قوله تعالى :
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا .
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة : أنه جعل على
قلوب الظالمين المعرضين عن آيات الله إذا ذكروا بها أكنة ، أي : أغطية تغطي قلوبهم فتمنعها من إدراك ما ينفعهم مما ذكروا به ، وواحد الأكنة كنان ، وهو الغطاء ، وأنه جعل في آذانهم وقرا ، أي : ثقلا يمنعها من سماع ما ينفعهم من الآيات التي ذكروا بها ، وهذا المعنى أوضحه الله تعالى في آيات أخر ، كقوله :
ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة [ 2 \ 7 ] ، وقولـه :
أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة الآية [ 45 \ 23 ] ، وقولـه تعالى :
وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده ولوا على أدبارهم نفورا [ 17 \ 45 ] ، وقولـه :
أولئك الذين لعنهم الله فأصمهم وأعمى أبصارهم [ 47 \ 23 ] ، وقولـه :
ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون [ 11 \ 20 ] ، والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا .
فإن قيل : إذا كانوا لا يستطيعون السمع ولا يبصرون ولا يفقهون ; لأن الله جعل الأكنة المانعة من الفهم على قلوبهم ، والوقر الذي هو الثقل المانع من السمع في آذانهم فهم مجبورون ، فما وجه تعذيبهم على شيء لا يستطيعون العدول عنه والانصراف إلى غيره ؟ !
فالجواب : أن الله جل وعلا بين في آيات كثيرة من كتابه العظيم : أن تلك الموانع التي يجعلها على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم ، كالختم والطبع والغشاوة والأكنة ، ونحو ذلك إنما جعلها عليهم جزاء وفاقا لما بادروا إليه من الكفر وتكذيب الرسل باختيارهم ، فأزاغ الله قلوبهم بالطبع والأكنة ونحو ذلك ، جزاء على كفرهم ، فمن الآيات الدالة على ذلك قوله تعالى :
بل طبع الله عليها بكفرهم [ 4 \ 155 ] ، أي : بسبب كفرهم ، وهو نص قرآني صريح في أن كفرهم السابق هو سبب الطبع على قلوبهم ، وقوله :
فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [ 61 \ 5 ] .
[ ص: 312 ] وهو دليل أيضا واضح على أن
سبب إزاغة الله قلوبهم هو زيغهم السابق ، وقوله :
ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم [ 63 \ 3 ] ، وقولـه تعالى :
في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا الآية [ 2 \ 10 ] ، وقولـه :
ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة ونذرهم في طغيانهم يعمهون [ 6 \ 110 ] ، وقولـه تعالى :
كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون [ 83 \ 14 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الطبع على القلوب ومنعها من فهم ما ينفع عقاب من الله على الكفر السابق على ذلك .
وهذا الذي ذكرنا هو وجه رد شبهة
الجبرية التي يتمسكون بها في هذه الآيات المذكورة وأمثالها في القرآن العظيم ، وبهذا الذي قررنا يحصل الجواب أيضا عن سؤال يظهر لطالب العلم فيما قررنا : وهو أن يقول : قد بينتم في الكلام على الآية التي قبل هذه أن
جعل الأكنة على القلوب من نتائج الإعراض عن آيات الله عند التذكير بها ، مع أن ظاهر الآية يدل عكس ذلك من أن الإعراض المذكور سببه هو جعل الأكنة على القلوب ; لأن " إن " من حروف التعليل كما تقرر في الأصول في مسلك الإيماء والتنبيه ، كقولك : اقطعه إنه سارق ، وعاقبه إنه ظالم ، فالمعنى : اقطعه لعلة سرقته ، وعاقبه لعلة ظلمه ، وكذلك قوله تعالى :
فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة [ 18 \ 57 ] ، أي : أعرض عنها لعلة جعل الأكنة على قلوبهم ; لأن الآيات الماضية دلت على أن الطبع الذي يعبر عنه تارة بالطبع ، وتارة بالختم ، وتارة بالأكنة ، ونحو ذلك سببه الأول الإعراض عن آيات الله والكفر بها كما تقدم إيضاحه .
وفي هذه الآية الكريمة سؤالان معروفان ، الأول : أن يقال : ما مفسر الضمير في قوله :
أن يفقهوه ، وقد قدمنا أنه الآيات في قوله :
ذكر بآيات ربه [ 18 \ 57 ] ، بتضمين الآيات معنى القرآن ، فقوله :
أن يفقهوه ، أي : القرآن المعبر عنه بالآيات كما تقدم إيضاحه قريبا .
السؤال الثاني أن يقال : ما
وجه إفراد الضمير في قوله : ذكر ، وقولـه :
أعرض عنها ، وقولـه :
ونسي ما قدمت يداه ، مع الإتيان بصيغة الجمع في الضمير في قوله :
إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا ، مع أن مفسر جميع الضمائر المذكورة واحد ، وهو الاسم الموصول في قوله :
ممن ذكر بآيات ربه الآية .
[ ص: 213 ] والجواب : هو أن الإفراد باعتبار لفظ " من " ، والجمع باعتبار معناها ، وهو كثير في القرآن العظيم ، والتحقيق في مثل ذلك جواز مراعاة اللفظ تارة ، ومراعاة المعنى تارة أخرى مطلقا ، خلافا لمن زعم أن مراعاة اللفظ بعد مراعاة المعنى لا تصح ، والدليل على صحة قوله تعالى :
ومن يؤمن بالله ويعمل صالحا يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا قد أحسن الله له رزقا [ 65 \ 11 ] ، فإنه في هذه الآية الكريمة راعى لفظ " من " أولا فأفرد الضمير في قوله : يؤمن ، وقولـه " ويعمل " ، وقولـه " يدخله " وراعى المعنى في قوله : خالدين فأتى فيه بصيغة الجمع ، ثم راعى اللفظ بعد ذلك في قوله :
قد أحسن الله له رزقا . وقوله :
أن يفقهوه ، فيه وفي كل ما يشابهه من الألفاظ وجهان معروفان لعلماء التفسير : أحدهما أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة لئلا يفقهوه ، وعليه فلا النافية محذوفة دل المقام عليها ، وعلى هذا القول هنا اقتصر
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري ، والثاني : أن المعنى جعلنا على قلوبهم أكنة كراهة أن يفقهوه ، وعلى هذا فالكلام على تقدير مضاف ، وأمثال هذه الآية في القرآن كثيرة ، وللعلماء في كلها الوجهان المذكوران كقوله تعالى :
يبين الله لكم أن تضلوا [ 4 \ 176 ] ، أي : لئلا تضلوا ، أو كراهة أن تضلوا ، وقولـه :
إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة [ 49 \ 6 ] ، أي : لئلا تصيبوا ، أو كراهة أن تصيبوا ، وأمثال ذلك كثيرة في القرآن العظيم .
وقولـه تعالى :
أن يفقهوه ، أي : يفهموه ، فالفقه : الفهم ، ومنه قوله تعالى :
فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثا [ 4 \ 78 ] ، أي : يفهمونه ، وقولـه تعالى :
قالوا ياشعيب ما نفقه كثيرا مما تقول [ 11 \ 91 ] ، أي : ما نفهمه ، والوقر : الثقل ، وقال الجوهري في صحاحه : الوقر بالفتح ، الثقل في الأذن ، والوقر بالكسر : الحمل ، يقال جاء يحمل وقره ، وأوقر بعيره وأكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار ا هـ ، وهذا الذي ذكره الجوهري وغيره جاء به القرآن ، قال في ثقل الأذن :
وفي آذانهم وقرا [ 6 \ 25 ] ، وقال في الحمل :
فالحاملات وقرا [ 51 \ 2 ] .