إن ربك لسريع العقاب . إخبار يتضمن سرعة إيقاع العذاب بهم .
وإنه لغفور رحيم . ترجية لمن آمن منهم ومن غيرهم ووعد لمن تاب وأصلح
وقطعناهم في الأرض أمما منهم الصالحون ومنهم دون ذلك . أي فرقا متباينين في أقطار الأرض ، فقل أرض لا يكون منهم فيها شرذمة ، وهذا حالهم في كل مكان تحت الصغار والذلة ، سواء كان أهل تلك الأرض مسلمين أم كفارا ، وأمما حال ، وقال
الحوفي : مفعول ثان ، وتقدم قوله هذا في : قطعناهم اثنتي عشرة ، والصالحون من آمن منهم
بعيسى ومحمد عليهما السلام ، أو من آمن بالمدينة ، ومنهم منحطون عن الصالحين ، وهم الكفرة ، وذلك إشارة إلى الصلاح ، أي : ومنهم دون أهل الصلاح ؛ لأنه لا يعتدل التقسيم إلا على هذا التقدير من حذف مضاف ، أو يكون ذلك المعنى به أولئك ، فكأنه قال ومنهم
[ ص: 415 ] قوم دون أولئك ، وقد ذكر النحويون أن اسم الإشارة المفرد قد يستعمل للمثنى والمجموع ، فيكون ذلك بمعنى أولئك على هذه اللغة ويعتدل التقسيم ، والصالحون ودون ذلك ألفاظ محتملة ، فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك يراد به الكفار ، وإن أريد بالصلاح العبادة والخير وتوابع الإيمان كان دون ذلك في مؤمنين لم يبلغوا رتبة الصلاح الذي لأولئك ، والظاهر الاحتمال الأول لقوله : لعلهم يرجعون ، إذ ظاهر قوله : وبلوناهم أنهم القوم الذين هم دون أولئك ، وهو من ثبت على اليهودية وخرج من الإيمان ، ودون ذلك ظرف أصله للمكان ، ثم يستعمل للانحطاط في المرتبة ، وقال
ابن عطية : فإن أريد بالصلاح الإيمان فدون ذلك بمعنى غير يراد بها الكفرة ، انتهى ، فإن أراد أن دون ترادف غيرا فهذا ليس بصحيح ، وإن أراد أنه يلزم ممن كان دون شيء أن يكون غيرا فصحيح ، ودون ظرف في موضع رفع نعت لمنعوت محذوف ، ويجوز في التفصيل بمن حذف الموصوف وإقامة صفته مقامه نحو هذا ، ومنه قولهم : منا ظعن ومنا أقام .
وبلوناهم بالحسنات والسيئات . أي بالصحة والرخاء والسعة ، والسيئات مقابلاتها .
لعلهم يرجعون إلى الطاعة ويتوبون عن المعصية .
فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا . أي حدث من بعد المذكورين خلف ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : يقال للقرن الذي يجيء بعد القرن خلف ، وقال
الفراء : الخلف القرن ، والخلف من استخلفه ، وقال
ثعلب : الناس كلهم يقولون : خلف صدق للصالح وخلف سوء للطالح . ومنه قول الشاعر :
ذهب الذين يعاش في أكنافهم وبقيت في خلف كجلد الأجرب
والمثل : سكت ألفا ونطق خلفا ، أي : سكت طويلا ثم تكلم بكلام فاسد ، وعن
الفراء : الخلف يذهب به إلى الذم والخلف خلف صالح . وقال الشاعر :
خلفت خلفا ولم تدع خلفا كنت بهم كان لا بك التلفا
وقد يكون في الردى خلف ، وعليه قوله :
ألا ذلـك الخلــف الأعــور
، وفي الصالح خلف ، وعلى هذا بيت
حسان :
لنا القدم الأولى عليهم وخلفنا لأولنا في طاعة الله تابع
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=12758ابن السكيت : يقال هذا خلف صدق وهذا خلف سوء ، ويجوز هؤلاء خلف صدق وهؤلاء خلف سوء ، واحده وجمعه سواء ، وقال الشاعر :
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف
[ ص: 416 ] انتهى ، وقد جمع في الردى بين اللغتين في هذا البيت ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=15409النضر بن شميل : التحريك والإسكان معا في القرآن الردى ، وأما الصالح فبالتحريك لا غير ، وأكثر أهل اللغة على هذا إلا
الفراء وأبا عبيدة فإنهما أجازا الإسكان في الصالح ، والخلف إما مصدر خلف ، ولذلك لا يثنى ولا يجمع ولا يؤنث ، وإن ثني وجمع وأنث ما قبله ، وأما جمع خالف كراكب وركب وشارب وشرب ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12590ابن الأنباري ، وليس بشيء لجريانه على المفرد واسم الجمع لا يجري على المفرد ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وابن زيد : هنا هم
اليهود ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وهم الذين كانوا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورثوا الكتاب : التوراة ، بقيت في أيديهم بعد سلفهم يقرأونها ويقفون على ما فيها من الأوامر والنواهي والتحريم والتحليل ولا يعملون بها ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : هم أبناء
اليهود ، وعن
مجاهد أنهم
النصارى ، وعنه أنهم هؤلاء الأمة ، وقرأ
الحسن : ورثوا ، بضم الواو وتشديد الراء ، وعلى الأقوال يتخرج الكتاب أهو التوراة أو الإنجيل والقرآن ، وعرض هذا الأدنى هو ما يأخذونه من الرشا والمكاسب الخبيثة ، والعرض ما يعرض ولا يثبت ، وفي قوله : عرض هذا الأدنى تخسيس لما يأخذونه وتحقير له ، وأنهم مع علمهم بما في كتابهم من الوعيد على المعاصي يقدمون لأجل العامة على تبديل الكتاب وتحريفه كما قال تعالى :
ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا والأدنى من الدنو ، وهو القرب ؛ لأن ذلك قريب منقض زائل ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وإما من دنو الحال وسقوطها وقلتها ، ويقولون سيغفر لنا ، قطع على الله بغفران معاصيهم ، أي : لا يؤاخذنا الله بذلك ، والمناسب إذ ورثوا الكتاب أن يعملوا بما فيه ، وأنه إن قضي عليهم بالمعصية أن لا يجزموا بالمغفرة وهم مصرون على ارتكابها ، ولنا في موضع المفعول الذي لم يسم فاعله ، وقيل ضمير مصدر يأخذون ، أي : سيغفر هو أي الأخذ لنا .
وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه . الظاهر أن هذا استئناف إخبار عنهم بانهماكهم في المعاصي وإن أمكنهم الرشا والمكاسب الخبيثة لم يتوقفوا عن أخذها ثانية ، ودائما فهم مصرون على المعاصي غير مكترثين بالوعيد كما جاء ، والفاجر من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله ، والعرض بفتح الراء متاع الدنيا ، قاله
أبو عبيدة ، يقال : إن الدنيا عرض حاضر يأخذ منها البر والفاجر ، والعرض بسكون الراء الدراهم والدنانير التي هي رءوس الأموال وقيم المتلفات ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=14468السدي : كانوا يعيرون القاضي فإذا ولى المعير ارتشى ، وقيل : كانوا لو أتاهم من الخصم الأجر رشوة أخذوها ونقضوا بالرشوة الثانية ما قضوا بالرشوة الأولى . وقال الشاعر :
إذا ما صب في القنديل زيت تحولت القضية للمقندل
وقال آخر :
لم يفتح الناس أبوابا ولا عرفوا أجدى وأنجح في الحاجات من طبق
إذا تعمم بالمنديل في طبق لم يخش نبوة بواب ولا غلق ولهذه الأمة من هذه الآية نصيب وافر . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374443لتسلكن سنن من قبلكم ، ومن اختبر حال علمائها وقضاتها ومفتيها شاهد بالعيان ما أخبر به الصادق ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : الواو للحال - يعني في وإن يأتهم - أي يرجون المغفرة وهم مصرون عائدون إلى مثل قولهم غير ناسين ، وغفران الذنوب لا يصح إلا بالتوبة ، والمصر لا غفران له ، انتهى ، وحمله على جعل الواو للحال لا للعطف مذهب الاعتزال ، والظاهر ما قدمناه ، ولا يرد عليه بأن جملة الشرط لا تقع حالا لأن ذلك جائز .
ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتـاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه . هذا توبيخ وتقرير لما تضمنه الكتاب من أخذ الميثاق أنهم لا يكذبون على الله . قال
ابن زيد : كان يأتيهم المحق برشوة
[ ص: 417 ] فيخرجون له كتاب الله ويحكمون له به ، فإذا جاء المبطل أخذوا منه الرشوة وأخرجوا كتابهم الذي كتبوه بأيديهم وحكموا له ، وأضيف الميثاق إلى الكتاب لأنه ذكر فيه أن لا يقولوا على الله إلا الحق ، وقال بعضهم : هو قولهم (
سيغفر لنا ) ولا يتعين ذلك بل هو أعم من هذا القول وغيره ، فيندرج فيه الجزم بالغفران وغيره ، وأن لا يقولوا في موضع رفع على البدل من ميثاق الكتاب ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : هو عطف بيان لميثاق الكتاب ، ومعناه الميثاق المذكور في الكتاب ، وفيه أن إثبات المغفرة بغير توبة خروج عن ميثاق الكتاب وافتراء على الله تعالى وتقول ما ليس بحق عليه ، وإن فسر ميثاق الكتاب بما تقدم ذكره كان أن لا يقولوا مفعولا له ، ومعناه لئلا يقولوا ، ويجوز أن تكون مفسرة ولا يقولوا نهيا ، كأنه قيل : ألم يقل لكم لا تقولوا على الله إلا الحق ، وقال أيضا قبل ذلك ميثاق الكتاب يعني قوله في التوراة : من ارتكب ذنبا عظيما فإنه لا يغفر له إلا بالتوبة ، ودرسوا ما فيه أي ما في الكتاب من اشتراط التوبة في غفران الذنوب ، والذي عليه هوى المجبر هو مذهب
اليهود بعينه كما ترى . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16871مالك بن دينار رحمه الله : يأتي على الناس زمان إن قصروا عما أمروا به قالوا : سيغفر لنا لن نشرك بالله شيئا ، كل أمرهم على الطمع ، خيارهم فيه المداهنة ، فهؤلاء من هذه الأمة أشباه الذين ذكرهم الله تعالى ، وتلا الآية ، انتهى ، وهو على طريقة
المعتزلة ، وقوله :
إلا الحق دليل على أنهم كانوا يقولون الباطل على تناولهم عرض الدنيا : ودرسوا معطوف على قوله : ألم يؤخذ وفي ذلك أعظم توبيخ وتقريع ، وهو أنهم كرروا على ما في الكتاب ، وعرفوا ما فيه المعرفة التامة من الوعيد على قول الباطل والافتراء على الله ، وهذا العطف على التقرير لأن معناه قد أخذ عليهم ميثاق الكتاب ودرسوا ما فيه ، كقوله :
ألم نربك فينا وليدا ولبثت معناه قد ربيناك ولبثت ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري وغيره : هو معطوف على قوله :
ورثوا الكتاب وفيه بعد ، وقيل : هو على إضمار قد ، أي وقد درسوا ما فيه ، وكونه معطوفا على التقرير هو الظاهر ، لأن فيه معنى إقامة الحجة عليهم ، في أخذ ميثاق الكتاب بكونهم حفظوا لفظه وكرروه وما نسوه وفهموا معناه ، وهم مع ذلك لا يقولون إلا الباطل ، وقرأ
الجحدري : أن لا تقولوا بتاء الخطاب ، وقرأ
علي والسلمي : وادارسوا ، وأصله وتدارسوا ، كقوله : فادارأتم ، أي : تدارأتم وقد مر تقريره في العربية ، وهذه القراءة توضح أن معنى : ودرسوا ما فيه هو التكرار لقراءته والوقوف عليه وأن تأويل من تأول ودرسوا ما فيه أن معناه : ومحوه بترك العمل والفهم له ، من قولهم : درست الريح الآثار إذا محتها فيه بعد ، ولو كان كما قيل ، لقيل : ربع مدروس ، وخط مدروس ، وإنما قالوا : ربع دارس ، وخط دارس بمعنى داثر .
والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون . أي ولثواب دار الآخرة خير من تلك الرشوة الخبيثة الخسيسة المعقبة خزي الدنيا والآخرة ، ومعنى : يتقون محارم الله تعالى ، وقرأ
أبو عمرو وأهل مكة : يعقلون بالياء جريا على الغيبة في الضمائر السابقة ، وقرأ
الجمهور بالخطاب على طريقة الالتفات إليهم ، أو على طريق خطاب هذه الأمة كأنه قيل : أفلا تعقلون حال هؤلاء وما هم عليه من سوء العمل ويتعجبون من تجارئهم على ذلك .