قوله تعالى : بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلا .
بين جل وعلا في هذه الآية الكريمة ، أنه وإن لم يعجل لهم العذاب في الحال فليس غافلا عنهم ولا تاركا
[ ص: 317 ] عذابهم ، بل هو تعالى جاعل لهم موعدا يعذبهم فيه ، لا يتأخر العذاب عنه ولا يتقدم .
وبين هذا في مواضع أخر ، كقوله في " النحل " :
ولو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 16 \ 61 ] ، وقولـه في آخر سورة " فاطر " :
ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة ولكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم فإن الله كان بعباده بصيرا [ 35 \ 45 ] ، وكقوله :
ولا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار [ 14 \ 42 ] ، وكقوله :
ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب [ 29 \ 53 ] .
وقد دلت آيات كثيرة على أن
الله لا يؤخر شيئا عن وقته الذي عين له ولا يقدمه عليه ، كقوله :
ولن يؤخر الله نفسا إذا جاء أجلها [ 63 \ 11 ] ، وقولـه :
فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34 ] ، وقولـه تعالى :
إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر الآية [ 71 \ 4 ] ، وقولـه :
لكل أجل كتاب [ 13 \ 38 ] ، وقولـه :
لكل نبإ مستقر [ 6 \ 67 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وقولـه في هذه الآية الكريمة :
لن يجدوا من دونه موئلا [ 18 \ 57 ] ، أي : ملجأ يلجئون إليه فيعتصمون به من ذلك العذاب المجعول له الموعد المذكور ، وهو اسم مكان ، من وأل يئل وألا ووءولا بمعنى لجأ ، ومعلوم في فن الصرف أن واوي الفاء من الثلاثي ينقاس مصدره الميمي واسم مكانه وزمانه على المفعل بكسر العين كما هنا ، ما لم يكن معتل اللام فالقياس فيه الفتح كالمولى ، والعرب تقول : لا وألت نفسه ، أي : لا وجدت منجى تنجو به ، ومنه قول الشاعر :
لا وألت نفسك خليتها للعامريين ولم تكلم
وقال
الأعشى :
وقد أخالس رب البيت غفلته وقد يحاذر مني ثم ما يئل
أي ما ينجو .
وأقوال المفسرين في " الموئل " راجعة إلى ما ذكرنا ، كقول بعضهم : موئلا محيصا ، وقول بعضهم منجى ، وقول بعضهم محرزا ، إلى غير ذلك ، فكله بمعنى ما ذكرنا .
[ ص: 318 ] وقولـه تعالى :
وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا ، بين في هذه الآية الكريمة : أن القرى الماضية لما ظلمت بتكذيب الرسل والعناد واللجاج في الكفر والمعاصي أهلكهم الله بذنوبهم .
وهذا الإجمال في تعيين هذه القرى وأسباب هلاكها ، وأنواع الهلاك التي وقعت بها جاء مفصلا في آيات أخر كثيرة ، كما جاء في القرآن من قصة
قوم نوح ،
وقوم هود ،
وقوم صالح ،
وقوم شعيب ،
وقوم موسى ، كما تقدم بعض تفاصيله ، والقرى : جمع قرية على غير قياس ; لأن جمع التكسير على " فعل " بضم ففتح لا ينقاس إلا في جمع " فعلة " بالضم اسما كغرفة وقربة ، أو " فعلى " إذا كانت أنثى الأفعل خاصة ، كالكبرى والكبر ، كما أشار لذلك في الخلاصة بقوله :
وفعل جمعا لفعلة عرف ونحو كبرى . . . إلخ أي : وأما في غير ذلك فسماع يحفظ ولا يقاس عليه ، وزاد في التسهيل نوعا ثالثا ينقاس فيه " فعل " بضم ففتح ، وهو الفعلة بضمتين إن كان اسما كجمعة وجمع ، واسم الإشارة في قوله :
وتلك القرى [ 18 \ 59 ] ، إنما أشير به لهم لأنهم يمرون عليها في أسفارهم ، كقوله :
وإنكم لتمرون عليهم مصبحين وبالليل أفلا تعقلون [ 37 \ 137 - 138 ] ، وقولـه :
وإنها لبسبيل مقيم [ 15 \ 76 ] ، وقولـه :
وإنهما لبإمام مبين [ 15 \ 79 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وقولـه " وتلك " مبتدأ و " القرى " صفة له ، أو عطف بيان ، وقولـه : " أهلكناهم " هو الخبر ، ويجوز أن يكون الخبر هو " القرى " وجملة " أهلكناهم " في محل حال ، كقوله :
فتلك بيوتهم خاوية بما ظلموا [ 27 \ 52 ] ، ويجوز أن يكون قوله : " وتلك " في محل نصب بفعل محذوف يفسره العامل المشتغل بالضمير ، على حد قوله في الخلاصة :
إن مضمر اسم سابق فعلا شغل عنه بنصب لفظه أو المحل
فالسابق انصبه بفعل أضمرا حتما موافق لما قد أظهرا
وقولـه في هذه الآية الكريمة :
لمهلكهم موعدا [ 18 \ 59 ] ، قرأه عامة السبعة ما عدا
عاصما بضم الميم وفتح اللام على صيغة اسم المفعول ، وهو محتمل على هذه القراءة أن يكون مصدرا ميميا ، أي : جعلنا لإهلاكهم موعدا ، وأن يكون اسم زمان ، أي :
[ ص: 319 ] وجعلنا لوقت إهلاكهم موعدا ، وقد تقرر في فن الصرف أن كل فعل زاد ماضيه على ثلاثة أحرف مطلقا فالقياس في مصدره الميمي واسم مكانه واسم زمانه أن يكون الجميع بصيغة اسم المفعول ، والمهلك بضم الميم من أهلكه الرباعي ، وقرأه
حفص عن
عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم وكسر اللام ، وقرأه
شعبة عن
عاصم " لمهلكهم " بفتح الميم واللام معا ، والظاهر أنه على قراءة
حفص اسم زمان ، أي : وجعلنا لوقت هلاكهم موعدا ; لأنه من هلك يهلك بالكسر ، وما كان ماضيه على " فعل " بالفتح ومضارعه " يفعل " بالكسر كهلك يهلك ، وضرب يضرب ، ونزل ينزل فالقياس في اسم مكانه وزمانه " المفعل " بالكسر ، وفي مصدره الميمي المفعل بالفتح ، تقول هذا منزله بالكسر أي : مكان نزوله أو وقت نزوله ، وهذا " منزله " بفتح الزاي ، أي : نزوله ، وهكذا ، منه قول الشاعر :
أإن ذكرتك الدار منزلها جمل بكيت فدمع العين منحدر سجل
فقوله : " منزلها جمل " بالفتح ، أي : نزول جمل إياها وبه تعلم أنه على قراءة شعبة " لمهلكهم " بفتح الميم واللام أنه مصدر ميمي ، أي : وجعلنا لهلاكهم موعدا ، والموعد : الوقت المحدد لوقوع ذلك فيه .