وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون لما ذكر من ذرأ للنار ذكر مقابلهم ، وفي لفظة : ( وممن ) دلالة على التبعيض ، وأن المعظم من المخلوقين ليسوا هداة إلى الحق ، ولا عادلين به ، قيل : هم العلماء والدعاة إلى الدين ; وقيل : هم مؤمنو أهل الكتاب ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=12861ابن الكلبي ، وروي عن
قتادة nindex.php?page=showalam&ids=13036وابن جريج ; وقيل : هم
المهاجرون والأنصار والتابعون لهم بإحسان ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هم أمة
محمد صلى الله عليه وسلم ، وعليه أكثر المفسرين ، وروي في ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : هذه لكم وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها :
ومن قوم موسى الآية ، وعنه : إن من أمتي قوما على الحق حتى ينزل
عيسى ابن مريم ، والظاهر أن هذه الجملة أخبر فيها أن ممن خلق أمة موصوفون بكذا ، فلا يدل على تعيين لا في أشخاص ، ولا في أزمان ، وصلحت لكل هاد بالحق من هذه الأمة وغيرهم ، وفي زمان الرسول وغيره ، كما أن مقابلها في قوله :
ولقد ذرأنا لجهنم لا يدل على تعيين أشخاص ولا زمان ، وإنما هذا تقسيم للمخلوق للنار والمخلوق للجنة ، ولذلك قيل : إن في الكلام محذوفا ، تقديره : ( وممن خلقنا ) يدل عليه إثبات مقابله ، في قوله :
ولقد ذرأنا لجهنم .
وقال
الجبائي : هذه الآية تدل على أن لا يخلو زمان ألبتة ممن يقوم بالحق ويعمل به ويهدي إليه ، وأنهم لا يجتمعون في شيء من الأزمنة على الباطل ، انتهى ، والآية لا تدل على ما زعم
الجبائي ، وما قاله مخالف لما روي من أنه
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374445لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق ،
ولا تقوم الساعة حتى لا يقال في الأرض : الله الله ،
ولا تقوم الساعة حتى يسرى على كتاب الله فلا يبقى منه حرف ، أو كما قال :
والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون قال
nindex.php?page=showalam&ids=14248الخليل بن أحمد : سنطوي أعمارهم في اغترار منهم ، وقال
أبو عبيدة : الاستدراج أن تدرج إلى الشيء في خفية قليلا قليلا ، ولا تهجم عليه ، وأصله من الدرجة ، وذلك أن الراقي والنازل يرقى وينزل مرقاة مرقاة ، ومنه درج الكتاب طواه شيئا بعد شيء ، ودرج القوم ماتوا بعضهم في إثر بعض ، وقال
ابن قتيبة : هو أن يذيقهم من بأسه قليلا قليلا من حيث لا يعلمون ، ولا يتابعهم به ولا
[ ص: 431 ] يجاهرهم ، وقال
الأزهري : سنأخذهم قليلا قليلا من حيث لا يحتسبون ، وذلك أن الله تعالى يفتح بابا من النعمة يغتبطون به ويركنون إليه ، ثم يأخذهم على غرتهم أغفل ما يكون ، انتهى ، ومنه درج الصبي إذا قارب بين خطاه ، والمعنى : سنسترقهم شيئا بعد شيء ودرجة بعد درجة بالنعم عليهم والإمهال لهم حتى يغتروا ويظنوا أنهم لا ينالهم عقاب ، وقال
الجبائي سنستدرجهم إلى العقوبات حتى يقعوا فيها من حيث لا يعلمون استدراجا لهم إلى ذلك فيجوز أن يكون هذا العذاب في الدنيا كالقتل ، ويجوز أن يكون عذاب الآخرة ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ومعنى :
سنستدرجهم سنستدينهم قليلا قليلا إلى ما يهلكهم ويضاعف عقابهم من حيث لا يعلمون ما يراد بهم ، وذلك أن يواتر الله نعمة عليهم مع انهماكهم في الغي ، فكلما جدد عليهم نعمة ازدادوا بطرا وجددوا معصية فيتدرجون في المعاصي بسبب ترادف النعم ظانين أن مواترة النعم أثرة من الله وتقريب ، وإنما هي خذلان منه وتبعيد ، فهذا استدراج الله - نعوذ بالله تعالى منه - من حيث لا يعلمون ، قيل : بالاستدراج ; وقيل : بالهلاك ، وقرأ
النخعي وابن وثاب : سيستدرجهم ، بالياء فاحتمل أن يكون من باب الالتفات ، واحتمل أن يكون الفاعل ضمير التكذيب المفهوم من كذبوا ، أي : سيستدرجهم هو ، أي : التكذيب ، قال
الأعشى : في الاستدراج :
فلو كنت في جب ثمانين قامة ورقيت أسباب السماء بسلم ليستدرجنك القول حتى تهزه
وتعلم أني عنكم غير مفحم
وأملي لهم إن كيدي متين معطوف على سنستدرجهم ، فهو داخل في الاستقبال ، وهو خروج من ضمير التكلم بنون العظمة إلى ضمير تكلم المفرد ، والمعنى : أؤخرهم ملاوة من الدهر ، أي : مدة فيها طول ، والملاوة بفتح الميم وضمها وكسرها ، ومنه :
واهجرني مليا ، أي : طويلا ، وسمى فعله ذلك بهم كيدا ; لأنه شبيه بالكيد من حيث أنه في الظاهر إحسان ، وفي الحقيقة خذلان ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : يريد إن مكري شديد ; وقيل : إن عذابي وسماه كيدا لنزوله بالعباد من حيث لا يشعرون والمتين من كل شيء القوي يقال : متن متانة ، وهذا إخبار عن المكذبين عموما ; وقيل : نزلت في المستهزئين من قريش ؛ قتلهم الله في ليلة واحدة بعد أن أمهلهم مدة ، وقرأ
عبد الحميد عن
ابن عامر أن كيدي بفتح الهمزة على معنى لأجل أن كيدي ، وقرأ الجمهور بكسرها على الاستئناف .