[ ص: 261 ] قوله تعالى :
واتل ما أوحي إليك من كتاب ربك .
أمر الله جل وعلا نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية الكريمة : أن يتلو هذا القرآن الذي أوحاه إليه ربه . والأمر في قوله " واتل " [ 18 \ 27 ] ، شامل للتلاوة بمعنى القراءة ، والتلو : بمعنى الاتباع ، وما تضمنته هذه الآية الكريمة من أمره تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتلاوة القرآن العظيم واتباعه جاء مبينا في آيات أخر ; كقوله تعالى في سورة " العنكبوت " :
اتل ما أوحي إليك من الكتاب وأقم الصلاة الآية [ 29 \ 45 ] ، وكقوله تعالى في آخر سورة " النمل " :
إنما أمرت أن أعبد رب هذه البلدة الذي حرمها وله كل شيء وأمرت أن أكون من المسلمين وأن أتلو القرآن الآية [ 27 \ 91 ، 92 ] ،
ورتل القرآن ترتيلا [ 73 \ 4 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر بتلاوته ، وكقوله تعالى على الأمر باتباعه :
اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو وأعرض عن المشركين [ 6 \ 106 ] ، وقولـه تعالى :
فاستمسك بالذي أوحي إليك إنك على صراط مستقيم [ 43 \ 43 ] ، وقولـه تعالى :
قل ما كنت بدعا من الرسل وما أدري ما يفعل بي ولا بكم إن أتبع إلا ما يوحى إلي وما أنا إلا نذير مبين [ 46 \ 9 ] ، وقولـه تعالى :
قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي إن أتبع إلا ما يوحى إلي إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم [ 10 \ 15 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على الأمر باتباع هذا القرآن العظيم .
وقد بين في مواضع أخر بعض النتائج التي تحصل بسبب تلاوة القرآن واتباعه ، كقوله تعالى :
إن الذين يتلون كتاب الله وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور [ 35 \ 29 ] ، وقوله تعالى :
الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به ومن يكفر به فأولئك هم الخاسرون [ 2 \ 121 ] ، والعبرة في هذه الآية بعموم اللفظ لا بخصوص السبب .
قوله تعالى : لا مبدل لكلماته .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا مبدل لكلماته ; أي : لأن أخبارها صدق وأحكامها عدل ، فلا يقدر أحد أن يبدل صدقها كذبا ، ولا أن يبدل عدلها جورا ، وهذا الذي ذكره هنا جاء مبينا في مواضع أخر ، كقوله تعالى :
وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته وهو السميع العليم [ 6 \ 115 ] ، فقوله : " صدقا " يعني في الإخبار ، وقوله " عدلا " أي : في الأحكام . وكقوله :
[ ص: 262 ] ولقد كذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ولقد جاءك من نبإ المرسلين [ 6 \ 34 ] .
وقد بين تعالى في مواضع أخر ، أنه هو يبدل ما شاء من الآيات مكان ما شاء منها ، كقوله تعالى :
وإذا بدلنا آية مكان آية والله أعلم بما ينزل الآية [ 16 \ 101 ] ، وقولـه :
ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها [ 2 \ 106 ] ، وقوله تعالى :
وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا ائت بقرآن غير هذا أو بدله قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي [ 18 \ 27 ] .
قوله تعالى :
ولن تجد من دونه ملتحدا .
أصل الملتحد : مكان الالتحاد وهو الافتعال : من اللحد بمعنى الميل ، ومنه اللحد في القبر ; لأنه ميل في الحفر ، ومنه قوله تعالى :
إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا [ 41 \ 40 ] ، وقولـه :
وذروا الذين يلحدون في أسمائه الآية [ 7 \ 180 ] ، فمعنى اللحد والإلحاد في ذلك : الميل عن الحق ، والملحد المائل عن دين الحق ، وقد تقرر في فن الصرف أن الفعل إن زاد ماضيه على ثلاثة أحرف فمصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه كلها بصيغة اسم المفعول كما هنا ، فالملتحد بصيغة اسم المفعول ، والمراد به مكان الالتحاد ، أي : المكان الذي يميل فيه إلى ملجأ أو منجى ينجيه مما يريد الله أن يفعله به .
وهذا الذي ذكره هنا من أن نبيه صلى الله عليه وسلم لا يجد من دونه ملتحدا ; أي : مكانا يميل إليه ويلجأ إليه إن لم يبلغ رسالة ربه ويطعه ، جاء مبينا في مواضع أخر ; كقوله :
قل إني لا أملك لكم ضرا ولا رشدا قل إني لن يجيرني من الله أحد ولن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله ورسالاته [ 72 \ 21 - 22 ] ، وقولـه :
ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين فما منكم من أحد عنه حاجزين الآية [ 69 \ 44 - 47 ] .
وكونه ليس له ملتحد ، أي : مكان يلجأ إليه تكرر نظيره في القرآن بعبارات مختلفة ، كالمناص ، والمحيص ، والملجأ ، والموئل ، والمفر ، والوزر ، كقوله :
فنادوا ولات حين مناص [ 38 \ 3 ] ، وقولـه :
ولا يجدون عنها محيصا [ 4 \ 121 ] ، وقولـه :
فنقبوا في البلاد هل من محيص [ 50 \ 36 ] ، وقولـه :
ما لكم من ملجإ يومئذ وما لكم من نكير [ 42 \ 47 ] ، وقولـه :
بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 58 ] ،
[ ص: 263 ] وقولـه :
يقول الإنسان يومئذ أين المفر كلا لا وزر [ 75 \ 10 - 11 ] ، فكل ذلك راجع في المعنى إلى شيء واحد ، وهو انتفاء مكان يلجئون إليه ويعتصمون به .