صفحة جزء
( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ) : الكلام على : ( تسفكون ) ، كالكلام على : ( لا تعبدون إلا الله ) من حيث الإعراب . وقرأ الجمهور : بفتح التاء وسكون السين وكسر الفاء . وقرأ طلحة بن مصرف وشعيب بن أبي حمزة ; كذلك ، إلا أنهما ضما الفاء . وقرأ أبو نهيك وأبو مجلز : بضم التاء وفتح السين وكسر الفاء المشددة . وقرأ ابن أبي إسحاق : كذلك ، إلا أنه سكن السين وخفف الفاء ، وظاهر قوله : ( لا تسفكون دماءكم ) ، أي لا تفعلون ذلك بأنفسكم لشدة تصيبكم وحنق يلحقكم . وقد جاء في الحديث أمر الذي وضع نصل سيفه في الأرض وذبابه بين ثدييه ، ثم تحامل عليه فقتل نفسه . وإخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه من أهل النار . وصح : " من قتل نفسه بحديدة ، فحديدته في يده ، يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدا مخلدا فيها أبدا " . وتظافرت على تحريم قتل النفس الملل . وقال تعالى : ( ولا تقتلوا أنفسكم ) . وقيل معناه : لا تسفكوا دماء الناس ، فإن من سفك دماءهم سفكوا دمه ، وقال :


سقيناهم كأسا سقونا بمثلها ولكنهم كانوا على الموت أصبرا



وقيل : معناه لا تقتلوا أنفسكم بارتكابكم ما يوجب ذلك ، كالارتداد والزنا بعد الإحصان ، والمحاربة ، وقتل النفس بغير حق ، ونحو ذلك مما يزيل عصمة الدماء . وقيل : معناه لا يسفك بعضكم دماء بعض ، وإليه أشار بقوله : " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض " ، وكان أهل دين كنفس واحدة ، قاله قتادة ، واختاره الزمخشري . قال ابن عطية : إن الله أخذ على بني إسرائيل في التوراة ميثاقا أن لا يقتل بعضهم بعضا ، ولا ينفيه ، ولا يسترقه ، ولا يدعه يسترق ، إلى غير ذلك من الطاعات . والخطاب في " أخذنا ميثاقكم " لعلماء اليهود الذين كانوا في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أو مع أسلافهم .

( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) معناه : لا يخرج بعضكم بعضا ، أو لا تسيئوا جوار من جاوركم فتلجئوهم إلى الخروج من دياركم ، أو لا تفعلوا ما تخرجون به أنفسكم من الجنة التي هي داركم ، أو لا تخرجون أنفسكم ، أي إخوانكم ، لأنكم كنفس واحدة ، أو لا تفسدوا فيكون سببا لإخراجكم من دياركم ، كأنه يشير إلى تغريب الجاني ، أو لا تفسدوا وتشاقوا الأنبياء والمؤمنين فيكتب عليكم الجلاء . أقوال ستة . ثم أقررتم : أي بالميثاق ، واعترفتم بلزومه ، أو اعترفتم بقبوله ، أو رضيتم به ، كما قال البعيث :


ولست كليبيا إذا سيم خطة     أقر كإقرار الحليلة للبعل



( وأنتم تشهدون ) : أي تعلمون أن الله أخذه عليكم ، وأراد على قدماء بني إسرائيل ، إن كان الخطاب واردا عليهم ، وإن كان على معاصريه - صلى الله عليه وسلم - من أبنائهم ، فمعناه : وأنتم تشهدون على أسلافكم بما أخذه الله عليهم من العهد ، إما بالنقل المتواتر ، وإما بما تتلونه من التوراة . وإن كان معنى الشهادة الحضور ، فيتعين أن يكون الخطاب لأسلافهم . وقال بعض المفسرين : ثم أقررتم عائد إلى الخلف ، وأنتم تشهدون عائد إلى السلف ؟ لأنهم عاينوا سفك دماء بعضهم بعضا . وقال : وأنتم تشهدون لأن الأوائل والأصاغر صاروا كالشيء الواحد ، فلذلك أطلق عليهم خطاب الحضرة . وقيل : إن قوله وأنتم تشهدون للتأكيد ، كقولك : فلان مقر على نفسه بكذا ، شاهد عليها .

[ ص: 290 ] ( ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم ) : هذا استبعاد لما أخبر عنهم به من القتل والإجلاء والعدوان ، بعد أخذ الميثاق منهم ، وإقرارهم وشهادتهم . واختلف المعربون في إعراب هذه الجملة ، فالمختار أن أنتم مبتدأ ، وهؤلاء خبر ، وتقتلون حال . وقد قالت العرب : ها أنت ذا قائما ، وها أنا ذا قائما . وقالت أيضا : هذا أنا قائما ، وها هو ذا قائما ، وإنما أخبر عن الضمير باسم الإشارة في اللفظ ، وكأنه قال : أنت الحاضر ، وأنا الحاضر ، وهو الحاضر . والمقصود من حيث المعنى الإخبار بالحال . ويدل على أن الجملة حال مجيئهم بالاسم المفرد منصوبا على الحال ، فيما قلناه من قولهم : ها أنت ذا قائما ونحوه . قال الزمخشري : والمعنى ثم أنتم بعد ذلك هؤلاء المشاهدون ، يعني أنكم قوم آخرون غير أولئك المقرين ، تنزيلا لتغير الصفة منزلة تغير الذات ، كما تقول : رجعت بغير الوجه الذي خرجت به . وقوله : ( تقتلون ) بيان لقوله : ( ثم أنتم هؤلاء ) . انتهى كلامه . والظاهر أن المشار إليه بقوله : ( ثم أنتم هؤلاء ) ، هم المخاطبون أولا ، فليسوا قوما آخرين . ألا ترى أن هذا التقدير الذي قدره الزمخشري من تنزيل تغير الصفة منزلة تغير الذات لا يتأتى في نحو : ها أنا ذا قائما ولا في ها أنتم أولاء ؟ بل المخاطب هو المشار إليه من غير تغير .

قال ابن عطية : وقال الأستاذ الأجل أبو الحسن بن أحمد شيخنا : هؤلاء : رفع بالابتداء ، وأنتم : خبر مقدم ، وتقتلون : حال ، بها تم المعنى ، وهي كانت المقصود ، فهي غير مستغنى عنها ، وإنما جاءت بعد أن تم الكلام في المسند والمسند إليه كما تقول : هذا زيد منطلقا ، وأنت قد قصدت الإخبار بانطلاقه ، لا الإخبار بأن هذا هو زيد . انتهى ما نقله ابن عطية عن شيخه ، وهو أبو الحسن علي بن أحمد بن خلف الأنصاري ، من أهل بلدنا غرناطة ، يعرف بابن الباذش ، وهو والد الإمام أبي جعفر أحمد ، مؤلف كتاب الإقناع في القراءات ، وله اختيارات في النحو ، حدث بكتاب سيبويه عن الوزير أبي بكر محمد بن هشام المصحفي ، وعلق عنه في النحو على كتاب الجمل والإيضاح ومسائل من كتاب سيبويه . توفي سنة ثمان وعشرين وخمسمائة . ولا أدري ما العلة في العدول عن جعل أنتم المبتدأ ، وهؤلاء الخبر ، إلى عكس هذا . والعامل في هذه الحال اسم الإشارة بما فيه من معنى الفعل . قالوا : وهو حال منه ، فيكون إذ ذاك قد اتحد ذو الحال والعامل فيها . وقد تكلمنا على هذه المسألة في كتاب منهج السالك من تأليفنا ، فيطالع هناك ، وذهب بعض المعربين إلى أن هؤلاء منادى محذوف منه حرف النداء ، وهذا لا يجوز عند البصريين ؛ لأن اسم الإشارة عندهم لا يجوز أن يحذف منه حرف النداء ، ونقل جوازه عن الفراء ، وخرج عليه الآية الزجاج وغيره ، جنوحا إلى مذهب الفراء ، فيكون على هذا القول يقتلون خبرا عن أنتم . وفصل بين المبتدأ والخبر بالنداء . والفصل بينهما بالنداء جائز ، وإنما ذهب من ذهب إلى هذا في هذه الآية ؛ لأنه صعب عنده أن ينعقد من ضمير المخاطب واسم الإشارة جملة من مبتدأ وخبر . وقد بينا كيفية انعقاد هذه الجملة ، وقد أنشدوا أبياتا حذف منها حرف النداء مع اسم الإشارة ، من ذلك قول رجل من طيء :


إن الأولى وصفوا قومي لهم فبهم     هذا اعتصم تلق من عاداك مخذولا



وذهب ابن كيسان وغيره إلى أن أنتم مبتدأ ، ويقتلون الخبر ، وهؤلاء تخصيص للمخاطبين ، لما نبهوا على الحال التي هم عليها مقيمون ، فيكون إذ ذاك منصوبا بأعني . وقد نص النحويون على أن التخصيص لا يكون بالنكرات ، ولا بأسماء الإشارة . والمستقرأ من لسان العرب أنه يكون أيا نحو : اللهم اغفر لنا أيتها العصابة ، أو معرفا بالألف واللام نحو : نحن العرب أقرى الناس للضيف ، أو بالإضافة نحو : نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، وقد يكون علما ، كما أنشدوا :


بنا تميما يكشف الضباب



اهـ . وأكثر ما يأتي بعد ضمير متكلم ، كما مثلناه . وقد جاء بعد ضمير مخاطب ، كقولهم : بك الله نرجو الفضل . وذهب بعضهم إلى [ ص: 291 ] أن هؤلاء موصول بمعنى الذي ، وهو خبر عن أنتم ، ويكون تقتلون صلة لهؤلاء ، وهذا لا يجوز على مذهب البصريين . وأجاز ذلك الكوفيون ، وهي مسألة خلافية مذكورة في علم النحو . وقرأ الجمهور : تقتلون ، من قتل مخففا . وقرأ الحسن : تقتلون من قتل مشددا . هكذا في بعض التفاسير ، وفي تفسير المهدوي أنها قراءة أبي نهيك ، قال والزهري والحسن : تقتلون أنبياء الله ، من قتل يعني مشددا ، والله أعلم بصواب ذلك .

( وتخرجون فريقا منكم من ديارهم ) : هذا نزل في بني قينقاع ، وبني قريظة ، والنضير من اليهود . كان بنو قينقاع أعداء قريظة والنضير ، والأوس والخزرج إخوان ، والنضير وقريظة أيضا إخوان ، ثم افترقوا . فصارت النضير حلفاء الخزرج ، وقريظة حلفاء الأوس . فكانوا يقتتلون ، ثم يرتفع الحرب ، فيفدون أسراهم ، فعيرهم الله بذلك ، قاله المهدوي . قال الزمخشري : فكان كل فريق يقاتل مع حلفائه ، وإذا غلبوا خربوا ديارهم وأخرجوهم ، وإذا أسر رجل من الفريقين ، جمعوا له حتى يفدوه ، فعيرتهم العرب وقالت : كيف تقاتلونهم ثم تفدونهم ؟ فيقولون : أمرنا أن نفديهم ، وحرم علينا قتالهم ، ولكنا نستحي أن نذل حلفاءنا .

( تظاهرون عليهم بالإثم ) : قرأ بتخفيف الظاء عاصم وحمزة والكسائي ، وأصله : تتظاهرون ، فحذف التاء ، وهي عندنا الثانية لا الأولى ، خلافا لهشام ، إذ زعم أن المحذوف هي التي للمضارعة ، الدالة في مثل هذا على الخطاب ، وكثيرا جاء في القرآن حذف التاء . وقال :


تعاطسون جميعا حول داركم     فكلكم يا بني حمدان مزكوم



يريد : تتعاطسون . وقرأ باقي السبعة بتشديد الظاء ، أي بإدغام الظاء في التاء . وقرأ أبو حيوة : تظاهرون ، بضم التاء وكسر الهاء . وقرأ مجاهد وقتادة باختلاف عنهما : تظهرون ، بفتح التاء والظاء والهاء مشددين دون ألف ، ورويت عن أبي عمرو . وقرأ بعضهم : تتظاهرون على الأصل . فهذه خمس قراءات ، ومعناها كلها التعاون والتناصر . وروى أبو العالية قال : كان بنو إسرائيل إذا استضعفوا قوما أخرجوهم من ديارهم . عليهم بالإثم : فيه قولان : أحدهما : أنه الفعل الذي يستحق عليه صاحبه الذم واللوم ، الثاني : أنه الذي تنفر منه النفس ولا يطمئن إليه القلب . وفي حديث النواس : الإثم ما حاك في صدرك . وقيل : المعنى تظاهرون عليهم بما يوجب الإثم ، وهذا من إطلاق السبب على مسببه ، ولذلك سميت الخمر إثما ، كما قال :


شربت الإثم حتى ضل عقلي



( والعدوان ) : هو تجاوز الحد في الظلم .

( وإن يأتوكم أسارى ) : قراءة الجمهور بوزن فعالى ، وحمزة بوزن فعلى .

( تفادوهم ) : قرأه نافع وعاصم والكسائي من فادى ، وقرأ الباقون : من فدى . قال ابن عطية : وحسن لفظ الإتيان من حيث هو في مقابلة الإخراج فيظهر التضاد المقبح لفعلهم في الإخراج ، يعني : أنه لا يناسب من أسأتم إليه بالإخراج من ديارهم أن تحسنوا إليهم بالفداء ، ومعنى تفادوهم : تفدوهم ، إذ المفاعلة تكون من اثنين ، ومن واحد . ففاعل بمعنى فعل المجرد ، وهو أحد معانيها . وقيل : معنى فادى : بادل أسيرا بأسير ، ومعنى فدى : دفع الفداء ، ويشهد للأول قول العباس : فاديت نفسي وفاديت عقيلا . ومعلوم أنه ما بادل أسيرا بأسير . وقيل : معنى تفدوهم بالصلح ، وتفادوهم بالعنف . وقيل تفادوهم : تطلبوا الفدية من الأسير الذي في أيديكم من أعدائكم ، ومنه قوله :


قفي فادي أسيرك إن قومي     وقومك ما أرى لهم اجتماعا



وتفدوهم : تعطوا فديتهم . وقال أبو علي معنى تفادوهم في اللغة ، تطلقونهم بعد أن تأخذوا عنه شيئا . وفاديت نفسي : أي أطلقتها بعد أن دفعت شيئا . وفادى وفدى يتعديان إلى مفعولين ، الثاني بحرف جر ، وهو هنا به محذوف .

( وهو محرم عليكم إخراجهم ) : تقدمت أربعة أشياء : قتل النفس ، والإخراج من الديار ، [ ص: 292 ] والتظاهر ، والمفاداة ، وهي محرمة . واختص هذا القسم بتأكيد التحريم ، وإن كانت كلها محرمة ، لما في الإخراج من الديار من معرة الجلاء والنفي الذي لا ينقطع شره إلا بالموت ، وذلك بخلاف القتل ؛ لأن القتل ، وإن كان من حيث هو هدم البنية ، أعظم ، لكن فيه انقطاع الشر ، وبخلاف المفاداة بها ، فإنها من جريرة الإخراج من الديار والتظاهر ؛ لأنه لولا الإخراج من الديار والتظاهر عليهم ، ما وقعوا في قيد الأسر . وقد يكون أيضا مما حذف فيه من كل جملة ذكر التحريم ، ويكون التقدير : تقتلون أنفسكم ، وهو محرم عليكم ، وكذا باقيها . وارتفاع هو على الابتداء ، وهو إما ضمير الشأن ، والجملة بعده خبر عنه ، وإعرابها أن يكون إخراجهم مبتدأ ومحرم خبرا ، وفيه ضمير عائد على الإخراج ، إذ النية به التأخير . ولا يجيز الكوفيون تقديم الخبر إذا كان متحملا ضميرا مرفوعا . فلا يجيزون : قائم زيد ، على أن يكون قائم خبرا مقدما ، فلذلك عدلوا إلى أن يكون خبر هو قوله محرم ، وإخراجهم مرفوع به مفعولا لم يسم فاعله ، وتبعهم على هذا المهدوي . ولا يجيز هذا الوجه البصريون ؛ لأن عندهم أن ضمير الشأن لا يخبر عنه إلا بجملة مصرح بجزأيها ، وإذا جعلت قوله محرم خبرا عن هو ، و " إخراجهم " مرفوعا به ، لزم أن يكون قد فسر ضمير الشأن بغير جملة . وهو لا يجوز عند البصريين كما ذكرنا . وأجازوا أيضا أن يكون هو مبتدأ ، ليس ضمير الشأن ، بل هو عائد على الإخراج ، ومحرم خبر عنه ، وإخراجهم بدل . وهذا فيه خلاف . منهم من أجاز أن يفسر المضمر الذي لم يسبق له ما يعود عليه بالبدل ، ومنهم من منع . وأجازه الكسائي ، وفي بعض النقول . وأجاز الكوفيون أن يكون هو عمادا ، وهو الذي يعبر عنه البصريون بالفصل ، وقد تقدم مع الخبر . والتقدير : وإخراجهم هو محرم عليكم ، فلما قدم خبر المبتدأ على المبتدأ ، قدم معه الفصل . قال الفراء : لأن الواو ها هنا تطلب الاسم ، وكل موضع تطلب فيه الاسم ، فالعماد فيه جائز . ولا يجوز هذا التخريج عند البصريين ؛ لأن فيه أمرين لا يجوزان عندهم : أحدهما : وقوع الفصل بين معرفة ونكرة لا تقارب المعرفة ، إذ التقدير : وإخراجهم هو محرم ، فمحرم نكرة لا تقارب المعرفة . الثاني : أن فيه تقديم الفصل ، وشرطه عند البصريين أن يكون متوسطا بين المبتدأ والخبر ، أو بين ما هما أصله ، وهذه كلها مسائل تحقق في علم النحو .

ووقع في كتاب ابن عطية في هذا المكان أقوال تنتقد ، وهو أنه قال : قيل في " هو " إنه ضمير الأمر ، تقديره : والأمر محرم عليكم ، وإخراجهم في هذا القول بدل من هو . انتهى ما نقله في هذا القول ، وهذا خطأ من وجهين : أحدهما : أنه أخبر عن ضمير الأمر بمفرد ، ولا يجيز ذلك بصري ولا كوفي . أما البصري : فلأن مفسر ضمير الأمر لا بد أن يكون جملة وأما الكوفي : فلأنه يجيز الجملة ويجيز المفرد إذا كان قد انتظم منه ومما بعده مسند ومسند إليه في المعنى ، نحو قولك : ظننته قائما الزيدان . والثاني : أنه جعل إخراجهم بدلا من ضمير الأمر ، وضمير الأمر لا يعطف عليه ، ولا يبدل منه ، ولا يؤكد . قال ابن عطية : وقيل هو فاصلة ، وهذا مذهب الكوفي ، وليست هنا بالتي هي عماد ، ومحرم على هذا ابتداء ، وإخراجهم خبر . انتهى ما نقله في هذا القول . والمنقول عن الكوفيين عكس هذا الإعراب ، وهو أن يكون الفصل قد قدم مع الخبر على المبتدأ ، فإعراب " محرم " عندهم خبر متقدم ، وإخراجهم مبتدأ ، وهو المناسب للقواعد ، إذ لا يبتدأ بالاسم إذا كان نكرة ، ولا مسوغ لها ، ويكون الخبر معرفة ، بل المستقر في لسانهم عكس هذا ، إلا إن كان يرد في شعر ، فيسمع ولا يقاس عليه . قال ابن عطية : وقيل هو الضمير المقدر في " محرم " قدم وأظهر . انتهى ما نقله في هذا القول . وهذا القول ضعيف جدا ، إذ لا موجب لتقدم الضمير ، ولا لبروزه بعد استتاره ، ولأنه يؤدي إلى خلو اسم المفعول من ضمير ، إذ على هذا القول يكون محرم خبرا مقدما ، وإخراجهم مبتدأ ، ولا يوجد اسم [ ص: 293 ] فاعل ولا مفعول عاريا من الضمير ، إلا إذا رفع الظاهر . ولا يمكن هنا أن يرفع الظاهر ؛ لأن الضمير المنفصل المقدم " هو " كان الضمير المرفوع بـ " محرم " ، ثم يبقى هذا الضمير لا يدرى ما إعرابه ، إذ لا جائز أن يكون مبتدأ ، ولا جائز أن يكون فاعلا مقدما . قال ابن عطية : وقيل هو ضمير الإخراج ، تقديره : وإخراجهم محرم عليكم . انتهى ما نقله في هذا القول ، ولم يبين وجه ارتفاع " إخراجهم " ، ولا يتأتى على أن يكون هو ضميره ، ويكون إخراجهم تفسيرا لذلك المضمر ، إلا على أن يكون إخراجهم بدلا من الضمير . وقد تقدم أن في ذلك خلافا ، منهم من أجاز ومنهم من منع .

( أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض ) : هذا استفهام معناه التوبيخ والإنكار . ولم يذمهم على الفداء ، بل على المناقضة ، إذ أتوا ببعض الواجب ، وتركوا بعضا . وتكون المناقضة آكد في الذم ، ولا يقال الإخراج معصية . فلم سماها كفرا ؟ لأنا نقول : لعلهم صرحوا بأن ترك الإخراج غير واجب ، مع أن صريح التوراة كان دالا على وجوبه . والبعض الذي آمنوا به ، إن كان المراد بالكتاب التوراة ، فيكون عاما فيما آمنوا به من أحكامها ، وفداء الأسير من جملته . والبعض الذي كفروا به : هو قتل بعضهم بعضا ، وإخراج بعضهم من ديارهم ، والمظاهرة بالإثم والعدوان ، من جملة ما كفروا به من التوراة . وقيل : معناه يستعملون البعض ويتركون البعض ، تفادون أسرى قبيلتكم ، وتتركون أسرى أهل ملتكم ولا تفادونهم . وقيل : إن عبد الله بن سلام مر على رأس الجالوت بالكوفة ، وهو يفادي من النساء من لم يقع عليه الحرب ، ولا يفادى من وقع عليه الحرب . قال : فقال ابن سلام : أما إنه مكتوب عندك في كتابك أن تفاديهن كلهن . وقال مجاهد : معناه إن وجدته في يد غيرك فديته ، وأنت تقتله بيدك . وقيل : المراد التنبيه على أنهم في تمسكهم بنبوة موسى ، على نبينا وعليه الصلاة والسلام ، مع التكذيب بمحمد - صلى الله عليه وسلم - مع أن الحجة في أمرهما سواء ، فجروا مجرى سلفهم ، أن يؤمنوا ببعض ، ويكفروا ببعض . قالوا : ويجوز أن يراد بالكتاب هنا المكتوب عليهم من هذه الأحكام الأربعة ، أي المفروض ، والذي آمنوا به منها : فداء الأسرى ، والذي كفروا به باقي الأربعة .

( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) : الجزاء يطلق في الخير والشر . قال : ( وجزاهم بما صبروا ) ، وقال : ( فجزاؤه جهنم ) . والخزي هنا : الفضيحة ، والعقوبة ، والقصاص فيمن قتل ، أو ضرب الجزية غابر الدهر ، أو قتل قريظة ، وإجلاء النضير من منازلهم إلى أريحا ، وأذرعات ، أو غلبة العدو ، أقوال خمسة . ولا يتأتى القول بالجزية ولا الجلاء إلا إن حملنا الآية على الذين كانوا معاصري رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والأولى أن يكون المراد هو الذم العظيم والتحقير البالغ من غير تخصيص . و " إلا خزي " : استثناء مفرغ ، وهو خبر المبتدأ . ونقض النفي هنا نقض لعمل ما على خلاف في المسألة وتفصيل ، وذلك أن الخبر إذا تأخر وأدخلت عليه إلا ، فإما أن يكون هو الأول ، أو منزلا منزلته ، أو وصفا ، إن كان الأول في المعنى ، أو منزلا منزلته ، لم يجز فيه إلا الرفع عند الجمهور . وأجاز الكوفيون النصب فيما كان الثاني فيه منزلا منزلة الأول ، وإن كان وصفا أجاز الفراء فيه النصب ، ومنعه البصريون . ونقل عن يونس إجازة النصب في الخبر بعد إلا كائنا ما كان ، وهذا مخالف لما نقله أبو جعفر النحاس ، قال : لا خلاف بين النحويين في قولك : ما زيد إلا أخوك ، إنه لا يجوز إلا بالرفع . قال : فإن قلت ما أنت إلا لحيتك ، فالبصريون يرفعون ، والمعنى عندهم : ما فيك إلا لحيتك ، [ ص: 294 ] وكذا : ما أنت إلا عيناك . وأجاز في هذا الكوفيون النصب ، ولا يجوز النصب عند البصريين في غير المصادر ، إلا أن يعرف المعنى ، فتضمر ناصبا نحو : ما أنت إلا لحيتك مرة وعينك أخرى ، وما أنت إلا عمامتك تحسينا ورداءك تزيينا .

( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) : يوم القيامة عبارة عن زمان ممتد إلى أن يفصل بين العباد ، ويدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار . ومعنى يردون : يصيرون ، فلا يلزم كينونتهم قبل ذلك في أشد العذاب ، أو يراد بالرد : الرجوع إلى شيء كانوا فيه ، كما قال تعالى : ( فرددناه إلى أمه ) ، وكأنهم كانوا في الدنيا في أشد العذاب أيضا ، لأنهم عذبوا في الدنيا بالقتل والسبي والجلاء وأنواع من العذاب . وقرأ الجمهور : يردون بالياء ، وهو مناسب لما قبله من قوله : ( من يفعل ) . ويحتمل أن يكون التفاتا ، فيكون راجعا إلى قوله : ( أفتؤمنون ) ، فيكون قد خرج من ضمير الخطاب إلى ضمير الغيبة . وقرأ الحسن وابن هرمز باختلاف عنهما : تردون بالتاء ، وهو مناسب لقوله : ( أفتؤمنون ) . ويحتمل أن يكون التفاتا بالنسبة إلى قوله ( من يفعل ذلك ) ، فيكون قد خرج من ضمير الغيبة إلى ضمير الخطاب . وأشد العذاب : الخلود في النار ، وأشديته من حيث إنه لا انقضاء له ، أو أنواع عذاب جهنم ، لأنها دركات مختلفة ، وفيها أودية وحيات ، أو العذاب الذي لا فرح فيه ولا روح مع اليأس من التخلص ، أو الأشدية هي بالنسبة إلى عذاب الدنيا ، أو الأشدية بالنسبة إلى عذاب عامتهم ، لأنهم الذين أضلوهم ودلسوا عليهم ، أقوالا خمسة .

( وما الله بغافل عما تعملون ) : تقدم الكلام على تفسير هذا الكلام ، إذ وقع قبل ( أفتطمعون ) . وقرأ نافع وابن كثير وأبو بكر بالياء ، والباقون بالتاء من فوق . فبالياء ناسب يردون قراءة الجمهور ، وبالتاء تناسب قراءة تردون بالتاء ، فيكون المخاطب بذلك من كان مخاطبا في الآية . قيل : ويحتمل أن يكون الخطاب لأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - فقد روي عن عمر بن الخطاب قال : إن بني إسرائيل قد مضوا ، وأنتم الذين تعنون بهذا يا أمة محمد ، وبما يجري مجراه ، وهذه الآية من أوعظ الآيات ، إذ المعنى أن الله بالمرصاد لكل كافر وعاص .

( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون ) : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، الذين تقدم ذكرهم أنهم آمنوا ببعض [ ص: 295 ] الكتاب وكفروا ببعض ، وفي اسم الإشارة دليل على أنه أشير به إلى الذين جمعوا الأوصاف السابقة الذميمة . وقد تقدم الكلام على ذلك عند الكلام على قوله : ( أولئك على هدى من ربهم ) ، وأنه إذا عددت أوصاف لموصوف ، أشير إلى ذلك الموصوف تنبيها على أنه هو جامع تلك الأوصاف . والذين : خبر عن أولئك ، وتقدم الكلام في قوله : ( اشتروا ) ، وتقدم أن الشراء والبيع يقتضيان عوضا ومعوضا أعيانا . فتوسعت العرب في ذلك إلى المعاني ، وجعل إيثارهم بهجة الدنيا وزينتها على النعيم السرمدي اشتراء ، إيثارا للعاجل الفاني على الآجل الباقي ، إذ المشتري ليس هو المؤثر لتحصيله ، والثمن المبذول فيه مرغوب عنه عنده ، ولا يفعل ذلك إلا مغبون الرأي فاسد العقل .

قال بعض أرباب المعاني : إن الدنيا ما دنا من شهوات القلب ، والآخرة ما اتصلت برضا الرب . فلا يخفف : معطوف على الصلة ، ويجوز أن يوصل الموصول بصلتين مختلفتين زمانا ، تقول : جاءني الذي قتل زيدا بالأمس ، وسيقتل غدا أخاه ، إذ الصلاة هي جمل ، فمن يشترط اتحاد زمان أفعالها بخلاف ما ينزل من الأفعال منزلة المفردات ، فإنهم نصوا على اشتراط اتحاد الزمان مضيا أو غيره ، وعلى اختيار التوافق في الصيغة ، وجوز أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين بصلته خبرا . و " فلا يخفف " : خبر بعد خبر ، وعلل دخول الفاء لأن الذين ، إذا كانت صلته فعلا ، كان فيها معنى الشروط ، وهذا خطأ ؛ لأن الموصول هنا أعربه خبرا عن أولئك ، فليس قوله فلا يخفف خبرا عن الموصول ، إنما هو خبر عن أولئك ، ولا يسري للمبتدأ الشرطية من الموصول الواقع خبرا عنه . وجوز أيضا أن يكون أولئك مبتدأ ، والذين مبتدأ ثان ، وفلا يخفف : خبرا عن الذين ، والذين وخبره خبر عن أولئك . قيل : ولم يحتج إلى عائد ؛ لأن " الذين " هم " أولئك " ، كما تقول : هذا زيد منطلق ، وهذا خطأ ؛ لأن كل جملة وقعت خبرا لمبتدأ فلا بد فيها من رابط ، إلا إن كانت نفس المبتدأ في المعنى ، فلا يحتاج إلى ذلك الرابط . وقد أخبرت عن أولئك بالمبتدأ الموصول وبخبره ، فلا بد من الرابط . وليس نظير ما مثل به من قوله : هذا زيد منطلق ؛ لأن زيدا منطلق خبران عن هذا ، وهما مفردان ، أو يكون زيد بدلا من هذا ، ومنطلق خبرا . وإما أن يكون هذا مبتدأ ، وزيد مبتدأ ثانيا ، ومنطلق خبرا عن زيد ، ويكون زيد منطلق جملة في موضع الخبر عن هذا ، فلا يجوز لعدم الرابط . وأيضا فلو كان هنا رابط ، لما جاز هذا الإعراب ؛ لأن الذين مخصوص بالإشارة إليه ، فلا يشبه اسم الشرط ، إذ يزول العموم باختصاصه ، ولأن صلة الذين ماضية لفظا ومعنى . ومع هذين الأمرين لا يجوز دخول الفاء في الجملة الواقعة خبرا . والتخفيف هو التسهيل ، وقد حمل نفي التخفيف على الانقطاع ، وحمل أيضا على التشديد . والأولى حمله على نفي التخفيف بالانقطاع ، أو بالتقليل منه ، أو في وقت ، أو في كل الأوقات ؛ لأنه نفي للماهية ، فيستلزم نفي أشخاصها وصورها . والظاهر من النفي بلا والكثير فيها أنه نفي في المستقبل ، وقد فسر الزمخشري نفي التخفيف بأن ذلك في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا بنقصان الجزية ، وكذلك نفي النصر في الدنيا والآخرة . ومعنى نفي النصر : أنهم لا يجدون من يدفع عنهم ما حل بهم من عذاب الله .

( ولا هم ينصرون ) : جملة اسمية معطوفة على جملة فعلية ، ويجوز أن تكون فعلية وتكون المسألة من باب الاشتغال ، فيكون هم مرفوعا بفعل محذوف يفسره ما بعده ، على حد قوله :


وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها



ويقوي هذا الوجه ويحسنه كونه تقدم قوله : ( فلا يخفف ) ، وهو جملة فعلية ، إذ لولا تقدم الجملة الفعلية لكان الأرجح الرفع على الابتداء ، وذلك أن " لا " ليست مما تطلب الفعل ، لا اختصاصا ولا أولوية ، فتكون كان والهمزة خلافا لأبي محمد بن السيد ، إذ زعم أن الحمل على الفعل فيما دخلت عليه لا أولى من الابتداء ، وبناء الفعل للمفعول أولى من بنائه للفاعل ؛ لأنه أعم ، إلا إن جعل الفاعل عاما ، فيكون : ولا هم [ ص: 296 ] ينصرهم أحد ، فكان يفوت بذلك اختتام الفواصل بما اختتمت به قبل وبعد ، ويفوت الإيجاز ، مع أن قوله : ( ولا هم ينصرون ) يفيد ذلك ، أعني العموم .

وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أخبار الله تعالى ، أنه أخذ الميثاق على بني إسرائيل بإفراد العبادة ، والإحسان إلى الوالدين ، وإلى ذي القربى ، واليتامى ، والمساكين ، وبالقول الحسن للناس ، وإقامة الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، وأنهم نقضوا الميثاق بتوليهم وإعراضهم ، وأنه أخذ عليهم أن لا يسفكوا دماءهم ، ولا يخرجون أنفسهم من ديارهم ، وأنهم أقروا والتزموا ذلك . فكان الميثاق الأول يتضمن الأوامر ، والميثاق الثاني يتضمن النواهي ؛ لأن التكاليف الإلهية مبنية على الأوامر والنواهي . وكان البدء بالأوامر آكد ، لأنها تتضمن أفعالا ، والنواهي تتضمن تروكا ، والأفعال أشق من التروك . وكان من الأوامر الأمر بإفراد الله بالعبادة ، وهو رأس الإيمان ، إذ متعلقه أشرف المتعلقات ، فكان البدء به أولى . ثم نعى عليهم التباسهم بما نهوا عنه ، وإن كان قد تقدم إخباره أنهم خالفوا في الأمر بقوله : ( ثم توليتم ) ؛ لأن فعل المنهيات أقبح من ترك المأمورات ، لأنها تروك كما ذكرنا .

ثم قرعهم بمخالفة نواهي الله ، وأنهم مستعينون في ذلك بغير الحق ، بل بالإثم والعدوان . ثم ذكر تناقض آرائهم وسخف عقولهم ، بفداء من أتى إليهم منهم ، مع أنهم هم السبب في إخراجهم وأسرهم ، مع علمهم بتحريم إخراجهم ، وبذكر أنهم آمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض . هذا مع أنه كله حق وصدق ، فلا يناسب ذلك الكفر ببعض والإيمان ببعض . ثم ذكر أن الجزاء لفاعل ذلك هو الخزي في الدنيا ، وأشد العذاب في الآخرة ، وأن الله تعالى لا يغفل عما عملوه ، فيجازيهم على ذلك . ثم أشار إلى من تحلى بهذه الأوصاف الذميمة ، وخالف أمر الله ونهيه ، هو قد اشترى عاجلا تافها بآجل جليل ، وآثر فانيا مكدرا على باق صاف . وأن نتيجة هذا الشراء أن لا يخفف عنهم ما حل بهم من العذاب ، ولا يجدوا ناصرا يدفع عنهم سوء العقاب . لقد خسروا تجارة ، وبدلوا بالنعيم السرمدي نارا وقودها الناس والحجارة . وإذا كان التخفيف قد نفي ، فالرفع أولى . وهل هذا إلا من باب التنبيه بالأدنى على الأعلى ؟ .

التالي السابق


الخدمات العلمية