صفحة جزء
( قالوا إنا إلى ربنا منقلبون ) هذا تسليم واتكال على الله تعالى وثقة بما عنده ، والمعنى : إنا نرجع إلى ثواب ربنا يوم الجزاء على ما نلقاه من الشدائد ، أو إنا ننقلب إلى لقاء ربنا ورحمته ، وخلاصنا منك ومن لقائك ، أو إنا ميتون منقلبون إلى الله فلا نبالي بالموت إذ لا تقدر أن تفعل بنا إلا ما لا بد لنا منه ، فالانقلاب الأول يكون المراد به يوم الجزاء ، وهذان الانقلابان المراد بهما في الدنيا ، ويبعد أن يراد بقوله : ( وإنا ) ضمير أنفسهم وفرعون ، أي : ننقلب إلى الله جميعا فيحكم بيننا لقوله : ( وما تنقم منا ) فإن هذا الضمير يخص مؤمني السحرة ، والأولى اتحاد الضمائر ، والذي أجاز هذا الوجه هو الزمخشري ، وفي قولهم ( إلى ربنا ) تبرؤ من فرعون ومن ربوبيته ، وفي الشعراء : لا ضير ؛ لأن هذه السورة اختصرت فيها القصة واتسعت في الشعراء ، ذكر فيها أحوال فرعون من أولها إلى آخرها فبدأ بقوله : ( ألم نربك فينا وليدا ) وختم بقوله : ( ثم أغرقنا الآخرين ) فوقع فيها زوائد لم تقع في هذه السورة ، ولا في طه . قاله الكرماني .

( وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا ) قال الضحاك : وما تطعن علينا ، وقال غيره : وما تكره منا ، وقال الزمخشري : وما تعيب منا ، وقال ابن عطية : وما تعد علينا ذنبا وتؤاخذنا به وعلى هذه التأويلات يكون قوله : ( إلا أن آمنا ) في موضع المفعول ويكون من الاستثناء المفرغ من المفعول ، وجاء هذا التركيب في القرآن كقوله : ( قل ياأهل الكتاب هل تنقمون منا ) ( وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا ) ، وهذا الفعل في لسان العرب يتعدى بعلى تقول نقمت على الرجل أنقم إذا غلب عليه ، والذي يظهر من تعديته بمن أن المعنى وما تنقم منا ، أي : ما تنال منا كقوله : فينتقم الله منه ، أي : يناله بمكروه ، ويكون فعل وافتعل فيه بمعنى واحد ، كقدر واقتدر ، وعلى هذا يكون قوله : ( إلا أن آمنا ) مفعولا من أجله ، واستثناء مفرغا ، أي : ما تنال منا وتعذبنا لشيء من الأشياء إلا لأن آمنا بآيات ربنا وعلى هذا المعنى يدل تفسير عطاء ، قال عطاء : أي : ما لنا عندك ذنب تعذبنا عليه إلا أنا آمنا ، والآيات المعجزات التي أتى بها موسى - عليه السلام - ومن جعل لما ظرفا جعل العامل فيها ( أن آمنا ) ومن جعلها حرفا جعل جوابها محذوفا لدلالة ما قبله عليه ، أي : لما جاءتنا آمنا ، وفي كلامهم هذا تكذيب لفرعون في ادعائه الربوبية ، وانسلاخ منهم عن اعتقادهم ذلك فيه والإيمان بالله هو أصل المفاخر والمناقب ، وهذا الاستثناء شبيه بقوله :


ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم بهن فلول من قراع الكتائب



وقرأ الحسن ، وأبو حيوة ، وأبو اليسر هاشم ، وابن أبي عبلة ( وما تنقم ) بفتح القاف مضارع نقم بكسرها ، وهما لغتان والأفصح قراءة الجمهور .

التالي السابق


الخدمات العلمية