(
أولا يعلمون أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون ) : هذا توبيخ من الله لهم ، أي إذا كان علم الله محيطا بجميع أفعالهم ، وهم عالمون بذلك ، فكيف يسوغ لهم أن ينافقوا ويتظاهروا للمؤمنين بما يعلم الله منهم خلافه ، فلا يجامع حالة نفاقهم بحالة علمهم بأن الله عالم بذلك ، والأولى حمل ما يسرون وما يعلنون على العموم ، إذ هو ظاهر اللفظ . وقيل : الذي أسروه الكفر ، والذي أعلنوه الإيمان . وقيل : العداوة والصداقة . وقيل : قولهم لشياطينهم إنا معكم ، وقولهم للمؤمنين آمنا . وقيل : صفة النبي - صلى الله عليه وسلم - وتغيير صفته إلى صفة أخرى ، حتى لا تقوم عليهم الحجة . وقرأ
ابن محيصن : أولا تعلمون بالتاء ، قالوا : فيكون ذلك خطابا للمؤمنين ، وفيه تنبيه لهم على جهلهم بعالم السر والعلانية ، ويحتمل أن يكون خطابا لهم ، وفائدته التنبيه على سماع ما يأتي بعده ، ثم أعرض عن خطابهم وأعاد الضمير إلى الغيبة ، إهمالا لهم ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، ويكون حكمته في الحالتين ما ذكرناه . وقد تقدم لنا أن مثل (
أفلا تعقلون ) ، (
أولا يعلمون ) ، أن الفاء والواو فيهما للعطف ، وأن
[ ص: 275 ] أصلهما أن يكونا أول الكلام ، لكنه اعتنى بهمزة الاستفهام ، فقدمت . وذكرنا طريقة
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في ذلك ، فأغنى عن إعادته . و (
أن الله يعلم ) : يحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفرد ، إذا قلنا : إن يعلمون متعد إلى واحد كعرف ، ويحتمل أن يكون مما سدت فيه أن مسد المفعولين ، إذا قلنا : إن يعلمون متعد إلى اثنين ، كظننت ، وهذا على رأي
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه . وأما
الأخفش ، فإنها تسد عنده مسد مفعول واحد ، ويجعل الثاني محذوفا ، وقد تقدم لنا ذكر هذا الخلاف ، والعائد على " ما " محذوف تقديره : يسرونه ويعلنونه . وظاهر هذا الاستفهام أنه تقرير لهم أنهم عالمون بذلك ، أي بأن الله يعلم السر والعلانية ، أي قد علموا ذلك ، فلا يناسبهم النفاق والتكذيب بما يعلمون أنه الحق . وقيل : ذلك تقريع لهم وحث على التفكر ، فيعلمون بالتفكر ذلك . وذلك أنهم لما اعترفوا بصحة التوراة ، وفيها ما يدل على نبوة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لزمهم الاعتراف بالربوبية ، ودل على أن المعصية ، مع علمهم بها ، أقبح .
وفي هذه الآية وما أشبهها دليل على أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يغضي عن المنافقين ، مع أن الله أظهره على نفاقهم ، وذلك رجاء أن يؤمنوا ، فأغضى عنهم ، حتى قبل الله منهم من قبل ، وأهلك من أهلك . واختلف ، هل هذا الحكم باق ، أو نسخ ؟ فقال قوم : نسخ ؛ لأنه كان يفعل ذلك - صلى الله عليه وسلم - تأليفا للقلوب . وقد أعز الله الإسلام وأغنى عنهم ، فلا حاجة إلى التأليف . وقال قوم : هو باق إلى الآن ؛ لأن أهل الكفر أكثر من أهل الإيمان ، فيحتاجون إلى زيادة الأنصار وكثرة عددهم ، والأول هو الأشهر . وفي قوله : (
يعلم ما يسرون وما يعلنون ) ، حجة على من زعم أن الله لا يعلم الجزئيات ، بل يعلم الكليات .
(
ومنهم أميون ) : ظاهر الكلام أنها نزلت في
اليهود المذكورين في الآية التي قبل هذه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس . وقيل : في المجوس ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب . وقيل : في
اليهود والمنافقين . وقال
عكرمة والضحاك : في نصارى العرب ، فإنهم كانوا لا يحسنون الكتابة . وقيل : في قوم من
أهل الكتاب ، رفع كتابهم لذنوب ارتكبوها ، فصاروا أميين . وقيل : في قوم لم يؤمنوا بكتاب ولا برسول ، فكتبوا كتابهم وقالوا : هذا من عند الله ، فسموا : أميين ، لجحودهم الكتاب ، فصاروا بمنزلة من لا يحسن شيئا . والقول الأول هو الأظهر ؛ لأن سياق الكلام إنما هو مع اليهود ، فالضمير لهم .
ومناسبة ارتباط هذه الآية : أنه لما بين أمر الفرقة الضالة التي حرفت كتاب الله ، وهم قد عقلوه وعلموا بسوء مرتكبهم ، ثم بين أمر الفرقة الثانية ، المنافقين ، وأمر الثالثة ، المجادلة ، أخذ يبين أمر الفرقة الرابعة ، وهي : العامة التي طريقها التقليد ، وقبول ما يقال لهم . قال
أبو العالية ومجاهد وغيرهما : ومن هؤلاء
اليهود المذكورون ، فالآية منبهة على عامتهم وأتباعهم ، أي أنهم لا يطمع في إيمانهم . وقرأ
أبو حيوة ،
nindex.php?page=showalam&ids=12356وابن أبي عبلة : أميون ، بتخفيف الميم ، وقد تقدم أن الأمي هو الذي لا يكتب ولا يقرأ في كتاب ، أي لا يحسنون الكتب ، فيطالعوا التوراة ويتحققوا ما فيها .
و (
لا يعلمون الكتاب ) : جملة في موضع الصفة ، والكتاب هو التوراة .
(
إلا أماني ) : استثناء منقطع ؛ لأن الأماني ليست من جنس الكتاب ولا مندرجة تحت مدلوله ، وهو أحد قسمي الاستثناء المنقطع ، وهو الذي يتوجه عليه العامل . ألا ترى أنه لو قيل لا يعلمون إلا أماني لكان مستقيما ؟ وهذا النوع من الاستثناء يجوز فيه وجهان ، أحدهما : النصب على الاستثناء ، وهي لغة
أهل الحجاز ، والوجه الثاني : الإتباع على البدل بشرط التأخر ، وهي لغة
تميم . فنصب " أماني " من الوجهين ، والمعنى : إلا ما هم عليه من أمانيهم ، وأمانيهم : أن الله يعفو عنهم ويرحمهم ولا يؤاخذهم بخطاياهم ، وأن آباءهم الأنبياء يشفعون لهم ، أو ما يمنيهم أحبارهم من أن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة ، أو لا يعلمون إلا أكاذيب مختلقة سمعوها من علمائهم فنقلوها على التقليد ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ومجاهد ، واختاره
الفراء . وقيل : معناه إلا تلاوة ، أي لا يعلمون فقه
[ ص: 276 ] الكتاب ، إنما يقتصرون على ما يسمعونه يتلى عليهم . قال
أبو مسلم : حمله على تمني القلب أولى ، لقوله تعالى : (
وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم ) . وقرأ الجمهور : أماني ، بالتشديد . وقرأ
أبو جعفر وشيبة nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج وابن جماز عن
نافع وهارون ، عن
أبي عمرو : أماني بالتخفيف ، جمعه على أفاعل ، ولم يعتد بحرف المد الذي في المفرد . قال
أبو حاتم : كل ما جاء من هذا النحو واحده مشدد ، فلك فيه التشديد والتخفيف مثل : أناني ، وأغاني ، وأماني ، ونحوه . قال
الأخفش هذا ، كما يقال في جمع مفتاح مفاتيح ومفاتح ، وقال
النحاس : الحذف في المعتل أكثر ، كما قال :
وهل رجع التسليم أو يكشف العمى ثلاث الأثافي والرسوم البلاقع
(
وإن هم إلا يظنون ) ، إن هنا : هي النافية ، بمعنى ما ، وهم : مرفوع بالابتداء ، وإلا يظنون : في موضع الخبر ، وهو من الاستثناء المفرغ . وإذا كانت إن نافية ، فدخلت على المبتدأ والخبر ، لم يعمل عمل ما الحجازية ، وقد أجاز ذلك بعضهم ، ومن أجاز شرط نفي الخبر وتأخيره ، والصحيح أنه لا يجوز ؛ لأنه لم يحفظ من ذلك إلا بيت نادر وهو :
إن هو مستوليا على أحد إلا على أضعف المجانين
وقد نسب
السهيلي وغيره إلى
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه جواز إعمالها إعمال ما ، وليس في كتابه نص على ذلك . ومعنى يظنون ، قال
مجاهد : يكذبون ، وقال آخرون : يتحدثون ، وقال آخرون : يشكون ، وهو التردد بين أمرين ، لا يترجح أحدهما على الناظر فيهما ، والأولى حمله على موضوعه الأصلي ، وهو الترجيح لأحد الأمرين على الآخر ، إذ لا يمكن حمله على اليقين ، ولا يلزم من الترجيح عندهم أن يكون ترجيحا في نفس الأمر . وقال
مقاتل : معناه ليسوا على يقين ، إن كذب الرؤساء ، أو صدقوا ، بايعوهم . انتهى كلامه . وأتى بالخبر فعلا مضارعا ، ولم يأت باسم الفاعل ؛ لأنه يدل على حدوث الظن وتجدده لهم شيئا فشيئا ، فليسوا ثابتين على ظن واحد ، بل يتجدد لهم ظنون دالة على اضطراب عقائدهم واختلاف أهوائهم . وفي هذه الآية دليل على أن المعارف كسبية ، وعلى بطلان التقليد ، وعلى أن المغتر بإضلال المضل مذموم ، وعلى أن الاكتفاء بالظن في الأصول غير جائز ، وعلى أن القول بغير دليل باطل ، وعلى أن ما تساوى وجوده وعدمه لا يجوز المصير إلى أحدهما إلا بدليل سمعي ، وتمسك بها أيضا منكرو القياس وخبر الواحد ، لأنهما لا يفيدان العلم .