(
ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم ) : ( من ) هنا سببية ، أي : من فقر ، لقوله (
خشية إملاق ) ، وقتل الولد حرام إلا بحقه ، وإنما ذكر هذا السبب لأنه كان العلة في قتل الولد عندهم ، وبين تعالى أنه هو الرازق لهم ولأولادهم ، وإذا كان هو الرازق فكما لا تقتل نفسك كذلك لا تقتل ولدك . ولما أمر تعالى بالإحسان إلى الوالدين نهى عن الإساءة إلى الأولاد ، ونبه على
أعظم الإساءة للأولاد هو إعدام حياتهم بالقتل خوف الفقر ، كما قال في الحديث وقد سئل عن أكبر الكبائر فذكر الشرك بالله ، وهو قوله : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10373807أن تجعل لله ندا وهو خلقك " ثم قال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374403وأن تقتل ولدك مخافة أن يطعم معك " وقال : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10369615وأن تزاني حليلة جارك " ، وجاء هذا الحديث منتزعا من هذه الآية ، وجاء التركيب هنا (
نحن نرزقكم وإياهم ) ، وفي الإسراء (
نحن نرزقهم وإياكم ) ، فيمكن أن يكون ذلك من التفنن في الكلام ، ويمكن أن يقال في هذه الآية : جاء (
من إملاق ) ، فظاهره حصول الإملاق للوالد لا توقعه وخشيته ، وإن كان واجدا للمال ، فبدأ أولا بقوله : (
نحن نرزقكم ) خطابا للآباء وتبشيرا لهم بزوال الإملاق وإحالة الرزق على الخلاق الرزاق ، ثم عطف عليهم الأولاد . وأما في الإسراء فظاهر التركيب أنهم موسرون ، وأن قتلهم إياهم إنما هو لتوقع حصول الإملاق والخشية منه ، فبدئ فيه بقوله : (
نحن نرزقهم ) إخبارا بتكفله تعالى برزقهم ، فلستم أنتم رازقيهم ، وعطف عليهم الآباء ، وصارت الآيتان مفيدتين معنيين . أحدهما أن الآباء نهوا عن قتل الأولاد مع وجود إملاقهم . والآخر أنهم نهوا عن قتلهم وإن كانوا موسرين لتوقع الإملاق وخشيته ، وحمل
[ ص: 252 ] الآيتين على ما يفيد معنيين أولى من التأكيد .
(
ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ) المنقول فيما (
منها وما بطن ) كالمنقول في (
وذروا ظاهر الإثم وباطنه ) وتقدم فأغنى عن إعادته . (
ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ) هذا مندرج تحت عموم الفواحش إذ الأجود أن لا يخص الفواحش بنوع ما ، وإنما جرد منها قتل النفس تعظيما لهذه الفاحشة واستهوالا لوقوعها ولأنه لا يتأتى الاستثناء بقوله : (
إلا بالحق ) إلا من القتل لا من عموم الفواحش ، وقوله : (
التي حرم الله ) حوالة على سبق العهد في تحريمها فلذلك وصفت بالتي ، والنفس المحرمة هي المؤمنة والذمية والمعاهدة و (
بالحق ) بالسبب الموجب لقتلها كالردة والقصاص والزنا بعد الإحصان والمحاربة . (
ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون ) أشار إلى جميع ما تقدم وفي لفظ (
وصاكم ) من اللطف والرأفة وجعلهم أوصياء له تعالى ما لا يخفى من الإحسان ، ولما كان العقل مناط التكليف قال تعالى : (
لعلكم تعقلون ) أي فوائد هذه التكاليف ومنافعها في الدين والدنيا والوصاة الأمر المؤكد المقرر . وقال
الأعشى :
أجدك لم تسمع وصاة محمد نبي الإله حين أوصى وأشهدا
(
ولا تقربوا مال اليتيم ) هذا نهي عن القرب الذي يعم جميع وجوه التصرف ، وفيه سد الذريعة (
إلا بالتي هي أحسن ) أي بالخصلة التي هي أحسن في حق اليتيم ولم يأت إلا " بالتي هي حسنة " ، بل جاء بأفعل التفضيل مراعاة لمال اليتيم وأنه لا يكفي فيه الحالة الحسنة بل الخصلة الحسنى وأموال الناس ممنوع من قربانها ، ونص على (
اليتيم ) لأن الطمع فيه أكثر لضعفه وقلة مراعاته . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وابن زيد (
التي هي أحسن ) هو أن يعمل له عملا مصلحا فيأكل منه بالمعروف وقت الحاجة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : حفظه وزيادته ، وقال
الضحاك : حفظ ربحه بالتجارة ولا يأخذ منه شيئا ، وقال
مجاهد : التي هي أحسن التجارة فمن كان من الناظرين له مال يعيش به فالأحسن إذا أثمر مال اليتيم أن لا يأخذ منه نفقة ولا أجرة ولا غيرها ، ومن كان من الناظرين لا مال له ولا يتفق له نظر إلا بأن ينفق على نفسه أنفق من ربح نظره . وقيل : الانتفاع بدوابه واستخدام جواريه لئلا يخرج الأولياء بالمخالطة . ذكره
المروزي . وقيل لا يأكل منه إلا قرضا وهذا بعيد وأي أحسنية في هذا . (
حتى يبلغ أشده ) هذه غاية من حيث المعنى لا من حيث هذا التركيب اللفظي ، ومعناه احفظوا على اليتيم ماله إلى بلوغ أشده فادفعوه إليه . وبلوغ الأشد هنا لليتيم هو بلوغ الحلم . قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي nindex.php?page=showalam&ids=15944وزيد بن أسلم nindex.php?page=showalam&ids=17344ويحيى بن يعمر وربيعة ومالك . وحكى
ابن عطية عن
nindex.php?page=showalam&ids=14577الشعبي وربيعة ومالك وأبي حنيفة إنه البلوغ مع أنه لا يثبت فسقه وقد نقل في تفسير الأشد أقوال لا يمكن أن تجيء هنا وكأنها نقلت في قوله (
ولما بلغ أشده ) فعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ما بين ثماني عشرة إلى ثلاثين ، وعنه ثلاث وثلاثون ، وعن
ابن جبير ومقاتل : ثماني عشرة ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : ثلاثون ، وعن
nindex.php?page=showalam&ids=16004الثوري : أربع وثلاثون ، وعن
عكرمة : خمس وعشرون ، وعن
عائشة : أربعون ، وعن
أبي العالية : عقله واجتماع قوته ، وعن بعضهم : من خمسة عشر إلى ثلاثين ، وعن بعضهم : ستون سنة
[ ص: 253 ] ذكره
البغوي . وأشد جمع شدة أو شد أو شد أو جمع لا واحد له من لفظه أو مفرد لا جمع له ، أقوال خمسة ، اختار
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري في آخرين الأخير وليس بمختار لفقدان أفعل في المفردات وضعا وأشد مشتق من الشدة وهي القوة والجلادة . وقيل : أصله الارتفاع من شد النهار إذا ارتفع . قال
عنترة :
عهدي به شد النهار كأنما خضب اللبان ورأسه بالعظلم
(
وأوفوا الكيل والميزان بالقسط ) أي بالعدل والتسوية . وقيل : القسط هنا أدنى زيادة ليخرج بها عن العهدة بيقين لما روي : إذا وزنتم فأرجحوا (
لا نكلف نفسا إلا وسعها ) أي إلا ما يسعها ولا تعجز عنه ، ولما كانت مراعاة الحد من القسط الذي لا زيادة فيه ولا نقصان يجري فيها الحرج ذكر بلوغ الوسع وأن ما وراءه معفو عنه ، فالواجب في إيفاء الكيل والميزان هو القدر الممكن وأما التحقيق فغير واجب قال معناه
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري . وقيل : المعنى لا نكلف ما فيه تلفه وإن جاز كقوله : (
أن اقتلوا أنفسكم ) فعلى هذا لا يكون راجعا إلى إيفاء الكيل والميزان ، ولذلك قال
ابن عطية : يقتضي أن هذه الأوامر إنما هي فيما يقع تحت قدرة البشر من التحفظ والتحرز لا أنه مطالب بغاية العدل في نفس الشيء المتصرف فيه . (
وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى ) أي ولو كان المقول له أو عليه ذا قرابة للقائل فلا ينبغي أن يزيد ولا ينقص ، ويدخل في ذي القربى نفس القائل ووالداه وأقربوه ، فهو ينظر إلى قوله : (
ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين ) وعنى بالقول هنا ما لا يطلع عليه إلا بالقول من أمر وحكم وشهادة زجر ووساطة بين الناس وغير ذلك لكونها منوطة بالقول ، وتخصيصه بالحكم أو بالأمر أو بالشهادة ، أقوال لا دليل عليها على التخصيص . (
وبعهد الله أوفوا ) ويحتمل أن يكون مضافا إلى الفاعل أي بما عهدكم الله عليه أوفوا ، وأن يكون مضافا إلى المفعول أي بما عهدتم الله عليه . وقيل : يحتمل أن يراد به العهد بين الإنسانين وتكون إضافته إلى الله تعالى من حيث أمر بحفظه والوفاء به . قال
الماتريدي : أمره ونهيه في التحليل والتحريم . وقال
التبريزي : بعهده يوم الميثاق . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11890ابن الجوزي : يشمل ما عهده إلى الخلق وأوصاهم به وعلى ما أوجبه الإنسان على نفسه من نذر وغيره . (
ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون ) ولما كانت الخمسة المذكورة قبل هذا من الأمور الظاهرة الجلية وجب تعلقها وتفهمها فختمت بقوله : (
لعلكم تعقلون ) وهذه الأربعة خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد والذكر الكثير حتى يقف على موضع الاعتدال ختمت بقوله : (
لعلكم تذكرون ) . وقرأ
حفص والأخوان ( تذكرون ) حيث وقع بتخفيف الذال حذفت التاء إذ أصله تتذكرون ، وفي المحذوف خلاف أهي تاء المضارعة أو تاء تفعل . وقرأ باقي السبعة ( تذكرون ) بتشديده أدغم تاء تفعل في الذال .