قوله تعالى :
يايحيى خذ الكتاب بقوة وآتيناه الحكم صبيا وحنانا من لدنا وزكاة وكان تقيا وبرا بوالديه ولم يكن جبارا عصيا وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا .
[ ص: 378 ] اعلم أولا : أنا قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن من أنواع البيان التي تضمنها أن يذكر شيئا مع بعض صفاته وله صفات أخر مذكورة في موضع آخر ، فإنا نبينها ، وقد مر فيه أمثلة كثيرة من ذلك ، وأكثرها في الموصوفات من أسماء الأجناس لا الأعلام ، وربما ذكرنا ذلك في صفات الأعلام كما هنا فإذا علمت ذلك فاعلم أنه تعالى ذكر في هذه الآية الكريمة
بعض صفات يحيى ، وقد ذكر شيئا من صفاته أيضا في غير هذا الموضع ، وسنبين إن شاء الله المراد بالمذكور منها هنا ، والمذكور في غير هذا الموضع .
اعلم أنه هنا وصفه بأنه قال له :
يايحيى خذ الكتاب بقوة [ 19 \ 12 ] ، ووصفه بقوله :
وآتيناه الحكم إلى قوله :
ويوم يبعث حيا ، فقوله :
يايحيى خذ الكتاب مقول قول محذوف ، أي : وقلنا له
يايحيى خذ الكتاب بقوة ، والكتاب : التوراة ، أي : خذ التوراة بقوة ، أي : بجد واجتهاد ، وذلك بتفهم المعنى أولا حتى يفهمه على الوجه الصحيح ، ثم يعمل به من جميع الجهات ، فيعتقد عقائده ، ويحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويتأدب بآدابه ، ويتعظ بمواعظه ، إلى غير ذلك من جهات العمل به ، وعامة المفسرين على أن المراد بالكتاب هنا : التوراة ، وحكى غير واحد عليه الإجماع ، وقيل : هو كتاب أنزل على
يحيى ، وقيل : هو اسم جنس يشمل الكتب المقدمة ، وقيل : هو صحف
إبراهيم ، والأظهر قول الجمهور : إنه التوراة كما قدمنا .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة :
وآتيناه الحكم ، أي : أعطيناه الحكم ، وللعلماء في المراد بالحكم أقوال متقاربة ، مرجعها إلى شيء واحد ، وهو أن الله أعطاه الفهم في الكتاب ، أي : إدراك ما فيه والعمل به في حال كونه صبيا ، قال
ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية :
وآتيناه الحكم صبيا ، أي : الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكباب عليه ، والاجتهاد فيه وهو صغير حدث ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك قال
معمر : قال الصبيان
ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقنا فلهذا أنزل الله
وآتيناه الحكم صبيا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري رحمه الله في تفسير هذه الآية الكريمة :
وآتيناه الحكم صبيا ، يقول تعالى ذكره : وأعطيناه الفهم بكتاب الله في حال صباه قبل بلوغه أسنان الرجال ، وقد حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=12289أحمد بن منيع قال حدثنا
nindex.php?page=showalam&ids=16418عبد الله بن المبارك قال : أخبرني
معمر ولم يذكره عن أحد في هذه الآية :
وآتيناه الحكم صبيا ، قال بلغني أن الصبيان قالوا
ليحيى : اذهب بنا نلعب ، فقال :
[ ص: 379 ] ما للعب خلقنا ، فأنزل الله
وآتيناه الحكم صبيا ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري في الكشاف :
وآتيناه الحكم ، أي : الحكمة ، ومنه قول
نابغة ذبيان :
واحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت إلى حمام سراع وارد الثمد
وقال
أبو حيان في البحر في تفسير هذه الآية : والحكم النبوة ، أو حكم الكتاب ، أو الحكمة ، أو العلم بالأحكام ، أو اللب وهو العقل ، أو آداب الخدمة ، أو الفراسة الصادقة ، أقوال .
قال مقيده عفا الله عنه وغفر له : الذي يظهر لي هو أن الحكم يعلم النافع والعمل به ، وذلك بفهم الكتاب السماوي فهما صحيحا ، والعمل به حقا ، فإن هذا يشمل جميع أقوال العلماء في الآية الكريمة ، وأصل معنى " الحكم " المنع ، والعلم النافع ، والعمل به يمنع الأقوال والأفعال من الخلل والفساد والنقصان .
وقولـه تعالى :
صبيا ، أي : لم يبلغ ، وهو الظاهر ، وقيل : صبيا ، أي : شابا لم يبلغ سن الكهولة ذكره
أبو حيان وغيره ، والظاهر الأول ، قيل ابن ثلاث سنين ، وقيل ابن سبع ، وقيل ابن سنتين ، والله أعلم .
وقولـه في هذه الآية الكريمة وحنانا ، معطوف على الحكم ، أي : وآتيناه حنانا من لدنا ، والحنان : هو ما جبل عليه من الرحمة ، والعطف والشفقة ، وإطلاق الحنان على الرحمة والعطف مشهور في كلام العرب ، ومنه قولهم : حنانك وحنانيك يا رب ، بمعنى رحمتك ، ومن هذا المعنى قول
امرئ القيس :
أبنت الحارث الملك بن عمرو له ملك العراق إلى عمان
ويمنحها بنو شمجى بن جرم معيزهم حنانك ذا الحنان
يعني : رحمتك يا رحمن ، وقول
طرفة بن العبد :
أبا منذر أفنيت فاستبق بعضنا حنانيك بعض الشر أهون من بعض
وقول
منذر بن درهم الكلبي :
وأحدث عهد من أمينة نظرة على جانب العلياء إذ أنا واقف
فقالت حنان ما أتى بك هاهنا أذو نسب أم أنت بالحي
عارف فقوله " حنان " أي : أمري حنان ، أي رحمة لك ، وعطف وشفقة عليك
[ ص: 380 ] وقول
الحطيئة أو غيره :
تحنن علي هداك المليك فإن لكل مقام مقالا وقولـه تعالى :
من لدنا ، أي : من عندنا ، وأصح التفسيرات في قوله " وزكاة " أنه معطوف على ما قبله ، أي : أو أعطيناه زكاة ، أي : طهارة من أدران الذنوب والمعاصي بالطاعة ، والتقرب إلى الله بما يرضيه : وقد قدمنا في سورة " الكهف " الآيات الدالة على إطلاق الزكاة في القرآن بمعنى الطهارة ، فأغنى ذلك عن إعادته هنا .
وقال
أبو عبد الله القرطبي رحمه الله في تفسير هذه الآية " وزكاة " الزكاة : التطهير والبركة والتنمية في وجوه الخير ، أي : جعلناه مباركا للناس يهديهم ، وقيل المعنى : زكيناه بحسن الثناء عليه كما يزكي الشهود إنسانا ، وقيل " زكاة " صدقة على أبويه ، قاله
ابن قتيبة انتهى كلام
القرطبي ، وهو خلاف التحقيق في معنى الآية ، والتحقيق فيه إن شاء الله هو ما ذكرنا ، من أن المعنى : وأعطيناه زكاة ، أي : طهارة من الذنوب والمعاصي بتوفيقنا إياه للعمل بما يرضي الله تعالى ، وقول من قال من العلماء : بأن المراد بالزكاة في الآية العمل الصالح ، راجع إلى ما ذكرنا ; لأن العمل الصالح هو الذي به الطهارة من الذنوب والمعاصي .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة :
وكان تقيا ، أي : ممتثلا لأوامر ربه مجتنبا كل ما نهى عنه ، ولذا لم يعمل خطيئة قط ، ولم يلم بها ، قاله
القرطبي وغيره عن
قتادة وغيره ، وفي نحو ذلك أحاديث مرفوعة ، والظاهر أنه لم يثبت شيء من ذلك مرفوعا ، إما بانقطاع ، وإما بعنعنة مدلس : وإما بضعف واو ، كما أشار له
ابن كثير وغيره ، وقد قدمنا معنى " التقوى " مرارا وأصل مادتها في اللغة العربية .
وقولـه تعالى :
وبرا بوالديه [ 19 \ 14 ] ، البر بالفتح هو فاعل البر بالكسر كثيرا أي : وجعلناه كثير البر بوالديه ، أي : محسنا إليهما ، لطيفا بهما ، لين الجانب لهما ، وقولـه " وبرا " معطوف على قوله " تقيا " ، وقوله :
ولم يكن جبارا عصيا ، أي : لم يكن مستكبرا عن طاعة ربه وطاعة والديه ، ولكنه كان مطيعا لله ، متواضعا لوالديه ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير ، والجبار : هو كثير الجبر ، أي : القهر للناس ، والظلم لهم ، وكل متكبر على الناس يظلمهم : فهو جبار ، وقد أطلق في القرآن على شديد البطش في قوله تعالى :
وإذا بطشتم بطشتم جبارين [ 26 \ 130 ] ، وعلى من يتكرر منه القتل في
[ ص: 381 ] قوله :
أتريد أن تقتلني كما قتلت نفسا بالأمس إن تريد إلا أن تكون جبارا في الأرض الآية [ 28 \ 19 ] ، والظاهر أن قوله : " عصيا " فعول قلبت فيه الواو ياء وأدغمت في الياء على القاعدة التصريفية المشهورة : التي عقدها
ابن مالك في الخلاصة بقوله :
إن يسكن السابق من واو ويا واتصلا ومن عروض عريا
فياء الواو اقلبن مدغما وشذ معطى غير ما قد رسما
فأصل " عصيا " على هذا " عصويا " كصبور ، أي : كثير العصيان ، ويحتمل أن يكون أصله فعيلا وهي من صيغ المبالغة أيضا ، قاله
أبو حيان في البحر .
وقولـه تعالى في هذه الآية الكريمة :
وسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا [ 19 \ 15 ] ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير : وسلام عليه ، أي : أمان له ، وقال
ابن عطية : والأظهر عندي أنها التحية المتعارفة ، فهي أشرف من الأمان ; لأن الأمان متحصل له بنفي العصيان عنه وهو أقل درجاته ، وإنما الشرف في أن سلم الله عليه وحياه في المواطن التي الإنسان فيها في غاية الضعف والحاجة ، وقلة الحيلة والفقر إلى الله تعالى عظيم الحول .
انتهى كلام
ابن عطية بواسطة نقل
القرطبي في تفسير هذه الآية ، ومرجع القولين إلى شيء واحد ; لأن معنى سلام ، التحية ، الأمان ، والسلامة مما يكره ، وقول من قال : هو الأمان ، يعني أن ذلك الأمان من الله ، والتحية من الله معناها الأمان والسلامة مما يكره ، والظاهر المتبادر أن قوله :
وسلام عليه يوم ولد ، تحية من الله
ليحيى ومعناها الأمان والسلامة ، وقولـه :
وسلام عليه مبتدأ ، وسوغ الابتداء به وهو نكرة أنه في معنى الدعاء ، وإنما خص هذه الأوقات الثلاثة بالسلام التي هي وقت ولادته ، ووقت موته ، ووقت بعثه ، في قوله :
يوم ولد ويوم يموت الآية ; لأنها أوحش من غيرها ، قال
nindex.php?page=showalam&ids=16008سفيان بن عيينة : أوحش ما يكون المرء في ثلاثة مواطن : يوم يولد فيرى نفسه خارجا مما كان فيه ويوم يموت فيرى قوما لم يكن عاينهم ، ويوم يبعث فيرى نفسه في محشر عظيم ، قال : فأكرم الله فيها
يحيى بن زكريا فخصه بالسلام عليه فيها ، رواه عنه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير وغيره ، وذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير الطبري في تفسير هذه الآية بإسناده عن
الحسن رحمه الله قال : إن
عيسى ويحيى التقيا فقال له
عيسى : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال الآخر : استغفر لي ، أنت خير مني ، فقال
عيسى : أنت خير مني ، سلمت على نفسي وسلم الله عليك ، وقد نقل
القرطبي هذا الكلام الذي رواه
nindex.php?page=showalam&ids=16935ابن جرير عن
nindex.php?page=showalam&ids=14102الحسن البصري رحمه الله تعالى ، ثم قال : انتزع بعض العلماء من هذه الآية في التسليم
فضل عيسى بأن قال إدلاله
[ ص: 382 ] في التسليم على نفسه ومكانته من الله تعالى التي اقتضت ذلك حين قرر وحكي في محكم التنزيل أعظم في المنزلة من أن يسلم عليه ، قال
ابن عطية : ولكل وجه ، انتهى كلام
القرطبي ، والظاهر أن سلام الله على
يحيى في قوله :
وسلام عليه يوم ولد الآية [ 19 \ 15 ] ، أعظم من سلام
عيسى على نفسه في قوله :
والسلام علي يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيا [ 19 \ 33 ] ، كما هو ظاهر .