
النخعي : الخرص اليوم بدعة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري : الخرص غير مستعمل ولا يجوز بحال ، وإنما على رب الحائط أن يؤدي عشر ما يصل في يده للمساكين إذا بلغ خمسة أوسق . وقرأ العربيان
وعاصم : " حصاده " بفتح الحاء . وقرأ باقي السبعة بكسرها .
(
ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين ) لما أمر تعالى بالأكل من ثماره وبإيتاء حقه ، نهى عن مجاوزة الحد ، فقال : ( لا تسرفوا ) ، وهذا النهي يتضمن إفراد الإسراف فيدخل فيه الإسراف في أكل الثمرة حتى لا يبقى منها شيء للزكاة ، والإسراف في الصدقة بها حتى لا يبقي لنفسه ولا لعياله شيئا ، وقيده
أبو العالية nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج بالصدقة بجميع المال ، فيبقى هو وعياله كلا على الناس . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج أيضا : هو نهي في الأكل ، فيأكل حتى لا يبقى ما تجب فيه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12300الزهري : هو نهي عن النفقة في المعصية . وقيل : في صرف الصدقة إلى غير الجهة التي افترضت ، كما صرف المشركون إلى جهة أصنامهم . وقيل : نهي للعاملين على الصدقة عن أخذ الزائد . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أن
nindex.php?page=showalam&ids=215ثابت بن قيس بن شماس جذ خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا ، فنزلت (
ولا تسرفوا ) ، أي : لا تعطوا كله . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=13036ابن جريج جذ
nindex.php?page=showalam&ids=32معاذ بن جبل ، فلم يزل يتصدق حتى لم يبق منها شيء ، فنزلت ( لا تسرفوا ) . وقال
أبو العالية : كانوا يعطون شيئا عند الجذاذ فتماروا فيه فأسرفوا ، فنزلت . وقال
مجاهد : لو كان
أبو قبيس لرجل ذهبا فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ، ولو أنفق درهما واحدا في معصية الله كان مسرفا . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12444إياس بن معاوية : كل ما جاوزت فيه أمر الله فهو سرف .