قوله تعالى :
ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون يا ويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أن الكتاب يوضع يوم القيامة . والمراد بالكتاب : جنس الكتاب ، فيشمل جميع الصحف التي كتبت فيها أعمال المكلفين في دار الدنيا . وأن المجرمين يشفقون مما فيه . أي : يخافون منه ، وأنهم يقولون
ياويلتنا مال هذا الكتاب لا يغادر [ 18 \ 49 ] ، أي : لا يترك
صغيرة ولا كبيرة من المعاصي التي عملنا
إلا أحصاها أي : ضبطها وحصرها .
وهذا المعنى الذي دلت عليه هذه الآية الكريمة جاء موضحا في مواضع أخر . كقوله :
وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا [ 17 \ 13 - 14 ] ، وبين أن بعضهم يؤتى كتابه بيمينه . وبعضهم يؤتاه بشماله . وبعضهم يؤتاه وراء ظهره . قال :
وأما من أوتي كتابه بشماله فيقول ياليتني لم أوت كتابيه [ 69 \ 25 ] ، وقال تعالى :
فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا وينقلب إلى أهله مسرورا وأما من أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يدعو ثبورا ويصلى سعيرا [ 84 \ 3 - 12 ] وقد قدمنا هذا في سورة " بني إسرائيل " . وما ذكره من وضع الكتاب هنا ذكره في " الزمر " في قوله :
وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجيء بالنبيين والشهداء وقضي بينهم بالحق [ 39 \ 69 ] .
وقولـه في هذه الآية الكريمة :
فترى المجرمين ، تقدم معنى مثله في الكلام على
[ ص: 288 ] قوله :
وترى الشمس إذا طلعت الآية [ 18 \ 49 ] ، والمجرمون : جمع المجرم ، وهو اسم فاعل الإجرام . والإجرام : ارتكاب الجريمة ، وهي الذنب العظيم الذي يستحق صاحبه عليه النكال ، ومعنى كونهم " مشفقين مما فيه " : أنهم خائفون مما في ذلك الكتاب من كشف أعمالهم السيئة ، وفضيحتهم على رءوس الأشهاد ، وما يترتب على ذلك من العذاب السرمدي ، وقولهم ياويلتنا الويلة : الهلكة ، وقد نادوا هلكتهم التي هلكوها خاصة من بين الهلكات فقالوا : يا ويلتنا ! أي : يا هلكتنا احضري فهذا أوان حضورك ! وقال
أبو حيان في البحر : المراد من بحضرتهم : كأنهم قالوا : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا . وكذا ما جاء من نداء ما لا يعقل كقوله :
يا أسفا على يوسف [ 12 \ 84 ] ،
يا حسرتى على ما فرطت في جنب الله [ 39 \ 56 ] ،
ياويلنا من بعثنا من مرقدنا [ 36 \ 52 ] ، وقولـه : يا عجبا لهذه الفليقة ، فيا عجبا من رحلها المتحمل ، إنما يراد به تنبيه من يعقل بالتعجب مما حل بالمنادى انتهى كلام
أبي حيان . وحاصل ما ذكره : أن أداة النداء في قوله " يا ويلتنا " ينادى بها محذوف ، وأن ما بعدها مفعول فعل محذوف ، والتقدير كما ذكره : يا من بحضرتنا انظروا هلكتنا ، ومعلوم أن حذف المنادى مع إثبات أداة النداء ، ودلالة القرينة على المنادى المحذوف مسموع في كلام العرب . ومنه قول
عنترة في معلقته :
يا شاة ما قنص لمن حلت له حرمت على وليتها لم تحرم
يعني : يا قوم انظروا شاة قنص ، وقول
nindex.php?page=showalam&ids=15871ذي الرمة :
ألا يا اسلمي يا دار مي على البلا ولا زال منهلا بجرعائك القطر
يعني : يا هذه اسلمي .
وقولـه تعالى :
مال هذا الكتاب [ 18 \ 49 ] أي : أي شيء ثبت لهذا الكتاب
لا يغادر أي : لا يترك
صغيرة ولا كبيرة أي : من المعاصي ، وقول من قال : الصغيرة القبلة ، والكبيرة الزنا ، ونحو ذلك من الأقوال في الآية إنما هو على سبيل التمثيل لا على سبيل الحصر ، وللعلماء اختلاف كثير في تعريف الكبيرة معروف في الأصول . وقد صرح تعالى بأن المنهيات منها كبائر ، ويفهم من ذلك أن منها صغائر ، وبين أن اجتناب الكبائر يكفر الله به الصغائر ; وذلك في قوله :
إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم الآية [ 4 \ 31 ] ، ويروى عن
nindex.php?page=showalam&ids=14919الفضيل بن عياض في هذه الآية أنه
[ ص: 289 ] قال : ضجوا من الصغائر قبل الكبائر ، وجملة " لا يغادر " حال من " الكتاب " .
تنبيه
هذه الآية الكريمة يفهم منها أن
الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ; لأنهم وجدوا في كتاب أعمالهم صغائر ذنوبهم محصاة عليهم ، فلو كانوا غير مخاطبين بها لما سجلت عليهم في كتاب أعمالهم . والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى :
ووجدوا ما عملوا حاضرا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنهم في يوم القيامة يجدون أعمالهم التي عملوها في الدنيا حاضرة محصاة عليهم . وأوضح هذا أيضا في غير هذا الموضع ، كقوله :
يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا [ 3 \ 30 ] ، وقولـه تعالى :
هنالك تبلو كل نفس ما أسلفت الآية [ 10 \ 30 ] ، وقولـه :
ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر [ 75 \ 13 ] ، وقولـه :
يوم تبلى السرائر [ 86 \ 9 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى :
ولا يظلم ربك أحدا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أنه لا يظلم أحدا ، فلا ينقص من حسنات محسن ، ولا يزيد من سيئات مسيء ، ولا يعاقب على غير ذنب .
وأوضح هذا المعنى في مواضع أخر ، كقوله :
إن الله لا يظلم الناس شيئا ولكن الناس أنفسهم يظلمون [ 10 \ 44 ] ، وقولـه تعالى :
إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرا عظيما [ 4 \ 40 ] ، وقوله تعالى :
ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين [ 21 \ 47 ] ، وقولـه :
وما ربك بظلام للعبيد [ 41 \ 46 ] وقولـه :
وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 33 ] ، وقولـه :
وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون [ 16 \ 118 ] والآيات بمثل ذلك كثيرة .