(
وإذ قال موسى لقومه إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة ) الآية . وجد قتيل في
بني إسرائيل اسمه
عاميل ، ولم يدروا قاتله ، واختلفوا فيه وفي سبب قتله . فقال
عطاء والسدي : كان القاتل ابن عم المقتول ، وكان مسكينا ، والمقتول كثير المال . وقيل : كان أخاه ، وقيل : ابن أخيه ، ولا وارث له غيره ، فلما طال عليه عمره قتله ليرثه . وقال
عطاء أيضا : كان تحت
عاميل بنت عم لا مثل لها في
بني إسرائيل في الحسن والجمال ، فقتله لينكحها . وطول المفسرون في هذه الحكاية بما يوقف عليه في كتبهم . والذي سأل
موسى البيان هو القاتل ، قاله
أبو العالية . وقال غيره : بل اجتمع القوم فسألوا
موسى ، ووجه مناسبة هذه الآية لما قبلها ، أنه تقدم ذكر مخالفتهم لأنبيائهم وتكذيبهم لهم في أكثر أنبائهم ، فناسب ذلك ذكر هذه الآية لما تضمنت من المراجعة والتعنت والعناد مرة بعد مرة . وقوله : ( وإذ قال ) معطوف على قوله : (
وإذ أخذنا ميثاقكم ) ، وقوم
موسى أتباعه وأشياعه . وقرأ الجمهور : يأمركم بضم الراء ، وعن
أبي عمرو : السكون والاختلاس وإبدال الهمزة ألفا ، وقد تقدم توجيه ذلك عند الكلام على بارئكم ويأمركم بصيغة المضارع ، فيحتمل أن يراد به الحال ، ويحتمل أن يراد به الماضي إن كان الأمر بذبح البقرة بما أنزل الله في التوراة ، أو بما أخبر
موسى ، وأن تذبحوا في موضع المفعول الثاني لـ " يأمر " وهو على إسقاط الحرف ، أي بأن تذبحوا . ولحذف الحرف هنا مسوغان : أحدهما : أنه يجوز فيه إذا
[ ص: 250 ] كان المفعول متأثرا بحرف الجر أن يحذف الحرف ، كما قال :
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به
والثاني : كونه مع إن ، وهو يجوز معها حذف حرف الجر إذا لم يلبس . ودلالة الكلام على أن المأمور به أن تذبحوا بقرة ، فأي بقرة كانت لو ذبحوها لكان يقع الامتثال . وقد روى
الحسن مرفوعا ،
أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " والذي نفس محمد بيده لو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شددوا فشدد الله عليهم " . وإنما اختص البقر من سائر الحيوانات لأنهم كانوا يعظمون البقر ويعبدونها من دون الله ، فاختبروا بذلك ، إذ هذا من الابتلاء العظيم ، وهو أن يؤمر الإنسان بقتل من يحبه ويعظمه ، أو لأنه أراد تعالى أن يصل الخير للغلام الذي كان بارا بأمه . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16258طلحة بن مصرف : لم تكن من بقر الدنيا ، بل نزلت من السماء . وقال بعض أهل العلم : البقر سيد الحيوانات الإنسية .
وقرأ : ( أتتخذنا ) ؟ الجمهور : بالتاء ، على أن الضمير هو
لموسى . وقرأ
عاصم الجحدري ،
وابن محيصن بالياء ، على أن الضمير لله تعالى ، وهو استفهام على سبيل الإنكار .
( هزوا ) ، قرأ
حمزة ،
وإسماعيل ،
وخلف في اختياره ،
والقزاز ، عن
عبد الوارث ،
والمفضل ، بإسكان الزاي . وقرأ
حفص : بضم الزاي والواو بدل الهمز . وقرأ الباقون بضم الزاي والهمزة ، وفيه ثلاث لغات التي قرئ بها ، وانتصابه على أنه مفعول ثان لقوله : (
أتتخذنا هزوا ) ، فإما أن يريد به اسم المفعول ، أي مهزوءا كقوله : درهم ضرب الأمير ، وهذا خلق الله ، أو يكون أخبروا به على سبيل المبالغة ، أي أتتخذنا نفس الهزء ، وذلك لكثرة الاستهزاء ممن يكون جاهلا ، أو على حذف مضاف ، أي مكان هزء ، أو ذوي هزء ، وإجابتهم نبيهم حين أخبرهم عن أمر الله بأن يذبحوا بقرة ، بقولهم : (
أتتخذنا هزوا ) دليل على سوء عقيدتهم في نبيهم وتكذيبهم له ، إذ لو علموا أن ذلك إخبار صحيح عن الله تعالى ، لما كان جوابهم إلا امتثال الأمر ، وجوابهم هذا كفر
بموسى . وقال بعض الناس : كانوا مؤمنين مصدقين ، ولكن جرى هذا على نحو ما هم عليه من غلظ الطبع والجفاء والمعصية . والعذر لهم أنهم لما طلبوا من
موسى تعيين القاتل فقال لهم : (
إن الله يأمركم أن تذبحوا ) ، رأوا تباينا ما بين السؤال والجواب وبعده ، فتوهموا أن
موسى داعبهم ، وقد لا يكون أخبرهم في ذلك الوقت بأن القتيل يضرب ببعض البقرة المذبوحة فيحيا ويخبر بمن قتله ، أو يكون أخبرهم بذلك ، فتعجبوا من إحياء ميت ببعض ميت ، فظنوا أن ذلك يجري مجرى الاستهزاء . وقيل : في الكلام محذوف تقديره : آلله أمرك أن تتخذنا هزوا ؟ وقيل : هو استفهام حقيقة ليس فيه إنكار ، وهو استفهام استرشاد لا استفهام إنكار وعناد .
(
قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) لما فهم
موسى - عليه السلام - عنهم أن تلك المقالة التي صدرت عنهم إنما هي لاعتقادهم فيها أنه أخبر عن الله بما لم يأمر به ، استعاذ بالله وهو الذي أخبر عنه ، أن يكون من الجاهلين بالله ، فيخبر عنه بأمر لم يأمر به تعالى ، إذ الإخبار عن الله تعالى بما لم يخبر به الله إنما يكون ذلك من الجهل بالله تعالى . وقوله : من الجاهلين فيه تصريح أن ثم جاهلين ، واستعاذ بالله أن يكون منهم ، وفيه تعريض أنهم جاهلون ، وكأنه قال : أن أكون منكم ، لأنهم جوزوا على من هو معصوم من الكذب ، وخصوصا في التبليغ عن الله أن يخبر عن الله بالكذب . قالوا : والجهل بسيط ، ومركب . البسيط : عام وخاص . العام : عدم العلم بشيء من المعلومات ، والخاص : عدم العلم ببعض المعلومات ، والمركب : أن يجهل ، ويجهل أنه يجهل . فالعام والمركب لا يوصف بهما من له بعض علم ، فضلا عن نبي شرف بالرسالة والتكليم ، وذلك مستحيل عليه ، فيستحيل أن يستعيذ منه إلا على سبيل الأدب . فالذي استعاذ منه
موسى هو خاص ، وهو المفضي إلى أن يخبر عن الله تعالى مستهزئا ، أو المقابل لجهلهم . فقالوا : أتتخذنا هزوا لمن يخبرهم عن الله ، أو معناه الاستهزاء بالمؤمنين . فإن ذلك جهل ، أو من الجاهلين
[ ص: 251 ] بالجواب ، لا على وفق السؤال ، إذ ذاك جهل ، والأمر من تلقاء نفسي ، وأنسبه إلى الله ، والخروج عن جواب السائل المسترشد إلى الهزء فإن ذلك جهل . وهذه الوجوه الستة مستحيلة على
موسى . قيل : وإنما استعاذ منها بطريق الأدب ، كما استعاذ
نوح - عليه السلام - (
أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم ) ، وكما في : (
وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين ) ، وإنما قالوا ذلك بطريق الأدب مع الله والتواضع له .