قوله تعالى : فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ، هذا العبد المذكور في هذه الآية الكريمة هو
الخضر عليه السلام بإجماع العلماء ، ودلالة النصوص الصحيحة على ذلك من كلام النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذه الرحمة والعلم اللدني اللذان ذكر الله امتنانه عليه بهما لم يبين هنا هل هما رحمة النبوة وعلمها ، أو رحمة الولاية وعلمها ، والعلماء مختلفون في
الخضر : هل هو نبي ، أو رسول ، أو ولي ، كما قال الراجز :
واختلفت في خضر أهل العقول قيل نبي أو ولي أو رسول
وقيل ملك ، ولكنه يفهم من بعض الآيات أن هذه الرحمة المذكورة هنا رحمة نبوة ، وأن هذا العلم اللدني علم وحي ، مع العلم بأن في الاستدلال بها على ذلك مناقشات معروفة عند العلماء .
اعلم أولا أن الرحمة تكرر إطلاقها على النبوة في القرآن ، وكذلك العلم المؤتى
[ ص: 323 ] من الله تكرر إطلاقه فيه على علم الوحي ، فمن إطلاق الرحمة على النبوة قوله تعالى في " الزخرف " :
وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم أهم يقسمون رحمة ربك الآية [ 43 \ 31 ] ، أي : نبوته حتى يتحكموا في إنزال القرآن على رجل عظيم من القريتين ، وقولـه تعالى في سورة " الدخان " :
فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك الآية [ 44 \ 4 - 5 ] ، وقولـه تعالى في آخر " القصص " :
وما كنت ترجو أن يلقى إليك الكتاب إلا رحمة من ربك الآية [ 28 \ 86 ] ، ومن إطلاق إيتاء العلم على النبوة قوله تعالى :
وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما [ 4 \ 113 ] ، وقوله :
وإنه لذو علم لما علمناه الآية [ 12 \ 68 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
ومعلوم أن الرحمة وإيتاء العلم اللدني أعم من كون ذلك عن طريق النبوة وغيرها ، والاستدلال بالأعم على الأخص فيه أن وجود الأعم لا يستلزم وجود الأخص كما هو معروف ، ومن أظهر الأدلة في أن
الرحمة والعلم اللدني اللذين امتن الله بهما على عبده الخضر عن طريق النبوة والوحي قوله تعالى عنه :
وما فعلته عن أمري [ 18 \ 82 ] ، أي : وإنما فعلته عن أمر الله جل وعلا ، وأمر الله إنما يتحقق عن طريق الوحي ، إذ لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه إلا الوحي من الله جل وعلا ، ولا سيما قتل الأنفس البريئة في ظاهر الأمر ، وتعييب سفن الناس بخرقها ; لأن العدوان على أنفس الناس وأموالهم لا يصح إلا عن طريق الوحي من الله تعالى ، وقد حصر تعالى طرق الإنذار في الوحي في قوله تعالى :
قل إنما أنذركم بالوحي [ 21 \ 45 ] ، و " إنما " صيغة حصر ، فإن قيل : قد يكون ذلك عن طريق الإلهام ؟ فالجواب أن المقرر في الأصول أن
الإلهام من الأولياء لا يجوز الاستدلال به على شيء ، لعدم العصمة ، وعدم الدليل على الاستدلال به ، بل لوجود الدليل على عدم جواز الاستدلال به ، وما يزعمه بعض
المتصوفة من جواز العمل بالإلهام في حق الملهم دون غيره ، وما يزعمه بعض
الجبرية أيضا من الاحتجاج بالإلهام في حق الملهم وغيره جاعلين الإلهام كالوحي المسموع مستدلين بظاهر قوله تعالى :
فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام [ 6 \ 125 ] ، وبخبر "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008116اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله " كله باطل لا يعول عليه ، لعدم اعتضاده بدليل ، وغير المعصوم لا ثقة بخواطره ; لأنه لا يأمن دسيسة الشيطان ، وقد ضمنت الهداية في اتباع الشرع ، ولم تضمن في اتباع الخواطر والإلهامات ، والإلهام في الاصطلاح : إيقاع شيء
[ ص: 324 ] في القلب يثلج له الصدر من غير استدلال بوحي ولا نظر في حجة عقلية ، يختص الله به من يشاء من خلقه ، أما ما يلهمه الأنبياء مما يلقيه الله في قلوبهم فليس كإلهام غيرهم ، لأنهم معصومون بخلاف غيرهم ، قال في مراقي السعود في كتاب الاستدلال :
وينبذ الإلهام بالعراء أعني به إلهام الأولياء وقد رآه بعض من تصوفا وعصمة النبي توجب اقتفا وبالجملة ، فلا يخفى على من له إلمام بمعرفة دين الإسلام أنه لا طريق تعرف بها أوامر الله ونواهيه ، وما يتقرب إليه به من فعل وترك إلا عن طريق الوحي ،
فمن ادعى أنه غني في الوصول إلى ما يرضي ربه عن الرسل ، وما جاءوا به ولو في مسألة واحدة فلا شك في زندقته ، والآيات والأحاديث الدالة على هذا لا تحصى ، قال تعالى :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، ولم يقل حتى نلقي في القلوب إلهاما ، وقال تعالى :
رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل [ 4 \ 165 ] ، وقال :
ولو أنا أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا ربنا لولا أرسلت إلينا رسولا فنتبع آياتك الآية [ 20 \ 134 ] ، والآيات والأحاديث بمثل هذا كثيرة جدا ، وقد بينا طرفا من ذلك في سورة " بني إسرائيل " في الكلام على قوله :
وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ 17 \ 15 ] ، وبذلك تعلم أن ما يدعيه كثير من
الجهلة المدعين التصوف من أن لهم ولأشياخهم طريقا باطنة توافق الحق عند الله ولو كانت مخالفة لظاهر الشرع ، كمخالفة ما فعله
الخضر لظاهر العلم الذي عند
موسى ، زندقة ، وذريعة إلى الانحلال بالكلية من دين الإسلام ، بدعوى أن الحق في أمور باطنة تخالف ظاهره .
قال
القرطبي رحمه الله في تفسيره ما نصه : قال شيخنا
الإمام أبو العباس : ذهب قوم من زنادقة
الباطنية إلى سلوك طريق لا تلزم منه هذه الأحكام الشرعية فقالوا : هذه الأحكام الشرعية العامة إنما يحكم بها على الأنبياء والعامة ، وأما الأولياء وأهل الخصوص فلا يحتاجون إلى تلك النصوص ، بل إنما يراد منهم ما يقع في قلوبهم ، ويحكم عليهم بما يغلب عليهم من خواطرهم ، وقالوا : وذلك لصفاء قلوبهم عن الأكدار ، وخلوها عن الأغيار ، فتتجلى لهم العلوم الإلهية ، والحقائق الربانية ، فيقفون على أسرار الكائنات ، ويعلمون أحكام الجزئيات ، فيستغنون بها عن أحكام الشرائع الكليات ، كما اتفق
للخضر فإنه استغنى بما تجلى له من العلوم عما كان عند
موسى من تلك الفهوم ، وقد جاء فيما
[ ص: 325 ] ينقلون " استفت قلبك وإن أفتاك المفتون " ، قال شيخنا رضي الله عنه : وهذا القول زندقة وكفر ، يقتل قائله ولا يستتاب ; لأنه إنكار ما علم من الشرائع ، فإن الله تعالى قد أجرى سنته ، وأنفذ حكمته بأن أحكامه لا تعلم إلا بواسطة رسله
السفراء بينه وبين خلقه ، وهم المبلغون عنه رسالته وكلامه ، المبينون شرائعه وأحكامه ، اختارهم لذلك وخصهم بما هنالك ، كما قال تعالى :
الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس إن الله سميع بصير [ 22 \ 75 ] ، وقال تعالى :
الله أعلم حيث يجعل رسالته [ 6 \ 124 ] ، وقال تعالى :
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين [ 2 \ 213 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
وعلى الجملة ، فقد حصل العلم القطعي واليقين الضروري ، واجتماع السلف والخلف على أن
لا طريق لمعرفة أحكام الله تعالى التي هي راجعة إلى أمره ونهيه ، ولا يعرف شيء منها إلا من جهة الرسل ، فمن قال إن هناك طريقا أخرى يعرف بها أمره ونهيه غير الرسل حيث يستغني عن الرسل فهو كافر يقتل ولا يستتاب ، ولا يحتاج معه إلى سؤال وجواب ، ثم هو قول بإثبات أنبياء بعد نبينا صلى الله عليه وسلم ، الذي قد جعله الله خاتم أنبيائه ورسله ، فلا نبي بعده ولا رسول .
وبيان ذلك أن من قال : يأخذ عن قلبه ، وأن ما يقع فيه حكم الله تعالى ، وأنه يعمل بمقتضاه ، وأنه ولا يحتاج مع ذلك إلى كتاب ولا سنة فقد أثبت لنفسه خاصة النبوة ، فإن هذا نحو ما قاله صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008117إن روح القدس نفث في روعي . " الحديث ، انتهى من تفسير
القرطبي .
وما ذكره في كلام شيخه المذكور من أن
الزنديق لا يستتاب هو مذهب
مالك ومن وافقه ، وقد بينا أقوال العلماء في ذلك وأدلتهم ، وما يرجحه الدليل في كتابنا ) دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب ( في سورة " آل عمران " ، وما يستدل به بعض الجهلة ممن يدعي التصوف على اعتبار الإلهام من ظواهر بعض النصوص كحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008118استفت قلبك وإن أفتاك الناس وأفتوك " لا دليل فيه البتة على اعتبار الإلهام : لأنه لم يقل أحد ممن يعتد به أن المفتي الذي تتلقى الأحكام الشرعية من قبله القلب ، بل من الحديث : التحذير من الشبه ; لأن الحرام بين والحلال بين ، وبينهما أمور مشتبهة لا يعلمها كل الناس .
فقد يفتيك المفتي بحلية شيء وأنت تعلم من طريق أخرى أنه يحتمل أن يكون حراما ، وذلك باستناد إلى الشرع ، فإن
قلب المؤمن لا يطمئن لما فيه الشبهة ، والحديث ، كقوله "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1007221دع ما [ ص: 326 ] يريبك إلى ما لا يريبك " وقولـه صلى الله عليه وسلم : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008119البر حسن الخلق ، والإثم ما حاك في نفسك وكرهت أن يطلع عليه الناس " رواه
مسلم من حديث
النواس بن سمعان رضي الله عنه ،
nindex.php?page=hadith&LINKID=1008120وحديث وابصة بن معبد رضي الله عنه المشار إليه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " جئت تسأل عن البر " ؟ قلت نعم : قال : " استفت قلبك ، البر ما اطمأنت إليه النفس واطمأن إليه القلب ، والإثم ما حاك في النفس وتردد في الصدر وإن أفتاك الناس وأفتوك " قال
النووي في ) رياض الصالحين ( : حديث
حسن ، رواه
أحمد nindex.php?page=showalam&ids=14272والدارمي في مسنديهما ، ولا شك أن المراد بهذا الحديث ونحوه الحث على الورع وترك الشبهات ، فلو التبست مثلا ميتة بمذكاة ، أو امرأة محرم بأجنبية ، وأفتاك بعض المفتين بحلية إحداهما لاحتمال أن تكون هي المذكاة في الأول ، والأجنبية في الثاني ، فإنك إذا استفتيت قلبك علمت أنه يحتمل أن تكون هي الميتة أو الأخت ، وأن ترك الحرام والاستبراء للدين والعرض لا يتحقق إلا بتجنب الجميع ; لأن ما لا يتم ترك الحرام إلا بتركه فتركه واجب ، فهذا يحيك في النفس ولا تنشرح له ، لاحتمال الوقوع في الحرام فيه كما ترى ، وكل ذلك مستند لنصوص الشرع لا للإلهام .
ومما يدل على ما ذكرنا من كلام أهل الصوفية المشهود لهم بالخير والدين والصلاح قول الشيخ
nindex.php?page=showalam&ids=14020أبي القاسم الجنيد بن محمد بن الجنيد الخزاز القواريري رحمه الله : ( مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ) ، نقله عنه غير واحد ممن ترجمه رحمه الله ،
كابن كثير وابن خلكان وغيرهما ، ولا شك أن كلامه المذكور هو الحق ، فلا أمر ولا نهي إلا على ألسنة الرسل عليهم الصلاة والسلام ، وبهذا كله تعلم أن
قتل الخضر للغلام ، وخرقه للسفينة ، وقوله : وما فعلته عن أمري ، دليل ظاهر على نبوته . وعزا
nindex.php?page=showalam&ids=16785الفخر الرازي في تفسيره القول بنبوته للأكثرين ، ومما يستأنس به للقول بنبوته تواضع
موسى عليه الصلاة والسلام له في قوله :
قال له موسى هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدا [ 18 \ 66 ] ، وقولـه :
قال ستجدني إن شاء الله صابرا ولا أعصي لك أمرا [ 18 \ 69 ] ، مع قول
الخضر له
وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا ، [ 18 \ 68 ] .