صفحة جزء
إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب فاضربوا فوق الأعناق واضربوا منهم كل بنان هذا أيضا من تعدد النعم ; إذ الإيحاء إلى الملائكة - بأنه تعالى معهم ، أي : ينصرهم ويعينهم - وأمرهم بتثبيت المؤمنين ، والإخبار بما يأتي بعد من إلقاء الرعب في قلوب أعدائهم ، والأمر بالضرب فوق أعناقهم وكل بنان منهم - من أعظم النعم ، وفي ذلك إعلام بأن الغلبة والظفر والعاقبة للمؤمنين ، وقال الزمخشري : إذ يوحي يجوز أن يكون بدلا ثالثا من إذ يعدكم وأن ينتصب بثبت ، وقال ابن عطية : العامل في إذ العامل الأول على ما تقدم فيما قبلها ، ولو قدرناه قريبا لكان قوله : ويثبت على تأويل عود الضمير على الربط ، وأما عوده على الماء فيمكن أن يعمل ويثبت في ( إذ ) ، انتهى ، وإنما يمكن ذلك عنده لاختلاف زمان التثبيت عنده وزمان هذا الوحي ; لأن زمان إنزال المطر وما تعلق به من تعاليله متقدم على تغشية النعاس والإيحاء كانا وقت القتال ، وهذا الوحي إما بإلهام ، وإما بإعلام ، وقرأ عيسى بن عمر بخلاف عنه : إذ معكم ، بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين ، أو على إجراء يوحي مجرى تقول على مذهب الكوفيين ، والملائكة هم الذين أمد المؤمنون بهم ، ولما كان ما تقدم من تعداد النعم على المؤمنين جاء الخطاب لهم بيغشاكم ، وينزل عليكم ، ويطهركم ، ويذهب رجز ، وليربط على قلوبكم ; إذ كان في هذه أشياء لا تناسب منصب الرسالة ، ولما ذكر الوحي إلى الملائكة أتى بخطاب الرسول وحده ، فقال : إذ يوحي ربك ، ففي ذلك [ ص: 470 ] تشريف بمواجهته بالخطاب وحده ، أي : مربيك والناظر في مصلحتك ويثبت الذين آمنوا . قال الحسن بالقتال ، أي : فقاتلوا ، وقال مقاتل : بشروهم بالنصر ، فكان الملك يسير أمام الصف في صورة الرجل فيقول أبشروا فإن الله ناصركم ، وذكر الزجاج أنهم يثبتونهم بأشياء يلقونها في قلوبهم تقوى بها ، وذكر الثعلبي ونحوه قال : صححوا عزائمهم ونياتهم على الجهاد ، وقال ابن عطية نحوه قال : ويحتمل أيضا أن يكون التثبيت الذي أمر به ما يلقيه الملك في قلب الإنسان من توهم الظفر واحتقار الكفار ، ويجري عليه من خواطر تشجيعه ، ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب وإن كان إلقاء الرعب يطابق التثبيت على أي صورة كان التثبيت ، ولكنه أشبه بهذا إذ هي من جنس واحد ، وعلى هذا التأويل يجيء قوله : سألقي في قلوب الذين كفروا الرعب مخاطبة للملائكة ، ثم يجيء قوله : فاضربوا فوق الأعناق لفظه لفظ الأمر ومعناه الخبر عن صورة الحال ، كما تقول إذا وصفت لمن تخاطبه : لقينا القوم وهزمناهم فاضرب بسيفك حيث شئت واقتل وخذ أسيرك ، أي : هذه كانت صفة الحال ، ويحتمل أن يكون سألقي إلى آخر الآية خبرا يخاطب به المؤمنين عما يفعله بالكفار في المستقبل ، كما فعله في الماضي ، ثم أمرهم بضرب الرقاب والبنان تشجيعا لهم وحضا على نصرة الدين ، وقال الزمخشري : والمعنى أني معينكم على التثبت فثبتوهم ، فقوله : سألقي ، فاضربوا ، يجوز أن يكون تفسيرا لقوله : أني معكم فثبتوا ، ولا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفرة ، ولا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم ، واجتماعهما غاية النصرة ، ويجوز أن يكون غير تفسير ، وأن يراد بالتثبيت أن يخطروا ببالهم ما تقوى به قلوبهم ، وتصح عزائمهم ونياتهم ، وأن يظهروا ما يتيقنون به أنهم ممدون بالملائكة ; وقيل : كان الملك يتشبه بالرجل الذي يعرفون وجهه ، فيأتي فيقول : إني سمعت المشركين يقولون والله لئن حملوا علينا لننكشفن ، ويمشي بين الصفين فيقول : أبشروا فإن الله ناصركم ; لأنكم تعبدونه وهؤلاء لا يعبدونه ، انتهى ، ثم قال : ويجوز أن يكون قوله : سألقي ، إلى قوله : كل بنان ، عقيب قوله : فثبتوا الذين آمنوا ، تلقينا للملائكة وما يثبتونهم به ، كأنه قال : قولوا لهم : سألقي ، والضاربون على هذا هم المؤمنون ، انتهى ، والذي يظهر أن ما بعد : يوحي ربك إلى الملائكة هو من جملة الموحى به ، وأن الملائكة هم المخاطبون بتثبيت المؤمنين وبضرب فوق الأعناق وكل بنان ، وقال السائب بن يسار : كنا إذا سألنا يزيد بن عامر السواري عن الرعب الذي ألقاه الله في قلوب المشركين كيف كان يأخذ الحصا ويرمي به الطست فيطن فيقول : كنا نجد في أجوافنا مثل هذا ، وقرأ ابن عامر والكسائي والأعرج : الرعب ، بضم العين ، وفوق قال الأخفش : زائدة ، أي : فاضربوا الأعناق ، وهو قول عطية والضحاك فيكون الأعناق هي المفعول باضربوا هذا ليس بجيد ; لأن فوق اسم ظرف والأسماء لا تزاد ، وقال أبو عبيدة : فوق بمعنى على ، تقول : ضربته فوق الرأس وعلى الرأس ، ويكون مفعول فاضربوا على هذا محذوفا ، أي : فاضربوهم فوق الأعناق ، وهذا قول حسن لإبقاء فوق على معناها من الظرفية . وقال ابن قتيبة فوق بمعنى دون ، قال ابن عطية : وهذا خطأ بين ، وإنما دخل عليه اللبس من قوله : بعوضة فما فوقها ، في القلة والصغر فأشبه المعنى دون ، انتهى . وعلى قول ابن قتيبة يكون المفعول محذوفا ، أي : فاضربوهم ، وقال عكرمة : فوق على بابها ، وأراد الرؤوس ; إذ هي فوق الأعناق ، قال الزمخشري : يعني ضرب الهام . قال الشاعر :


وأضـرب هـامـة البطــل المشيــح

وقال آخر :

غشيته وهو في جأواء باسلة عضبا أصاب سواء الرأس فانفلقا [ ص: 471 ] انتهى . وقال ابن عطية : وهذا التأويل أنبلها ، ويحتمل عندي أن يريد بقوله : فوق الأعناق وصف أبلغ ضربات العنق وأحكمها ، وهي الضربة التي تكون فوق عظم العنق ودون عظم الرأس في المفصل ، وينظر إلى هذا المعنى قول دريد بن الصمة الجشمي لابن الدغنة السلمي حين قال له : خذ سيفي وارفع عن العظم واخفض عن الدماغ ، فهكذا كنت أضرب أعناق الأبطال ، ومنه قول الشاعر :


جعلت السيف بين الجيد منه     وبين أسيل خديه عذارا

فيجيء على هذا فوق الأعناق متمكنا ، انتهى . فإن كان قول عكرمة تفسير معنى فحسن ، ويكون مفعول فاضربوا محذوفا ، وإن كان أراد أن فوق هو المضروب فليس بجيد لأن فوق من الظروف التي لا يتصرف فيها ، لا تكون مبتدأة ولا مفعولا بها ولا مضافا إليها ، إنما يتصرف فيها بحرف جر ، كقوله : من فوقهم ظلل ، هذا هو الصحيح في فوق ، وقد أجاز بعضهم أن يكون فوق في الآية مفعولا به ، وأجاز فيها التصرف ، قال : تقول : فوقك رأسك بالرفع ، وفوقك قلنسوتك بالنصب ، ويظهر هذا القول من الزمخشري قال : فوق الأعناق ، أراد أعالي الأعناق التي هي المذابح ؛ لأنها مفاصل ، فكان إيقاع الضرب فيها جزا وتطييرا للرأس ، انتهى ، والبنان تقدم الكلام فيها في المفردات ، وقالت فرقة منهم الضحاك : البنان هي المفاصل حيث كانت من الأعضاء ، وقالت فرقة : البنان الأصابع من اليدين والرجلين . وقيل : الأصابع وغيرها من الأعضاء ، والمختار أنها الأصابع . وقال عنترة العبسي :


وكان فتى الهيجاء يحمي ذمارها     ويضرب عند الكرب كل بنان

وقال أيضا :


وأن الموت طرح يدي إذا ما     وصلت بنانها بالهندواني

وضرب الكفار مشروع في كل موضع منهم ، وإنما قصد أبلغ المواضع وأثبت ما يكون المقاتل ؛ لأنه إذا عمد إلى الرأس أو الأطراف كان ثابت الجأش متبصرا فيما يضع فيه آلة قتاله من سيف ورمح وغيرهما مما يقع به اللقاء ; إذ ضرب الرأس فيه أشغل شاغل عن القتال ، وكثيرا ما يؤدي إلى الموت ، وضرب البنان فيه تعطيل القتال من المضروب ، بخلاف سائر الأعضاء . قال الفراء : علمهم مواضع الضرب ، فقال : اضربوا الرءوس والأيدي والأرجل ، فكأنه قال : فاضربوا الأعالي إن تمكنتم من الضرب فيها ، فإن لم تقدروا فاضربوهم في أوساطهم ، فإن لم تقدروا فاضربوهم في أسافلهم ، فإن الضرب في الأعالي يسرع بهم إلى الموت ، والضرب في الأوساط يسرع بهم إلى عدم الامتناع ، والضرب في الأسافل يمنعهم من الكر والفر ، فيحصل من ذلك إما إهلاكهم بالكلية ، وإما الاستيلاء عليهم ، انتهى ، وفي قول الفراء هذا تحميل ألفاظ القرآن ما لا يحتمله ، وقال الزمخشري : والمعنى فاضربوا المقاتل والشوى ؛ لأن الضرب إما واقع على مقتل أو غير مقتل ، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية