ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس هذا إخبار منه تعالى بأنه خلق لجهنم كثيرا من الصنفين ، ومناسبة هذا لما قبله أنه لما ذكر أنه هو الهادي وهو المضل أعقبه بذكر من خلق للخسران والنار ، وذكر أوصافهم فيما ذكر ، وفي ضمنه وعيد الكفار ، والمعنى : لعذاب جهنم ، واللام للصيرورة على قول من أثبت لها هذا المعنى ، أو لما كان مآلهم إليها جعل ذلك سببا على جهة المجاز ، فقد رد
ابن عطية قول من زعم أنها للصيرورة ، فقال : وليس هذا بصحيح ولام العاقبة إنما يتصور إذا كان فعل الفاعل لم يقصد به ما يصير الأمر إليه ، وأما هنا فالفعل قصد به ما يصير الأمر إليه من سكناهم لجهنم ، انتهى ، وإنما ذهب إلى أنها لام العاقبة والصيرورة ; لأنه تعالى قال :
وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون فإثبات كونها للعلة ينافي قوله :
إلا ليعبدون وأنشدوا دليلا على إثبات معنى
[ ص: 427 ] الصيرورة للام قول الشاعر :
ألا كل مولود فللموت يولد ولست أرى حيا لحي يخلد
وقول الآخر :
فللموت تغدو الوالدات سخالها كما لخراب الدهر تبنى المساكن
ودعوى القلب فيه ، وإن تقديره - ولقد ذرأنا جهنم لكثير - غير سديد ; لأن القلب لا يكون إلا في الشعر على الصحيح ، ولفظة كثير لا تشعر بالأكثر ولكن ثبت في الحديث أن بعث النار أكثر ; لقول الله
لآدم : أخرج بعث النار من ذريتك ، فأخرج من كل ألف تسعة وتسعين وتسعمائة ، وهؤلاء المخلوقون لجهنم هم الذين طبع الله على قلوبهم فلا يتأتى منهم إيمان البتة ، وتفسير
ابن جبير أنهم أولاد الزنا ليس بجيد .
لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها لما كانوا لا يتدبرون شيئا من الآيات ، ولا ينظرون إليها نظر اعتبار ، ولا يسمعونها سماع تفكر ، جعلوا كأنهم فقدوا الفقه بالقلوب ، والإبصار بالعيون ، والسماع بالآذان ، وليس المراد نفي هذه الإدراكات عن هذه الحواس ، وإنما المراد نفي الانتفاع بها فيما طلب منهم من الإيمان . وقال
مسكين الدارمي :
أعمى إذا ما جارتي خرجت حتى يواري جارتي الستر
وأصم عن ما كان بينهما عمدا وما بالسمع لي وقر
وفسر
مجاهد هذا فقال :
لا يفقهون بها شيئا من أمور الآخرة
لا يبصرون بها الهدى
لا يسمعون بها الحق ، انتهى ، وفي قوله :
لهم قلوب لا يفقهون بها دليل على أن القلب آلة للفقه والعلم ، كما أن العين آلة للإبصار ، والأذن آلة للسماع ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وجعلهم لإغراقهم في الكفر وشدة شكائمهم فيه وأنه لا يتأتى منهم إلا أفعال أهل النار مخلوقين للنار دلالة على توغلهم في الموجبات وتمكنهم فيما يؤهلهم لدخول النار ، ومنه كتاب
عمر إلى
nindex.php?page=showalam&ids=22خالد بن الوليد : بلغني أن أهل
الشام اتخذوا لك دلوكا عجن بخمر ، وإني لأظنكم يا آل
المغيرة ذرء النار . ويقال لمن كان غريقا في بعض الأمور : ما خلق فلان إلا للنار ، والمراد وصف أحوالهم في عظم ما أقدموا عليه في تكذيب رسول الله مع علمهم أنه النبي الموعود ، وأنهم من جملة الكثير الذين لا يكاد الإيمان يتأتى منهم ، كأنهم خلقوا للنار ، انتهى ، وهو تكثير في الشرح .
أولئك كالأنعام ، أي : في عدم الفقه في العواقب والنظر للاعتبار والسماع للتفكر ، ولا يهتمون بغير الأكل والشرب .
بل هم أضل قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري :
بل هم أضل سبيلا من الأنعام عن الفقه والاعتبار والتدبر ; وقيل : الأنعام تبصر منافعها من مضارها ، فتلزم بعض ما تبصره ، وهؤلاء أكثرهم يعلم أنه معاند فيقدم على النار ، وقال
ابن عطية : حكم عليهم بأنهم أضل ; لأن الأنعام ركب في بنيتها وخلقتها أن لا تفكر في شيء ، وهؤلاء هم معدون للفهم ، وقد خلقت لهم قوى يصرفونها ، وأعطوا طرفا من النظر ، فهم بغفلتهم وإعراضهم يلحقون أنفسهم بالأنعام فهم أضل على هذا ، انتهى ; وقيل :
هم أضل ; لأنهم يعصون ، والأنعام لا تعصي ; وقيل : الأنعام تعرف ربها وتسبح له ، والكفار لا يعرفونه ولا يدعونه ، وروي : كل شيء أطوع لله من ابن آدم ، وقال
أبو عبد الله الرازي : الإنسان وسائر الحيوان يشاركه في قوى الطبيعة الغادية والنامية والمولدة ، وفي منافع الحواس الخمس الظاهرة والباطنة ، وفي أحوال التخيل والتفكر والتذكر ، وإنما يحصل الامتياز بين الإنسان وغيره بالقوة العقلية والفكرية التي تهديه إلى معرفة الحق لذاته ، والخير لأجل العمل به ، فلما أعرض الكفار من أغراض أحوال العقل والفكر ومعرفة الحق والعمل بالخير كانوا كالأنعام ، ثم قال :
بل هم أضل ;
[ ص: 428 ] لأن الحيوانات لا قدرة لها على تحصيل الفضائل ، والإنسان أعطي القدرة على تحصيلها ، ومن أعرض عن اكتساب الفضائل العظيمة مع القدرة على تحصيلها كان أحسن حالا ممن لم يكتسبها مع العجز ، فلهذا قال :
بل هم أضل ) ، انتهى .
وقيل : الأنعام تفر إلى أربابها ، ومن يقوم بمصالحها والكافر يهرب عن ربه الذي أنعمه عليه لا تحصى ; وقيل : الأنعام تضل إذا لم يكن معها مرشد ، وقلما تضل إذا كان معها ، وهؤلاء قد جاءتهم الرسل وأنزلت عليهم الكتب وهم يزدادون في الضلال ، انتهى .
وأقول هذا الإضراب ليس على جهة الإبطال للخبر السابق من تشبيههم بالأنعام ، ولا يجوز أن تكون جهة المبالغة في الضلال هي جهة التشبيه ; لأنه يؤدي إلى كذب أحد الخبرين وذلك مستحيل في حق الله تعالى ، وكلام من تقدم من المفسرين يدل على أنه تعالى شبههم بالأنعام فيما ذكر ، وأنهم أضل من الأنعام فيما وقع التشبيه فيه ، وهو لا يجوز لما ذكرناه ، فالمعول عليه أن جهة التشبيه مخالفة لجهة المبالغة في الضلال وأن هذا الإضراب ليس على سبيل الإبطال بمدلول الجملة السابقة :
بل هم أضل إضراب دال على الانتقال من إخبار إلى إخبار ، فالجملة الأولى شبههم بالأنعام في انتفاء منافع الإدراكات المؤدية إلى امتثال ما جاءت به الرسل ، والجملة الثانية أثبتت لهم المبالغة في ضلال طريقهم التي يسلكونها ، فالموصوف بالمبالغة في الضلال طريقهم ، وحذف التمييز ، وتقديره :
بل هم أضل طريقا منهم ، ويبين هذا قوله تعالى :
أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام ، أي : في انتفاء السمع للتدبر والعقل :
بل هم أضل سبيلا ، أي : بل سبيلهم أضل فالمحكوم عليه أولا غير المحكوم عليه آخرا ، والمحكوم به أيضا مختلف .
أولئك هم الغافلون هذه الجملة بين تعالى بها سبب كونهم أضل من الأنعام ، وهو الغفلة . وقال
عطاء : عن ما أعد الله لأوليائه من الثواب ولأعدائه من العقاب .